وعي الحداثة.. التفكير في الحداثة السياسية أم في غيابها
لقد اقتضت الحداثة السياسية -كما حددها روبرتس وهايت (من الحداثة إلى العولمة)- بعـقلنة السلطة واستبدال السلطات الدينية والعرقية بسلطة سياسية وطنية مفردة، وإصرار على السيادة العليا الظاهرية للدولة الوطنية مقابل القوى المحلية، أنها تعني انسجاما وطنيا، ومركزة أو تجمع القوة في مؤسسات التشريع الوطنية المعترف بها.
ويتطلب التحديث السياسي تمايزا في وظائف سياسية جديدة، وتطور بنى متخصصة لإنجاز هذه الوظائف. وتصبح مجالات الكفاءات الخاصة مفصولة عن عالم السياسة، ويتم توزيع الإدارة والسلطة حسب الكفاءة والأهلية لا حسب العلاقات القرابية والولائية. وكل هذا يمكن استلهامه نظريا وتبنيه تاريخيا رغم ما تبدو عليه العقلانية والاندماج والتمايزات طبقا للكفاءات ذات العلاقة المعتمة بالكامل مع الواقع.
نعم إن الحداثة نشأت في سياق غربي إذا ما نظرنا إليها بوصفها تعبيرا عن مرحلة تاريخية مرّ بها الغرب ولكنها تمثل أيضا وفقا لتعريف محمد أركون، انفتاحا للروح البشرية تجاه مشكلات المعرفة والوجود. وفيها حتى الكلام الإلهي يتخلص من أشكال الهيمنة المُستندة على التقليد أكثر من استنادها على التاريخ والتي تنشر الظلمات التي يتعين على الأنوار أن تقشعها أيضا، طبقا لتورين.
فهي التي أنتجت على مستوى الوعي السياسي مفهوم الدول/الأمة، ودولة القانون، والنظام البيروقراطي، والعلمنة، واستقلال المجال السياسي، ومفهوم الديمقراطية، ومفهم المواطنة، والمجتمع المدني، وحقوق الإنسان؛ بالإضافة إلى التفسير العقلاني والعلمي للطبيعة وإنجازات التكنولوجيا.
هم النخبُ السياسيةُ الوحيد، عندنا، هو الصراع على السلطة من دون الاهتمام الجدي بتأسيس شكل للحكم يكون معيارا لشرعية السلطة، فهي فئات تُفكرُ في بناءِ تسلطيتها السياسية والدينية
لقد مرت الحداثة الغربية في سياق تاريخي طويل مليء بالتحولات. وقد ميز ليو ستروس ثلاث موجات متلاحقة للحداثة في الفلسفة السياسية: الأولى، تعد المؤسسة للتمثلات الليبرالية في الفكر والممارسة السياسية، وتبرز في مضادّتها للفكر السياسي اللاهوتي والمشخصة في الأعمال الفكرية لمكيافيللي.
أما الثانية، فتحملها الأنوار أو عقل عصر التنوير الذي يضع الإيمان خارج نطاق هذا العقل؛ أي في خانة القداسة السحرية، وتضع لنفسها هدفا واضحا ومحددا ألا وهو جعل العلم معتقدا شعبيا شائعا على نطاق واسع، وتحمل في تعبيراتها موقفا نقديا أساسيا يلازم تطورها متجليا في فلسفة روسو. والثالثة، متولدة عن النزعة الوضعية العلمية وعن النزعة التاريخانية المتجلية في خط هيجل وأوغست كونت.
إن السؤال المطابق لا يتعلق بقيمة التفكير في مفاهيم الحداثة وقيمها في الوقت الذي تغيب فيه عن المجال الحضاري العربي، إنما السؤال عن الأسباب التي منعت تطور الأوضاع التاريخية لقيام الحداثة السياسية هنا تحديدا.
وإن القول بأننا لا نزال في مرحلة ما قبل الحداثة والعقلانية، أي في عصر الاستبداد، والمجتمع الذي تتحكم به الذهنية الطائفية والقبلية والفئوية، والنظرة السحرية والغيبية للوجود، وعدم الفصل بين المجتمع والدولة والسلطة، لا يلغي أن نتأمل تجارب الأمم الأخرى أولا ونستلهم قيمها ونقوم بفعل التبني التاريخي لمنجزاتها ذات الصلاحية والفاعلية لأوضاعنا الاجتماعية، أي أن نستفيد منها وأن نتطلع لأن نحقق حداثتنا مستقبلا، طبعا لا يعني ذلك أننا عندما نتفكر في سياقات تشكل الحداثة الغربية بأننا نحتاج أن نعيد المسار نفسه، أي نرجع إلى نقطة في التاريخ الغربي تعود إلى أكثر من ثلاثمئة عام ولكن التفكير في ممكنات الدخول في الحداثة فورا.
نعم هناك استبداد متجذر وممتد طويلا في العالم العربي ولكنه مسألة تاريخية وليست حالة جوهرية قارة؛ أي أنها ليست ظاهرة ثابتة وقدرا محتوما لا يمكن تغييره على كل حال. صحيح لا تزال تجاربنا متعثرة منذ أواسط القرن التاسع عشر وحتى اليوم، وصحيح أخفقت مشاريع النهضة العربية، وفشلت الأيديولوجيات القومية والإسلامية والماركسية والليبرالية كافة؛ وفشلت الدعوات الوطنية والديمقراطية كافة، كما فشلنا في بناء الدولة الوطنية ذات السيادة الحقيقية، وفي تحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة والمساواة الاجتماعية والاقتصادية والحرية السياسية، ونكصنا عن بناء المواطنة القائمة على أساس القيم المشتركة والمصالح المشتركة واعتبرناها من باب تحصيل الحاصل، ومكر بنا التاريخ الذي تحدث عنه هيجل، فلم يتم الانتقال من الفرد الطائفي إلى الفرد المواطن.
الحداثة نشأت في سياق غربي إذا ما نظرنا إليها بوصفها تعبيرا عن مرحلة تاريخية مرّ بها الغرب ولكنها تمثل أيضا وفقا لتعريف محمد أركون، انفتاحا للروح البشرية تجاه مشكلات المعرفة والوجود
المشكلة أن هـذه المجتمعات تجد نفسها دائما مشـدودة دائما إلى الخلف وتعاني مـن ظاهـرة الفشـل والإخفـاق بفعل هيمنة التسلطية السياسية سابقا والطائفية لاحقا. إن النظر في العوامل الاجتماعية للاحتجاجات السياسية يكشف أنها ناتجة عن فشل نموذج التحديث الذي توعد به أنظمة الحكم منذ أكثر مـن نصف قرن وعن إخفاق هذه الأنظمة في إدارة حياة سياسية سلمية فقد مارست تلك الأنظمة الحكم بطريقة تسلطية عنيفة لا عقلانية ومسدودة الآفاق.
إن هذه الاحتجاجات العنيفة والمتطرفة التي يمر بها المجتمع لا يمكن أن تعزى إلى عامل وحيد ولكنها تعود إلى عمق المتناقضات والتوترات الاجتماعية والسياسية التي تنشأ وتنمو في جو الأزمة الشاملة التي تفتك بالمواطنين والاقتصاد والدولة نتيجة سياسات فاشلة؛ أي جو أزمة النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. إن هذه الحركات تشكل كما هائلا مـن المطالب والتركيبات الأيديولوجية التي تحيلنا إلى مقدرة الأيديولوجيا على تغذية المتخيل الاجتماعي وإشعـال لهيبه وعلى الآلية الوظائفية التي يتجلى بها هذا المتخيل.
هم النخبُ السياسيةُ الوحيد، عندنا، هو الصراع على السلطة من دون الاهتمام الجدي بتأسيس شكل للحكم يكون معيارا لشرعية السلطة، فهي فئات تُفكرُ في بناءِ تسلطيتها السياسية والدينية وشتان بين من يريد أن يؤسس لمنطق الدولة الحديثة ومن يريد ترسيخ تسلطيته وتأبيدها.
من مشكلاتنا، أيضا، التعامل مع منجزات الحداثة بطريقة تسطيحية وهشة ولا تعبر عن خيارات فعلية من أجل فتح تاريخ آخر ومختلف لمجتمعاتنا، والمثال الفاقع على ذلك تجربة العراق مع آليات الديمقراطية، لقد تمت انتخابات كانت أشبه ببيعة طائفية ومزوّرة، وتم تشكيل حكومة المحاصصة “الوحدة الوطنية” وتشكيل “برلمان” وسن “دستور” و”فصل بين السلطات” ولكن كل هذه الآليات والإجراءات الديمقراطية لم تخلص المجتمع العراقي من الاستبداد.
المشكلة، إذن، لا تتعلق بالحداثة وسياقاتها عموما ولكن تتعلق بطريقة تعاملنا مع هذه الحداثة، وطريقة تلقيها، وكيفية الاستفادة من منجزاتها، فليس من الممكن تعقله مثلا أن الغرب ينتقل إلى ما بعد الدولة/الأمة ومجتمعاتنا تتراجع حتى عن المكتسبات التي حققتها على الأقل في المئة سنة الماضية، فتعود إلى عصر ما قبل الدولة وهو تعبير عن غياب العقل الموضوعي أوالعقلانية؛ أي تعود إلى دولة الفئات المتناحرة والمجموعات الطائفية والعرقية في ما قبل تشكيل الدولة الوطنية.