المراهقة بين حَدَّين
فها أن الليل قد أوشك على الانتصاف، فأين يغيب؟ وماذا يفعل في غيباته، أو خلال الساعات الطوال التي يقضيها مُقفِلا باب غرفته على نفسه؟ وها أنّ أطفال السوء ينتظرون خروجه من البيت بفارغ الصبر. وسيبدأون عراكا جديدا، أو يمضون إلى غزوتهم اليومية، يتعقّبون خلالها البنات الحالاّت من المدارس.
وأو، وأو، وأيامها سيترحم الكثيرون ممن عرفونا، وأوّلهم أهلنا، على الزمن الذي كنّا فيه وديعين كعصافير، وطيّعين كقطعة عجين. فتلك فترة ولّت، وما ثَمّ في الجُبّة، إنْ جاز لنا استعارة هذا المصطلح من المتصوّفة، إلاّ فتى لم يعد فتى، وشابّ لم يصر شابّا بعد.
وبتلك الأوّات، وبكثير من طلعان الروح من جانب الأهل، ستمضي تلك المرحلة العمرية المسماة “مراهقة”، أو صبا. أمِنْ أجل هذا وغيره كتب تولستوي في مذكراته المعنونة بـ”الطفولة، والمراهقة، والشباب” قائلا “كلما تقدمت في وصف هذه المرحلة من حياتي (أيْ المراهقة) أصبحتْ أكثر إيلاما لي، وعنفا عليّ. وبقدر ما يفرحني المضي بأسرع ما أستطيع مجتازا صحراء صباي، فإنه يسعدني بلوغ تلك المرحلة المسمّاة شبابا، والمليئة بالسحر والشعر”؟
أمِن أجل هذا أيضا اقتصرت “البئر الأولى” وهي السيرة الذاتية لجبرا إبراهيم جبرا على السنين الأولى من طفولته، أم أنّ علينا أن نسير معه في قوله إنه كان عبر أكثر من أربعين سنة من الكتابة قد استعار الكثير من أحداث طفولته، من أجل مقالاته، وقصصه القصيرة، وبالتالي فقد اقتصر في مذكراته على “السنوات الثماني الأولى من عمري، منهيا إياها بانتقالي مع والديّ من ‘بيت لحم’ إلى ‘القدس′ عام 1932″. وأين سنعثر على حياة “المراهقة” في “حياتي” لأحمد أمين، وهو ذاته يخبرنا بأنه لم ينتفع بزمن الصبا والفتوة كما كان يجب “فلم يجد المرح والنشاط واللهو، ولو كان بريئا، ولا الحب إلى قلبي منفذا، بل تشايخت منذ الصبا، وهذا ولا شكّ من أثر التربية المنزلية..”!
ومما لا شكّ فيه أن هذا الذي أسماه تولستوي “صحراء العمر” قد سبّب للبشر طوال وجودهم الواعي فوق ظهر هذه الأرض إرباكا ما بعده إرباك، بيد أن وعيهم بذلك الإرباك لم يرق معهم إلى درجة اعتباره مشكلة، وعتبة خطرة ينبغي بذل الكثير من الحرص من جانب الأهل لاجتيازها، وهي مرحلة يمكن لمؤسسات الدولة والمجتمع المدني، أن يكونا جنبا إلى جنب مع الأهل، أو ربما بمعزل عنهم، جزءا من الحلّ إلا في العصور الحديثة، وفي الدول المتقدّمة اقتصاديا وتقنيّا بوجه الخصوص. فرفاهية البشر، واحترام حرّياتهم، وممتلكاتهم الشخصية، والاعتناء بهم في كافة مراحلهم العمرية، كلّها من ثمار الحضارة الأوروبية الحديثة، وإلا فإن البشر قاطبة قد عاشوا في أزمنتهم الغابرة غير هذه العيشة تماما، إنْ لم نقل عاشوا عكسها!
يضاف إلى هذا كله أن تألّق البشر أو هبوطهم، في جانبهم الوجداني والسلوكي، لم يرتبط في أي زمن من الأزمان بمرحلة عمرية معينة. فمخازينا الصغيرة في سنوات الصبا والتكوين تهون كثيرا أمام ما قد تقترفه أيدي وأفواه البعض منا ونحن كبار. وما قد نتعرّض له من تحرّش، أو تنمّر، أو إهمال من الأهل، أو صدود من ابنة الجيران، وكلّها أشياء من قبيل المثال لا الحصر، لهو أهون ألف مرّة من برهة إذلال واحدة قد تواجهنا ونحن كبار، أثناء سعينا لتحصيل لقمة الخبز، أو ونحن نستشرس في دفاعنا عن قناعاتنا الشخصية!
ولكن، إنْ بقينا في إطار ما طلبته المجلة، وقصرنا الحديث على مرحلة “المراهقة”، كيف تجلّت، أو لماذا لم تتجلّ بالعمق المطلوب، في الجوانب المتنوّعة للثقافة العربية، وما الأسباب في الحالتين، فإن لذلك حديثا طويلا لا تكفيه صفحتان ولا ثلاث. فمن أين نبدأ؟ أنبدأ من حيث بدأ دوستويفسكي في رواية “المراهق” قائلا على لسان بطلها “أركادي دولغورنكي” إنه “لا بدّ أن يكون المرء حقيرا في شدّة افتتانه بنفسه كي يتحدّث عنها بغير خجل ولا حياء”؟
على أنّ هذا الذي لم يستطع أركادي ابن روسيا القرن التاسع عشر أن يقوله، قاله في أدب القرن العشرين أمثال “ميشيل” بطل “اللا أخلاقي” لأندرية جيد، و”همبرت همبرت” بطل “لوليتا” للروسي-الأميركي فلادمير نابوكوف. وقد خصصت بالذكر هاتين الروايتين دون سواهما، وبالأخص منهما رواية “لوليتا”، لأن موضوعتهما الأساسية هي “المراهقة”، أو هما تتحدثان بشكل أدقّ عن الأساليب اللا أخلاقية التي يتّبعها الراشدون لاستغلال نقاط ضعف المراهقين، والتساهل اللا واعي الذي يبديه المراهقون بخصوص ما يتلقّونه من مبادرات!
هنالك إذا هذا الوجه المخيف المتربص بالمراهقين ومُتصيديهم، وهنالك أيضا ذلك المرح الشقي كما استمتعنا به غاية الاستمتاع في رائعتي مارك توين “توم سوير” و”هكلبري فن”، أو في الصفحات الأولى من رواية “الأرض” لعبدالرحمن الشرقاوي، والتي يروي راويها المراهق جانبا من مغامراته الجنسية مع “وصيفة” ابنة شيخ الغفر السابق “محمّد أبوسويلم”.
ولكن، إنْ كانت الرواية، بما هي تخييل، أي هي في محصلة الأمر اختلاق باختلاق، قادرة دوما على أن تترك، أو توهم بأنها تترك مسافة بين شخص المؤلّف وبين الشخوص التي يصورها في عمله الفنّي، فإن الأمر ليس كذلك بتاتا في فنّ السير الذاتية. ذلك أن السيرة وإن تشاركت مع القص بمادة الحكي، وبالبناء الدرامي العام، وبضرورة أن يُصاغَ ذلك كله بأبهى الصور، وأجدّها، وأكثرها عمقا ورهافة، إلا أنّ حدّها بما هي جنس أدبي قائم بذاته يقوم أولا وأخيرا على التطابق التام بين المؤلف والسارد والشخصية الرئيسية في السيرة. وبالتالي فإنّ التطابق، كما يؤكّد الناقد الفرنسي فيليب لوجون في “السيرة الذاتية، الميثاق والتاريخ الأدبي”، ترجمة وتقديم عمر حلمي، بيروت، 1994 “إما أن يكون وإما لا يكون، ولا وجود لدرجة ممكنة.. وإنّ أي شك (بخصوص صدقيّة ما يُروى) يقود إلى نتيجة سلبية”!
وبالتالي، لا يعود بمقدور ضمير الغائب في هذا الضرب من الكتابة أن يخلق مسافة موضوعية بين النص ومؤلفه، كما هو شأنه في الكتابة الروائية التخييلية. وهو، وإن كان استخدامه هو وضمير المخاطب جائزين في هذا الفنّ، إلاّ أن الأقوى، والأكثر حميمية أن تجري كتابة السيرة الذاتية باستخدام ضمير المتكلّم. فهل قادنا الحديث عن استخدام ضمير الغائب في الكتابة السيريّة إلى شيء؟ نعم، لقد استحضر إلى ذهننا أوّل، وربما أمتع سيرة ذاتية عربية كُتبت في الأدب العربي الحديث، ألا وهي “الأيام” لطه حسين، وبتذكّرها سنستذكر أيضا أنّ التقليد الذي اختطته، أيْ استخدام ضمير الغائب في الحديث عن الأنا، سيتواصل، وإنْ على نحو أقلّ إبهارا في كتاب “معي” وهو سيرة حياة شوقي ضيف، و”حصاد السنين” لزكي نجيب محمود، وفي المقاطع الثلاثة الأولى من “غربة الراعي” وهي السيرة الذاتية لإحسان عباس.
ومما لا شكّ فيه أن روادنا الأوائل جميعهم عرفوا ما يتطلبه حدّ السيرة الذاتية من الصدق فضلا عن الفنّية، بل الصدق أوّلا والفنيّة تاليا، وهي من الأمور التي تُعرف بالبديهة، وبمجرّد أن يخطّ المرء طريقه في درب الكتابة. ولكن، مَنْ فينا القادر على أن يبوح تماما بكامل مكنوناته، وأن يعطي لحظات السقوط ذات الأهمية التي يعطيها للحظات التألق والنجاح؟ فالصراحة كما يرى إحسان عباس في كتابه الرياديّ “فنّ السيرة”، “تُحطِّم المثال، وتشوه الأنموذج، وتسيء إلى الأخلاق، وترسم القدوة السيئة”. والخوف من اهتزاز صورة الأب المثالي هو ما عبّر عنه طه حسين في آخر الجزء الأوّل من “الأيام”، حينما قال مخاطبا ابنته “إنّي أخشى يا ابنتي إنْ حدّثتك بما كان عليه أبوك في بعض أطواره أن تضحكي منه قاسيةً لاهية”، وهذا ميخائيل نعيمة يقول في مقدمة السيرة التي كتبها عن رفيق عمره جبران خليل جبران “ثم إنّ في حياة كلّ إنسان أسرارا يكتمها عن الناس، وأنا قد وقفت على البعض من أسرار جبران.. فهل يليق أن أبوح ولو ببعض الذي أعرفه؟ وإنْ أنا كتمته فما معنى الذي أكتبه؟”.
ولكن، في أي بيوت عاش روادنا؟ من هم آباؤهم؟ وكيف كانت مدارسهم؟ وما الذي فعلته بهم التربية المنزلية القائمة على “التخويف والإرهاب”؟ وإلى من أشار توفيق الحكيم في تساؤله في “سجن العمر”، وهو الأول في سلسلة كتب أرّخ فيها الكاتب لمسيرة حياته، عندما سأل “لماذا لا تُحاك مثل هذه الأساطير… إلا في ما بعد دائما”. هذه الأسئلة وغيرها تستتبع بالضرورة أن تكون لحديثنا هذا بقيّة قادمة.