التمرد على الأب
لم يكن لشاعر بمقدرة نزار قبّاني وعبقريته أن يكون شعره معطى معتاداً أو كلاسيكياً، وما ذلك إلا لكونه أراد أن يحلِّق حرّاً في ميادين الجمال وغاباته الطليقة لا تحدّه حدود منظومة أبوية أو قيود مؤسّسة عتيدة أو حاضنة مركزية، كانت قد صارعت دهرا من أجل أن تجعل من الذكورة معياراً تُستقى منه مقاييس الأصالة والجمال والإبداع.
وعلى الرغم من ذلك، تمكّن نزار قبّاني من أن ينفلت من الذكورية غير مُقرٍّ بأيّ معادلة إبداعية تفترض تفوّق الإبداع الفحولي على حساب إبداع آخر غير فحوليّ. ولهذا استغور نزار قبّاني لنفسه خندقاً إبداعياً، عرف كيف يوجّه منه أسلحته لتلك المنظومة ليهزمها من داخلها، مانحاً المرأة فرصة الانتقام لكينونتها من خلاله هو. وهكذا قرّر أن يرفع صوته متلبّساً بصوتها.
وما كان وصفه بأنه شاعر المرأة إلا لأنه تقنّع بها وتلبس كينونتها، كاشفاً عن أسرارها المخبوءة في دفائن الزوايا المعتّمة من كيانها المتداري خيبة وإسقاطاً، والمتواري خشيةً وحرماناً. ولذلك حملت بعض قصائده صوتاً نسائياً صدحت به ملهمات وغريمات وحبيبات وغريبات، قريبات وبعيدات، معروفات ومجهولات، ليستمدّ منهن كلّهن شاعريته ويبني تجربته الخاصة والفريدة في عالم الشعر العربي المعاصر.
ووفقاً للنظرية النسائية فإن الكتابة التي توصف بأنها نسائية لا يشترط أن يكون كاتبها مؤنثاً، بل يمكن أن يكون مذكّراً، ومن هنا احترف نزار قبّاني الكتابة النسائية، متّخذاً منها قضية رفعها ضد التراث العتيد للأبوية التي وضعت الأسس الصارمة للصناعة الشعرية، ليكون هذا التراث رجولياً، ويغدو من ثم هو الخطاب السائد والمركزي.
ولقد تمرّدت شاعرية نزار على المؤسّسة الرجولية، منذ الوقت الذي وقفت إلى صفّ المهمش، فاستطلعت المرأة كياناً، لا جسداً، مبتدئةً بها ومنتهية إليها، رافعةً إياها من الحضيض إلى التتويج. ومن هنا صارت المرأة في شعر نزار قبّاني قضيةً أساسها الدفاع عن حقوقها المستلبة، والسعي إلى استعادة ما خسرته على مدى العصور السالفة، حتى بدا عدم مجاراة الكتابة الشعرية النزارية للمؤسسة العتيدة، نوعاً من الانشقاق عليها والتمرّد غير المقبول، كون تلك الشاعرية قد رضيت بارتداء القناع الأنثوي لتصبح القصيدة امرأةً في رجل، وما في ذلك من دلالات على التنازل عن الرجولة والتحييد لسطوتها.
وما فرضية ذلك التنازل الشعري إلا الإيمان بأن للمرأة خاصيتها المميزة والمتفرّدة. ولا بدّ للكتابة التي تمثّلها أن تتنكّر للخطاب الرجولي قوةً لا ضعفاً لتفيض بالأنثوية وتغيب الذكورية، ولكن لماذا تكون فرضية كهذه محتمة منطقياً ولا حياد عنها؟
لقد رأت سيمون دي بوفوار أن المرأة أسطورة لا تاريخاً، لأن التشارك أساس الحياة، وافترضت أن للمرأة سيطرةً حقيقيةً في الأزمنة البدائية، لكنها في ظل الأبوية هُمّشت وصارت ثانويةً، وتساءلت، وهي التي لم ترَ المرأة معطى واقعياً فحسب، بل هي صيرورة ينبغي مقارنتها مع الرجل وتحديد إمكانياتها. كيف تمكّن أحد الجنسين فقط من فرض نفسه كجوهر وحيد، منكراً وجود كلّ نسبية تربطه بالجنس الآخر، معرّفاً إياه بأنه الآخر الصرف ومن أين أتى للمرأة هذا الرضوخ؟
بالإجمال، ليس تجنّياً إذا قلنا إن هناك كرهاً مبيّتاً للمرأة في اللاوعي الذكوري، لجعلها مجرّد جسد منقمع، وهذا ما تواتر في المخيال الشعري الفحولي لأجل كبح جماح المؤنث شهوةً أو رغبةً، وفي المقابل تضخيم إيروسية الآخر المذكر شيطنةً أو انفتاحاً، شهوةً أو شرّاً. وهكذا صار الشعراء والرواة يتكلمون بلسان النسق كشرط ثقافي. ولقد نفر من تلك النسقية العديد من الشعراء، واشتطوا عنها بدءاً بعمر بن أبي ربيعة حتى سعيد عقل. لكنّ نزار قبّاني بشعره ذي الصوت الأنثوي كانت له خطابية تأسيسية خاصة لنوع من الجنوسة المتعدّدة ضدّ ثقافة فحولية. وما كان لشعر نزار أن تكون له مثل هذه الخصوصية الكتابية، لولا أنه مارس الكتابة الأنثوية لا الذكورية ليكون شعره نسائياً يجاري ما تكتبه المرأة من ناحية المراوغة والانفلات والانحراف والادّعاء والمجاراة، متّخذاً من الأنثى مصدراً يعجّ بالطاقة، ومستلهماً الوعي النسائي كوعي مغاير ينهض عن/ وليس من/ جسد الأنثى، وبلا اضطهاد ولا خضوع ولا استهلاك.
لقد كانت أشعاره عبارة عن إنتاجية نسائية تنطلق من الجسد لتنعتق منه لا لتنعتق فيه، بينما الكتابة الذكورية اعتادت التعامل الاستهلاكي مع المعطى الجسدي، وهي عادة ما تنطلق من الجسد الأنثوي لتعود إليه. وهذا ما منح كتابات نزار نَفَساً نسائياً كونها تبتدئ من المرأة لتنتهي فيها لا لتنتهي في الرجل، ما جعل من شعره أمثولةً للشعراء العرب المعاصرين الذين يسعون إلى تناول المرأة في شعرهم كقضية لا موضوعاً. والهدف أن يغدو الكيان النسائي ممارسةً ثقافيةً متحرّكة لا تجربة عائمة أو عابرة معتادة، وهذا ما يتماشى مع الوعي الحضاري الجديد الذي انبثق انعكاساً لحركات التحرّر والانفتاح والتنوير والعولمة، وفي الوقت نفسه تعارضاً مع الخطاب الثقافي المؤسس، وتضادّاً متوغّلاً في بتر الجذور، وخلخلة المرصن من القواعد، وتغيّراً مقنّناً للفرضيات. وما تنازلية نزار عما منحته إياه المركزية الأبوية إلا فعل تفكيك يتمرّد على الثقافة الذكورية، ويقوِّض خطابها من الداخل، وهذا ما أتاح له أن يؤسس نظريته الشعرية الخاصة التي تقبل استعباد الرجل في مقابل تحرّر المرأة، وتقرُّ كذلك باسترداد السيادة من المركز إلى الهامش لتعطيه تعويضاته التي خسرها إهمالاً وإقصاءً واستعباداً.
ولمّا كانت المرأة لا تؤمن بتحريرها لأنها لم تشعر قط بإمكانيات الحرية، وأن العالم يديره قدر غامض لا يمكن مجابهته، لذلك حاول نزار قبّاني أن يغيّر هذه الفرضية بأن يجعل للجسد الأنثوي في شعره انتفاضاً فاعلياً من خلال قولبة اللغة أنثوياً كي تكون فاعلةً ومتدفقةً لا محبطةً أو استلابيةً، وهذا ما ضمن إنتاجه لكتابة مؤنثة، لا كتابة مذكرة، وما يتطلبه ذلك من قراءات جديدة للجسد المؤنث.
ومعلوم أن وظائفية النقد النسوي هي إعادة توزيع خارطة الإنتاج القرائي فما تنتجه المرأة، أو ما ينتجه الرجل لا بدّ من فكّ شيفراته، وقلب فرضياته ومسلّماته، ورفض نهائيته وإطلاقيته، من خلال قراءة جديدة أوّل مبتغياتها أن تكون موجبةً لا سالبةً، وأن تبدو مكوِّنةً لا مكوَّنة.
واستطاع نزار، بتخلصّه من شرنقة الإرث الذكوري، أن يضع أساسيات الشعر النسويّ، وأولها رفض الحيادية، فاللغة ليست محايدةً. وثانيها التفكيك نقضاً وبناءً. وثالثها تخطّي المؤسَّس والثابت. ورابعها إحلال الغياب محل الحضور. وخامسها مفاضلة المقصي على المركزي. وسادسها امتلاك المرونة والوعي بديلاً عن التعصب والانشداد الأعمى. وآخرها التعدّدية الصوتية حواراً لا الصوت الواحد احتواءً.
إن ثائرية نزار على النظام الفحولي هي شكل من أشكال التمرد السيكولوجي للابن على الأب، وصراع بيولوجي بين الأصيل والمهجن، أو تمرد ثقافي قائم على نوع من التصارع النسقي ما بين المعتد به والتالي والمعلىّ شأنه والمتداري.