المراهقة معنا لتبقى
تقف الثقافة، بكل تبويباتها، متحيرة أمام تعاملها مع المراهق. فإلى حدّ عمر 12 عاما، لا يزال المعني طفلا يجلس في خانة البراءة، ويتم الحديث معه من خلال لغة بصرية. حكايات وأفلام كرتون ومجلات مصورة. مفردات الحديث أساسها التربية والتوجيه. يقيم الأبوان علاقة تكاملية مع المدرسة، وعادة ما تمرّ هذه المرحلة بلا مشاكل تذكر. حتى الشارع والجيران لديهما ما يقدمانه للطفل من تسامح وتقبّل وألفة وعين تتجاوز الأخطاء.
إذا تجاوز المراهق عمر 18 سنة، يتعامل المجتمع مع بالغ. ربما يستمرّ المعني مراهقا في سلوكه، لكن اندفاعه يبقى ضمن مسميات الشباب. وصمة “مراهق متمرد” صارت خلفه.
السنوات الست الفاصلة بين العمرين سنوات حرجة وصعبة. قصيرة جدا ومؤثرة جدا. متقلبة لا يستقرّ فيها المراهق على سلوك أو حال. تعصف به الهرمونات فتشكل مزاجه بشكل يومي. ويزداد الوضع سوءا إذا كان الابنَ الأولَ أو البنتَ الأولى. الأبوان بلا خبرة تقريبا في التعامل معهما، وثمة القليل من التجربة والكثير من الأخطاء. في مجتمعات عربية لا يزال فيها الآباء البالغون ومَن تقدّم بهم العمر يسألون المشورة في أغلب جوانب حياتهم، ماذا يمكن لمثل هؤلاء الآباء أن يقدموا لأبنائهم؟
حيرة الأبوين هي نفسها حيرة الثقافة مع المراهق. يمكن القول بكل ثقة إن الثقافة تكاد تهمله. لا تقدّم له الكثير مما يقرأه ولا تجده حاضرا في المنتوج الثقافي من سينما ومسرح وتلفزيون أو كتابة وأدب. يريد الكاتب أن يمدد ما يقدمه للأطفال لكي يشمل المراهق على أنه طفل صار يحلق ذقنه وفتاة مدللة تلحظ التغييرات في جسدها. ويريد السينمائي أن يستسهل الأمر فيتحدث عن الشباب ليشمل فئة المراهقة وهو يعرف في قرارة نفسه الفرق الهائل بين المرحلتين العمريتين. هل ينتج فيلما للمراهق أم عن المراهق؟ هل المراهق سوق مجدية للعمل الفني، أم أن ألعاب الفيديو أهمّ بالنسبة إليه؟ كم كتابا سيقرأ هذا “الطائش” أو تلك “النزقة” وهما محكومان باستكشاف نفسيهما واستطلاع علاقتهما مع الجنس الآخر؟
المراهق يعيش غربة ثقافية. يقول “لا أحد يفهمني”. وهو محق. فلهذا تراه متمردا. لا يوجد إطار واضح لتوصيف هذا التمرّد أو لاحتوائه. السيرة الذاتية لحياة مراهق هي لمحة زمنية يبدو أن الجميع يريد أن ينساها. المراهق نفسه لا يريد أن يتذكرها لأنها ليست المرحلة الأزهى في حياته، والآباء بدورهم يتناسونها لأنها تذكرهم بمرحلة العجز. والمثقف محتار في طريقة التعبير عن حال المراهقة وأوصافها. المثقف العربي الذي تعوّد الجزم والإفتاء، يتجنب هذه المصيدة الفكرية. حتى المثقف المتسلح بالتدريب الأكاديمي والمعرفي بحكم اضطلاعه بشؤون علم الاجتماع وعلوم النفس، تراه يتحدث عن نمطيات مستوردة من واقع غربي ودراسات تبدو بعيدة كل البعد عن واقعنا العربي.
المراهق غائب أدبيا لأن الأدباء يتعثرون في صنع الصورة التي يريدون أن يبرزوا من خلالها فهمهم لتلك المرحلة العمرية. في أغلب الأحيان يتم الاستسهال ويختزل التعبير بالمحركات الجنسية ودوافعها الغريزية. وفي مجتمعات يطاردها الإحساس بالذنب ويقلقها الابتعاد عن الورع الديني، يصير من السهل لوم المراهق أو لوم التربية التي وفّرها الأب والأم لابنهما وابنتهما. صورة المراهق المتهتك بين الجنس والمخدرات والعبث البريء أو الخبيث مع الأصدقاء هي الصورة النمطية التي تُنقل إلينا في تلك المشاهد القليلة التي تجسّدها السينما عن حياة المراهقين. لا شك أن المراهقين الذين يتفرجون على هذه الأفلام يضحكون في سرهم على سذاجة التركيبة السينمائية التي تقدمهم أو التي تخاطبهم. “لا أحد يفهمنا” تقال مرة أخرى.
في فراغ الاهتمام من جهة والتقصير في التقديم من جهة أخرى، جاء من يصطاد في سنوات المراهقة هذه ليقوم بالتأسيس للتطرف الديني أو الغوغائية الاجتماعية وليختطف روح المراهقين ويحوّلها إلى مشروع سياسي أو قنبلة طائفية أو اجتماعية تخدم مصلحته. إنه مشهد أشبه بربط عيني المراهق والطلب منه الضغط على الزناد ليجد بعد رفع غمامة العين أنه أصبح متورطا في تصفية جسدية أو جريمة، فما يعود له من خيار إلا الاستمرار فيها.
الاهتمام بصورة المراهق أمام نفسه وأمام المجتمع ضرورة ملحة لا يمكن أن تترك للاعتباطية السائدة اليوم، أو على طريقة نسيانها، فالزمان يتكفل بها طالما أنها عابرة. ليس من المبالغة القول بأن جانبا كبيرا من أزمة المجتمع العربي، سياسيا وثقافيا وفكريا، إنما ابتدأت في سنوات المراهقة الغضة تلك.
لا شيء عابرا في حياتنا، فكل شيء يترك أثرا لا يمحى أبدا.