السينما المصرية وتأثيرها على المراهقين
اتجهت السينما المصرية في السنوات الأخيرة إلى طرح مواضيع العنف، والخيانة الزوجية، والاغتصاب، والشذوذ الجنسي، والمخدرات، وغيرها من الحالات السلبية، بحجة عرض الأخطاء لتصحيحها، إلا أن الملاحظ في الأمر حجم المبالغة في عرضها، حيث عمد القائمون على إنتاج هذه الأفلام إلى توضيح أن ما يعالجونه هو ظواهر مستشرية في المجتمع المصري وليس حالات منفردة تعبّر عمَّن يمارسها، وهذا غبن بيّن لطبيعة المصريين، فأفلام مثل «حين ميسرة» و»عبده موتة» و»كلمني شكراً» و»جمهورية امبابه» و»قلب الأسد» و»أولاد رزق»… إلخ، اعتمدت على «البلطجة» فحاول منجزوا هذه الأعمال إظهار فكرة شيوعها في المجتمع المصري.
نعم هناك حالات لكنها لم ترتق إلى مستوى الظاهرة، بحيث تكرّس السينما المصرية جلّ أعمالها لهذه المواضيع، مما أدى إلى توجه الكثير من شركات الإنتاج إلى الدراما التلفزيونية بعد الخسائر المالية التي تعرضت لها، لينتج عن هذا هبوط الإنتاج السينمائي كماً ونوعاً. وسبب هذه الخسائر القطيعة التي حصلت بين جمهور السينما المعروف بثقافته الفنية ودور السينما، رافضا الابتذال في طرح المواضيع، فضلاً عن أن أغلب الفنانين لم يرتضوا تقديم مثل هذه الأعمال المسيئة لمصر، إلا أنهم مرتبطون بالمؤسسات الإنتاجية فلم يكن من بد إلا التوجه إلى التلفزيون، تاركين الشاشة الكبيرة تتخبط في مواضيعها الضعيفة وتقهقرها المستمر.
الملاحظ في هذا الأمر أن أفلام البلطجة لديها جمهور من فئة عمرية واحدة وهو جمهور المراهقين، حيث جذبت هذه الأعمال هؤلاء الشباب، وأخذوا يقلدون من يعتبرونه مثلهم الأعلى من الفنانين الذين أدوا أدوار البلطجة؛ إذ تجد هؤلاء الشباب متأثرين بمثلهم الأعلى في تصرفاتهم وطريقة حديثهم وملبسهم وتعاملهم مع الآخرين، وحينما تسألهم عن أسباب أفعالهم وسلوكياتهم تكون إجابتهم أن هذه جزء من تركيبتهم الطبيعية المعتمدة على قيم الرجولة العربية، متأثرين بهذه الأفلام ومواضيعها التي أعادتنا إلى عرب الصحراء في تصوراتهم للفحولة، كاستخدام العنف، والصوت العالي، وازدراء المرأة، وغيرها من السلوكيات التي ذكرها التاريخ بحوادثه وحكاياته الهزيلة.
سينما البلطجة استشرت بعد انتفاضة يناير الشعبية عام 2011، ويبدو أن من قدمها لم يعرف طبيعة الاختلالات السياسية في انعكاساتها بشكل أو بآخر على المجتمع، فما يحصل من إرباك وعدم توازن لا يمكن أن يكون بأي حال من الأحوال مقياساً للشعوب في نزعاتها
وكما هو معروف فإن المراهق يتأثر بأي شيء يحيط به، وهذه المرحلة من حياته تكوّن شخصيته، وتحدد مساراته المستقبلية حسب رغباته التي تفاعل معها، ومن أكثر المؤثرات في زمننا الحالي السينما والتلفزيون والسوشيال ميديا، وقد وجد ضالته في السينما التي عبّرت عن نزعاته النفسية المتكونة أساساً من البيئة التي يعيش فيها، حيث رداءة التعليم، والفقر، والكبت المنبثق من الأعراف والتقاليد التي عفا عليها الزمن، وكذلك الخطاب الديني الذي حرّم أغلب مفردات الحياة مما خلق له حاجزاً يحاول تخطيه في التنفيس عمّا يعتمل في داخله، ليتجه نحو الطبائع المعتمدة على العنف، أو حتى ممارسة الرذائل، وقد رأى مسوغاً لذلك من خلال الأعمال السينمائية.
إن معالجة سلبيات المجتمع لا يمكن أن تكون بهذه الطريقة البائسة، لأن سبل استيعاب المشاهدين مختلفة، وتحليلاتهم للمواقف غير متشابهة، وهذا نابع من الوعي الذي يتحلى به المتلقي والظرف الاقتصادي الذي يعيشه فينعكس بدوره على طبيعة الفرد الاجتماعية.
إذا غفل من يقدم مثل هذه الأعمال عن المسؤولية الأخلاقية للفن يجب عليه استيعاب أن ما يقدمه يزيد من انحطاط المجتمع وتردي طبائعه، خصوصاً أن الخطاب موجه إلى الشباب وهم النسبة الأكبر مقارنة بعدد سكان مصر، وبهذا يعطي مسوغاً وشرعية للقيام بسلوكات مشينة تنعكس عاجلاً أو آجلاً على من يطرحها.
إن الفن معتمد على علمٍ فلسفيّ رئيسي وهو علم الجمال، يا ترى كيف يتم تجسيد الجمال بطرائق يكون القتل والسرقة والاغتصاب والسلب أعمدتها؟ كيف يمكن أن يحوّل الفنان الحالة السلبية إلى ظاهرة يلطخ بها سمعة بلده؟ هل أصبحت الشهرة والمال أغلى من تراب الوطن؟
لا بد من تذكير الذي نسي أو تناسى بأن السينما ذاكرة الشعوب، ومن المعيب أن تكون ذاكرة الشعب المصري بهذه الرداءة في الطرح، وعلى القائمين بالإنتاج السينمائي معرفة أن الأعمال التي ينتجونها تؤثر بشكلٍ سلبي على المراهقين حيث تجعلهم يتأثرون بما يطرح فيجسدونه في حياتهم اليومية، والدليل عدد الجرائم المتزايدة في أقسام الشرطة، ولو تمت مراجعة حيثياتها لوجدنا أن هناك جرائم لم تحصل سابقاً إلا في أفلام مرحلتنا المعيشة ومنفذوها مراهقون تلبّستهم الشخصيات التي حاولوا تقليدها.
جدير بالذكر أن سينما البلطجة استشرت بعد انتفاضة يناير الشعبية عام 2011، ويبدو أن من قدمها لم يعرف طبيعة الاختلالات السياسية في انعكاساتها بشكل أو بآخر على المجتمع، فما يحصل من إرباك وعدم توازن لا يمكن أن يكون بأي حال من الأحوال مقياساً للشعوب في نزعاتها، فهو مثل ما يسمى -وفق المفهوم السياسي- مرحلة انتقالية لا بد من المرور بها للوصول إلى الاستقرار المجتمعي.
وقبل أن ننهي حديثنا هذا لا بد من الإشارة إلى أن عددا من الفنانين اتجهوا مؤخراً إلى السينما من أجل إنقاذها من واقعها الحالي، وقدموا وسيقدمون أعمالاً جيدة من ناحية مواضيعها، وذلك حسب متابعتي لآخر الأخبار الفنية، حيث شعر البعض منهم بجسامة الوضع وتأثيراته على مستقبل الأجيال القادمة إذا استمرت السينما المصرية في إنتاج قيم التقهقر الأخلاقي.