نقد العقلانية الكلاسيكية
تكشف تاريخيّة العقل عن تعدد العقلانيات في الفلسفة الإغريقية والرومانية والعربية -الإسلامية والمسيحية، وفي الفلسفة الحديثة مثل العقلانية الديكارتية، والتجريبية الإنكليزية والجدلية الهيغلية، والمادية الماركسية، والبراغماتية والوضعية المنطقية وغيرها التي تجلت عموما في مسارها التاريخي كاشفة بدورها عن أن تعدد العقلانيات هو نتاج العقل في سياق حركة التاريخ. لقد قدمت الفلسفةُ العقلانية إبان عصر التنوير وامتداداتها حتي ما بعد القرن التاسع عشر تصورا أيديولوجيا للعقل قوامه أن هناك مفهوما واحدا وثابتا للعقل يستغرق كل أنماطه ومعانيه؛ وأن هذه العقلانية التي يمكن تسميتها اصطلاحا “العقلانيّة الكلاسيكية ” تعتبر أي فهم للأفكار خارج نطاق نظامها لا يكتسب صفة المعقولية بشكل كامل؛ لكن البحث الجينيالوجي- النسابي يُبين أن كل نمط من أنماط العقلانية هو أحد أنظمة العقل في مرحلة فكرية تاريخية معينة.
يَكْشفُ المنهج الجينيالوجي عن شكلِ العلاقةٍ بين مفهومِ للعقل ونـمط من العقلانية تدعي تمثيلها لهذا العقل بشكل كامل، بوصف الجينيالوجيا تهتم بالبحث عن أصل ونسابية وجذر الفكرة و/ أو الحدث ليس طبقا للمنهج التاريخي الذي يتابع نشأة الظاهرة ومسارها اللاحق وتطورها، ولكنها، أي الجينيالوجيا تلاحق من موقع الحاضر في ما وصلت إليه الفكرة / الحدث وتكشف التأويلات التي مرت بها والأقنعة التي تلبستها في مسارها التاريخي، أي تعود الجينيالوجيا من الحاضر إلى الماضي لا تاريخيا من الماضي إلى الحاضر في متابعة تطور الأفكار في سياق كرونولوجي؛ فالجينيالوجيا تكشف العلاقة الموحّدة والاستغراقيّة بين مفهومي العقل والعقلانية من خلال العودة للنظر في المسارِ التاريخي المُشَكّـل لنظام تأسيس مقولات هذه العقلانية وأبنيتها النسقية التي تدعي الثبات والوحدة، وتكشف، أيضا، كيفية تلبّسها مفهوما معينا للعقل يتمتع بالثبات والوحدة، وتقوم بإبراز مواقعيّتها ونسبيتها. ولا يمكن بالتالي اعتبار أن هناك اتجاها واحداً لمنطق العقلنة لا سيما بعد الصدمات التي اخترقت صميم منظومات العقلانية، والزحزحات التي أصابت مدلول العقل نفسه.
منطقية العقل العقلاني
تعبر الأنظمة العقلانية عن نظرة نمطيّة لمفهوم العقل حيث تعتبر العقل الذي ينتج عقلانيات متعددة في تاريخه له صيغة وشكل واحد طوال مراحل التاريخ، وأن هناك نظاما فكريا عقلانيا يعد نفسه هو العقل عينه في خط متواصل طوال تاريخ الفكر (الفلسفي)، ويرى أن هناك اتجاها آخر بخط مناقض له لاعقلاني، فيعد هذا النظام العقلاني بصيغته “العقلانية الكلاسيكية ” أنه يمثل العقل بشكل كامل ومطلق يقابله اللاعقل ويحاول أن يفسد عليه حضوره الكلي في التاريخ، منطلقا من خطاطة تاريخانية هي نوع من القراءة الأيديولوجية التي تقيم معنى للعقلانيّة وفق قوالب جاهزة للتصنيف.
تصور عصر التنوير الغربي للعقل
تُقَدم العقلانية الكلاسيكية تصورا مسبقا عن العقلِ يحدده كمفهوم ثابت وشكلانيّة سكونية تطبع أفكارا معينة، في حين أنّ هناك أفكارا أخرى تعدها مناقضة لهذا التصور؛ أنها تعتمد هذا التصورَ كمعنى عام للعقل، لكن الكشف عن أصلِ هذا التصور للعقل يبين أنه وليد عصر التنوير الأوربي الذي يعد العقل (المستقل) جوهرا حاملا كل الصفات والخصائص المطلقة. فترسم العقلانية الكلاسيكية تصورا للعقل بوصفه العقل النامي في سياق تاريخي متصل، ويطبق على تاريخ للعقلانية بوصفها دأبا دائما لبلوغ الحقيقة والصواب وتجاوز الخطأ. إنه يحكم على أنظمة الفكر وفقا لمنطق ثنائي القيمة واستراتيجية في الفصل بين “المعقول” و”اللامعقول”، مستعملا مفاهيم كـليّة ميتافيزيقية لاتاريخية يُصدر طبقا لها أحكامه القيميّة.
تعبر الأنظمة العقلانية عن نظرة نمطيّة لمفهوم العقل حيث تعتبر العقل الذي ينتج عقلانيات متعددة في تاريخه له صيغة وشكل واحد طوال مراحل التاريخ، وأن هناك نظاما فكريا عقلانيا يعد نفسه هو العقل عينه في خط متواصل طوال تاريخ الفكر (الفلسفي)، ويرى أن هناك اتجاها آخر بخط مناقض له لاعقلاني، فيعد هذا النظام العقلاني بصيغته “العقلانية الكلاسيكية ” أنه يمثل العقل بشكل كامل ومطلق يقابله اللاعقل
تعبر هذه العقلانية عن التفكير بميكانيزم (آليّة) أحد أنظمة الفكر الغربي مضفية على العقل معنى وحيدا ويسلك دروبا مرسومة؛ إنها تفصل بين تاريخ مستمر للعقلانية عن آخر مختلف للاعقلاني. لذا لا يمكن لهذا التصور القبول بنسبية المعنى الواحد للعقل والأشكال المتعددة للعقلانية؛ فـتستمر عنده نـظرة الموازاة والصراع بين خطين فكريين عقلاني ولاعقلاني، معتقدا أن هناك عقلانية نقيّة تُقابلها وبجمع عام فلسفات الشك في العقل والإيمان بقوى أخرى. غير أن الشك في العقل شيء والشك في عقلانية معينة شيء آخر، أما الإيمان بقوى أخرى فشيء مختلف لا يناقض العقل وليس في عداء معه، ولكن إبستيمية (نظام الفكر) “العقلانية الكلاسيكية” تتبنى مفهوما للعقل هو العقلانية العلمويّة الباترة التي فهمت منطق العقل على أنه يُمثل اتجاها ماديا وضعيا إلحاديا ضد الدين، وفي الحقيقة هذا فهم واحد من أنواع متعددة للعقلانية طوال تاريخ الفكر الفلسفي.
اتجاهات تاريخ الفكر الفلسفي
يُهَيمن على نظام العقلانيّة الكلاسيكية تصور مسبق لاتجاهين متناقضين في بنيتهما ومتخالفين في حركتهما طوال تاريخ الفكر الفلسفي، الأول مادي الاتجاه والثاني مثالي الهوية والتفسير. إنّ هذا التصور ناتج عن نظرة تعميمية تبسيطية لتاريخ الفكر الفلسفي ظهرت في القرن التاسع عشر بتأثير فلسفة التاريخ ذات التقسيم الثنائي، سلالة مادية عقلية وأخرى مثالية لاعقلية، وتعرض هذه النظرة مفهوما للتقدم بوصفه سلسلة من التطور والنمو الذاتي طوال مراحل التاريخ.
إن التفلسـف وفقا لرؤية العقلانية الكلاسيكية لا يكون عقلانيا إلا بصروح كليّة متماسكة البناء الشكلي، وكذلك لا بد أن يخضع القول الفلسفي لنسق متماسك على طريقة المذهبية الفلسفية التي تقدم تفسيرات شاملة حتى يحوز على معنى المعقولية ويكون دليلا عليها، ثم تتجه هذه العقلانية إلى إصدار أحكام قيميّة تَصفُ بعض الفلسفات. وهنا نضرب مثلا تلك الفلسفات التي تعتبرها لاعقلانية كفلسفة نيتشه غير النسقية والتي لا تخضع لتلك الشروط فتصفها باللاعقلانية.
إن هذا الحكم هو نتيجة للوقوع في دائرة الفهم الكلاسيكي للعقل وغير المتمثل للفكر النيتشوي المُـعَرّي في منهجيتهِ الجينيالوجية لميتافيزيقا نماذج الأحكام الأخلاقية المشكلة لهرم البناء الفكري-المذهبي والتقييم (الغربي)، وكشف محجوب هذا النمط من المعقولية وأصول تكوينها؛ فقد ضرب نيتشه الثنائيات الوجودية والفكرية التي تمثل دعامة وسندا للقول الفلسفي التقليدي، مثل المقابلة بين الحقيقة والخطأ، والحسي والعقلي. أما فرويد بكشفه عن منطقة اللاوعي فلم يكن لاعقلانيا على ما تحكم هذه العقلانية، بينما قلبت تحليلاته النفسية مفهوم الشخصية قلبا جذريا من خلال ابتداعه لمفهوم اللاشعور الذي يعد عنده أساس التحكم في السلوك الواعي للشخصية وبموجب ذلك لم يعد الإنسان يتحدد بوصفه وعيا وإرادة حرة بقدر ما أصبح يتحدد بوصفه خزانا لاشعوريا تعتمل فيه طاقة متفجرة من الرغبات الحيوية التي تفوق سلطة الوعي وضوابط العقل ذاته. لقد وطأ أرضا بكرا وسع بها من جغرافية العقل إلى مساحات جديدة لم تكن متعقلة من قبل، وفتح ريادة للعقل بإبراز المؤثرات الفاعلة في حقيقة فهم منطق الوعي وإقامة تعقيل ما كان لامعقولا، مبينا في هذا المجال أنّ المرمي باللامعقول ما هو إلا إمكان عقلي يعيد بناء مفهوم العقل ودلالاته.
وقد كشف عن هذا هيدغر حينما شرع في إرجاع التحولات الكبرى في تاريخ الفكر الغربي إلى مجرد تحول في كيفيات تأويل الوجود ونمط الحقيقة ضمن الخط العام لجوهر الميتافيزيقا الذي شهد تعديلات مهمة مع ديكارت ثم نيتشه لاحقا، ولكن دون أن يمس ذلك جوهر الميتافيزيقا، (وحول تفصيل هذا انظر كتاب هيدغر بعنوان “نيتشه والفلسفة”، الجزء الأول). وكذلك وافقه من يعرفون بفلاسفة الاختلاف على هدم التراث العقلي للفكر الغربي على النحو الذي أقام أسسه تقليد عصر التنوير منذ القرن السابع عشر؛ فقد وجه فوكو ضربات قوية وصارمة في كتابه “الكلمات والأشياء” و”حفريات المعرفة ” لادعاء هذه العقلانية الامتداد على مـسار التاريخ بشكل متصل وتكاملي مبرزا الانفصال بين أنظمة الفكر في سياق اختلاف مراحل التاريخ، وأيضا أبرز القطائع في أسس أبنية العقل ذاته. فقد قام بتقويض مرتكزات النزعة الإنسانية وبديهياتها ومختلف المفاهيم التي تسندها مثل العقل والوعي والإرادة الحرة، والفاعل التاريخي إلخ، بالإضافة إلى جاك دريدا في “الكتابة والاختلاف”، و”صيدلية أفلاطون” و”هوامش الفلسفة” حيث قوّض بناء العقلانية الكلاسيكية الميتافيزيقية من الداخل، وكشف صفتها النسبية التي تُـعد العـمود الفقري للفلسفة منذ أفلاطون حتى هيدغر. وأصبحت الحقيقة وفقا للمنهج التفكيكي فاعلية للدلالة اللغوية، وفنون البلاغة التي لا تربطها أيّ علاقة بمدلول أصلي ثابت ونهائي، لأنه ما من دلالة عنده إلا وتفضي إلى دلالة أخرى إلى ما لا نهاية له. وكذلك بحث دولوز في “ألف سطح وسطح ” عن منطق جديد يكسر مركزية العقل خارج إطار ثنائية الـ”أما.. أو”.
وعليه فإن القول بدخول الفلسفة الغربية في اللامعقول هو مظهر لانتكاس العقل والعلم معا، من قبل بعض حراس العقلانية الكلاسيكية الأرثوذكسية، يدل على اختلاف دلالة اللامعقول، حيث إن اللامعقول وفق نظام هذه العقلانية مُبـعد بتضييق معنى المعقولية وتسوير حدودها؛ ولكن هناك أكثر من هذا المعنى ومجال مختلف للامعقول.
أيديولوجيا العقلانية
تعبر هذه العقلانية الكلاسيكية عن موقف أيديولوجي من حيث صرامته التقييميّة وواحديته للمعنى والحقيقة، وتُصَنف الأفكار في خانات محددة سلفا برسم مصادراتهاالأولية وأحكامها الكلية. إنه موقف يضع عقلانيته كممثلة للاتجاه التقدمي بشكل دائم، في حين أنّ هذا التساوق الذي تقيمه بين “العقلانية” و”التقدم” ما هو إلا مقدمة أيديولوجية ومصادرة أوليّة، فليس هناك أيّ تلازم منطقي أو تاريخي بين الطرفين. وهذا الفصل الذي يُرفع إلى مستوى القطيعة النهائية بين العقل واللاعقل لا يعبر إلا عن منهجية ترسيمية لتاريخ الفكر بطريقة مانوية ونظرة معيارية بأحكام مسبقة.
وهذا التصور نتاج مفهوم المتصل التاريخي الذي يـُضفي على حركةِ التاريخ معنى التوالي الضامن لمعرفة تقوم على التسلسل السببي فيكون السابق المُفَسر والـمولّـد لـلاحقِ، من خلالِ تَبَنيه مفاهيم الكليّة، والتطوّر، والاستمرارية، والوحدة والتناقض.
العقل والأزمة
أما ما يثار من جانبِ ممثلي هذا التصور الأيديولوجي للعقل بخصوص أزمة العقل الغربي واعتبارها أزمة عند الطرف المتشكك وغير الواثق بالعقل فيطرح السؤال التالي: ألم تَكنْ الأزمة طوال تاريخ العقل سببا في كسر دوغمائياته وخلخلة قوالبه وثوابته حتى لا تتحول العقلانية إلى منظومة مفاهيم أرثوذكسية ومجموعة مبادئ قارة تحاصر المعنى تحت بناء مقفل يكرر المقولات والمقدمات نفسها؟ أولم تحدث القطائع الإبستيمولوجية بسبب الأزمة؟ فلا بد إذن من توطين العقل في الأزمة، فإنجازات العقل الغربي لم تحصل إلا نتيجة لأزماتهِ. الأزمة تحدث بفعلِ محاولاتِ إدخالِ التحولاتِ المعرفيةِ والإنجازاتِ العلميةِ في عرباتِ البناءِ التقليدي للعقلانيةِ.
إن الترهـيفَ المستمر للمفاهيمِ والقطائعِ الإبستيمولوجية داخل سياق النظريات العلمية يـُظهر عـَجزَ هذه العقلانية ومحدوديتها التفسيرية؛ فعلى سبيلِ المثالِ عجزت فيزياء نيوتن عن تقديمِ تفسيرِ مطابقِ لبعضِ الظواهرِ الطبيعيةِ مما أدى إلى حصولِ أزمة في الفيزياءِ ما كانَ منها إلا أن أحدثت القطيعةَ والانفصال وَطُـرِحتْ على إثرِها أسس ومفاهيم جديدة ذات تفسير أشمل مع النظرية النسبية. إنها أزمـة في الأسسِ والأصولِ والمُقَوماتِ لنمط معين من العقلانيات، وهي ناتجة عن فهم تعميمي لهذا النمط.
زحزحات في مدلول العقل
لقد حدثت زحزحات عديدة بالمعنى الفلسفي والمنهجي لمفهوم العقل وقطائع إبستيمولوجية مع نظام العقلانية الكلاسيكية على إثر انقلاب السياقات المعرفية التي حصلت في اللسانيات والتحليل البنيوي لمنطق اللغة، والتحولات الإبستيمولوجية، وإعادة تقيـيم النظام العقلاني السائد من موقع التفسير البنيوي اللغوي للاوعي (جاك لاكان) الذي أعاد صياغة الرابطة بين بـنية اللاشعور وكـلام اللـغة الترميزي، حيث تتم قراءة ظاهرة اللاشعور كما لو كانت تماثل بنيويا الظاهرة اللغوية نفسها، أو قل هي اللغة ذاتها، أين يكون المعقول طريقا لـ”اللامعقول” والوعي طريقا للاوعي، وافـتتاحات مناهج تحليل الخطاب والتأويل (“الحقيقة والمنهج” و”صراع التفسيرات” عند غادامير وريكور)، وفلسفة المنفصل التاريخي (مدرسة الحوليّات، بروديل “البحر المتوسط في عهد فيليب الثاني”).
تاريخ أيديولوجي للعقل
العقلانية الكلاسيكية حصيلة مرَكّبة وتصْنيفيّة لتاريخِ أيديولوجي للعقلِ أُعيدَ بناؤه طبقا لتصورات مسبقة مثلتها عقلانية عصر التنوير والعقلانية العلموية الدوغمائية السائدة في القرن التاسع عشر والتي رسمت الحدود القارة لجغرافية العقل وفصلت بشكل قاطع بين “المعقول” و”اللامعقول”. إن هذه العقلانية الكلاسيكية تُقصى اللامعقول بعيدا عن دائرة العقل بدلا من معاينته والتفكير فيه واستحضاره إلى دائرتها بوصفه لامفكرا فيه بعد. فغالبا ما تضع العقلانية مقولاتها الجاهزة بشكل متعال لإصدار أحكامها القطعيّة بين العقلي واللاعقلي. فمن اللامفكر فيه بالنسبة لهذه العقلانية هو أن ما من فكر إلا وله معقوليته، ولا يوجد خطاب يخلو تماما من منطوق العقل، فـلكل خطاب أدواته المعرفية ومفاهيمه الإجرائية التي يستعملها في التحليل والتفسير.
ميتافيزيقا العقل
لا يكترث نظام العقل الكلاسيكي لتحولات إبستيمولوجية عديدة ترفض هذا الفصل الصارم والقاطع بشكل مسبق بين العقل واللاعقل. وكان الأحرى بهذه “العقلانية الكلاسيكية أن تحدد نمط كل معقولية في فضائها المعرفي وتضعها على محك المساءلة في ما إذا كانت تدعي أنها التعبير الوحيد عن حقيقة مطلقة لمفهوم العقل حتى تصل إلى اكتشاف وجود أنماط عديدة من المعقولية لا تمثل أيّ منها حقيقة نهائية أو مقياسا لكل تعقل، فبعض الأنساق الفكرية التي تعتبر ممثلة لمعنى العقلانية ما هي إلا منـظومات تأويل كبرى، بحسب بول ريكور.
إن مثل هذا الفهم يجعل العـقل يفتح إمكانا على اللامعقول ولا يوصد الدروب لعقلنته ويعيده بوصفه لامُفَكّرا فيه بعد. فارتياد اللامفكر فيه يوسّع من مجالِ العقلِ ويضعه أمام مهمة المراجعة الدائمة لأسسه ومقولاته وأطره المعرفية التي تتبدل باستمرار؛ فكل توسع لمجال العقلنة هو انفتاح على ما لم يعقل بعد. لقد حدثت خلخلة شديدة لأصول ونظام العقل الكلاسيكي كشفت عن ميتافيزيقا معنى هذا العقل، وأظهرت أن لكل عقلانية منظومتها وسلطتها، ولكن لا كما يطرح وفق نظام العقل العقلاني من حصر التأثير في العوامل اللاتماثلية في الاتجاهات اللاعقلانية.
فرويد بكشفه عن منطقة اللاوعي فلم يكن لاعقلانيا على ما تحكم هذه العقلانية، بينما قلبت تحليلاته النفسية مفهوم الشخصية قلبا جذريا من خلال ابتداعه لمفهوم اللاشعور الذي يعد عنده أساس التحكم في السلوك الواعي للشخصية وبموجب ذلك لم يعد الإنسان يتحدد بوصفه وعيا وإرادة حرة بقدر ما أصبح يتحدد بوصفه خزانا لاشعوريا تعتمل فيه طاقة متفجرة من الرغبات الحيوية التي تفوق سلطة الوعي
يعطي نظام العقلانية الكلاسيكية مدلولا ثابتا لمفهوم العقل يستبعد كل ما لا يتوافق مع تناسباته ومغالقاته مما يـُضيّق ويفقّر مفهوم العقل ذاته. إن العقلانية الكلاسيكية لا تنظر إلى ما تسميه “اللامعقول” بوصفه الإمكان المفتوح أمام العقل والذي لم يمارس عليه العقل حضوره بعد؛ في حين هو اللامفكر فيه بعد الذي كلما دخل بعض منه إلى دائرة المفكر فيه توسعت حدود العقل، وانتقل العقل إلى آفاق أبعد واكتشف مجاهيل جديدة لم تكن مكتشفة من قبل أو كانت تعد في ما يقع في “اللامعقول”، إذن انتهاك حدود “اللامعقول” يوسع من أقطار دائرة العقل ويمدد أسواره إلى مساحات جديدة لم تكن معروفة من قبل. ووفقا لرأي “غرانجيه” في دراساته عن الإبستيمولوجيا ولا سيما كتابه عن “اللامعقول” لا يوجد فصل نهائي بين منطق التشارك وآخر قائم على منطق العقل والطرفان يرجعان إلى الأصل نفسه.
مطمح العقلانية
ليس العقل بناءً قارا له شكل تام ونهائي أو بنية تمـثليّة ثابته، بل له مستويات مختلفة؛ فلا يوجد عقل تصنيفي واحد ذو مركزية منطقية. إن تشكل المعارف ونمط المعقولية هو دائما تعبير عن نظام فكري قائم في مرحلة تاريخية معينة يتحول أو يتبدل في مرحلة لاحقة؛ وعليه ضرورة التمييز بين طموح العقلانية الكلاسيكية للكلية والشمولية ومواقعيتها التاريخية النسبية. وهذا الطموح دفعها إلى نقل مفهوم المطلق واللامتناهي من الألوهية وإضفائه على مفهوم الإنسانوية.
بعد تعرية الجذر الذي يكون تصورِ العقلانية الكلاسيكية لمفهوم العقل يكشف النقد الجينيالوجي نسابية هذه العقلانية وافتراضها المضمر للمماثلة والتطابق بين دال العقل ومدلوله، وهو ما يؤدي إلى اختزال مفهوم العقل وتحجيم المعرفة ومحاصرة مغامرة الاكتشاف. ويقوّض هذا النقد مقولة كل ما هو واقعي عقلاني، فتكشف الجينيالوجيا أن العقلنة قائمة على مفهوم واسع من الأسطرة، وأن العقلانية في قمة تجريداتها تبقى موشحة بالمخيال. إن نقد مفهوم العقلانية الكلاسيكية للعقل يغيّر علاقاتنا مع مفهوم العقل ذاته عندما نكشف صلاته باللامعقول.