مغامرة ترجمة الشعر.. بين الاستحالة والإمكان
تمثّل قضيّة ترجمة الشعر أبرز القضايا المتعلّقة بالترجمة وأكثرها إثارة للنقاش بين أطراف متعدّدين من شعراء ونقّاد ومترجمين وقرّاء. وهي تكاد تستقطب كلّ جدل حول الترجمة الأدبيّة وتُتخذ عنوانا للموقف الذي يتبنّاه شخص ما من إمكان الترجمة أو استحالتها، ناقشها قديما هوراس والجاحظ، وناقشها حديثا ياكوبسون وميشونيك، وحولها تحوم مجموعة من المصادرات والأحكام المسبقة التي جعلت المواقف حيالها تتسم بطابع ثنائيّ: ففريق، وهو الأغلبيّة المطلقة، يميل أصحابه إلى رفض ترجمة الشعر لاعتقادهم أنّ نقل الشعر من لغة إلى أخرى أشبه بالسراب الخلّب، ويمثّل هذا الفريقَ النقّادُ وعلماء اللغة وعامّةُ القرّاء. أمّا الفريق الثاني، وهو قلّة، فيقرّ أصحابه بصعوبة ترجمة الشعر ولكنّهم لا يرون استحالتها.
ومن الطريف أن نلاحظ أنّه رغم هيمنة الموقف الأوّل طيلة تاريخ الشعر ورغم تكرّس القول باستحالة ترجمة الشعر وكأنّ ذلك أمر بديهيّ، فإنّ ترجمة الشعر مع ذلك لم تنقطع ولم تنِ تتطوّر وتتراكم تجاربها في شتّى اللغات والآداب. ولئن أحجم العرب في أوج ازدهارهم الأدبيّ والحضاريّ عن ترجمة أشعار غيرهم لأسباب سنأتي على ذكرها، فإنّهم منذ عشرينات القرن الماضي تفطّنوا إلى ضرورة الإقبال على نقل الشعر الغربيّ إلى اللغة العربيّة، وإلى أهميّةِ ذلك في إثراء التجربة الشعريّة العربيّة وتطويرها. فطفقوا ينقلون عيون الشعر الحديث لكبار شعراء الغرب أمثال بوشكين وبودلير ولامرتين ورودزويرث، وكيتس، وسان جون برس… فانعكست هذه الترجمات إيجابا على حركة الشعر العربيّ، وساهمت في قلب الذائقة الشعريّة وتثوير بنية القصيدة وتغيير معجمها. ومع ذلك مازال الكثير من النقّاد يتمسّكون بالحكم القديم عن استحالة ترجمة الشعر، ومازال الكثير من القرّاء يقبلون على القصيدة المترجمة وقد أعدّوا أنفسهم مسبقا لقراءة نصّ رديء بالضرورة ويجعلون مبلغ همّهم، إذا كانوا يعرفون النصّ الأصليّ، تقصيَّ مظاهر خيانة المترجم وتشويهه القصيدة الأم، اعتبارا منهم أنّ المترجم هو بالضرورة “خائن خوّان” فما بالك إذا كان المترجَم نصّا شعريّا.
لذلك أردنا من هذه الورقة مناقشة هذا الرأي وتبيين حدوده وإبراز وجوه إمكان ترجمة الشعر. وقد اخترنا أن ننطلق في هذه المناقشة من زعيم القائلين باستحالة ترجمة الشعر: أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ.
استحالة ترجمة الشعر
يقول الجاحظ في كتابه “الحيوان“، “وفضيلة الشعر مقصورة على العرب، وعلى من تكلّم بلسان العرب، والشعر لا يستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حوّل تقطّع نظمه وبطل وزنه وذهب حسنه وسقط موضع التعجّب لا كالكلام المنثور” (الحيوان، دار الجيل، بيروت، 1996،ج 1- ص 74-75).
فعندما توفّر رصيد حضاريّ مهمّ من التواصل بين العرب والغرب في بداية القرن العشرين عبر الرحلات والبعثات العلميّة والتجارب الشخصيّة، وعندما أدرك العرب أنّ الشعر ليس حكرا عليهم بل هو شائع بين كلّ الحضارات والألسن، وعندما مسّت العرب حاجةٌ ملحّة إلى ترجمة شعر غيرهم لاكتشاف آداب الآخر من جهة وتطوير أدب الذات من جهة ثانية، عندها أقبلوا على الترجمة في حماس ولهفة. فأصبحت ترجمة الشعر ركنا ثابتا
يتبيّن من قول الجاحظ أنّه يربط رفض ترجمة الشّعر بفكرة مسبقة كانت سائدة عند العرب قديما يأخذونها مأخذ البديهيّات وهي اعتبار الشعر ميزة اللغة العربيّة وفنّا من القول لا تشاركهم فيه بقيّة الأمم. وهي فكرة خاطئة طبعا إذ الشعر شائع بين كلّ اللغات والحضارات كما أنّ الوزن ليس خاصّا بالشعر العربيّ فحسب بل هو مشترك بين كلّ الأشعار.
استند الجاحظ إلى هذا الرأي إذن ليجعله سنده في رفض نقل الشعر، ذلك أنّ اللغات التي سيُنقل إليها الشعر العربيّ تفتقر إلى الحضن اللغويّ المؤهّل لاحتضان الشعر العربيّ. فالعائق الأوّل هو غياب المقابل اللغويّ والتعبيري في اللغات الأجنبيّة، فتغدو ترجمة الشعر سيرا في عتمات المجهول وإلقاء بالشعر في صحراء العمه والتّيه. هذا هو السبب الخارجيّ المانع لترجمة الشعر. أمّا السبب الثاني فداخليّ بنائيّ يهمّ خصائص القول الشعريّ نفسه ويتمثّل في اشتمال الشعر على عناصر فنيّة تميّزه من النثر وتمنح الخطاب هويّته الشعريّة، فلا يكون الشعر دونها شعرا. وهي عناصر أربعة: النظم (تقسيم الكلام إلى صدر وعجز وانتهاء كلّ بيت بقافية متواترة من بيت آخر)، والوزن (وهو أشكال مجرّدة رمزيّة جمعها العرب في بحور يتقيّد بها الشاعر ويجري الكلام مجراها)، والحسن (وتجسّده الأساليب البيانيّة والحسنات البديعيّة والإيقاع الداخليّ والخارجيّ)، وموضع العجب (وهو ما يوقعه الشعر في نفس سامعه من أثر وما يبعث فيه من مشاعر وما يوقظ فيه من أفكار ورؤى لا يحققّها المعنى الأوّل للقصيدة بل معانيها الثواني التي لا تحدّ).
لا سبيل إذن إلى ترجمة الشعر لاستحالة بلوغ الهدف الذي تسعى إليه كلّ ترجمة: وهو مطابقة النصّ الأصليّ في مبناه ومعناه. فلا إمكان البتّة لأن يكون النصّ المترجَم وفيّا لبنية القصيدة العربيّة ووزنها وقافيتها ووجوه المجاز فيها فضلا عن عنصر آخر أهمله الجاحظ وهو السياق الثقافي والحضاريّ الذي يفعل فعله في النصّ ويصوغ معجمه ومعانيه. والمعضلة الكأداء الأخرى هي كيف نترجم ما لا يُرى في القصيدة وهو جوهر الشعر ذاك الذي يصطلح على تسميته بـ”الشعريّ”، أي كيف نترجم ما يسمعه متلقّي النصّ في صمت وما يراه قارئ القصيدة في بياضها، كيف نترجم ما لا يقوله النصّ؟ كيف نترجم المعاني الثواني؟ وكيف نترجم التفاعل الوجداني مع النصّ؟ وكيف نترجم ما تنقله القصيدة الواحدة من أصداء خفيّة لآلاف القصائد من جنسها؟ كيف نترجم التناص؟ وكيف ننقل إلى الآخر روح الشعر؟
ثمة سبيل واحدة حسب الجاحظ لنقل الشعر هي تحويله إلى نثر بإعادة صياغة معاني القصيدة صياغة نثريّة مرسلة لا نظم فيها ولا وزن ولا حسن ولا موضع تعجّب. وهذا الحلّ مستهجن عند الجاحظ مرذول لسببين: أوّلهما أنّ النثر في لغته الأصليّة أجمل وأوقع أثرا منه في لغة مترجمة، وثانيهما أنّ الآخر عندما يقرأ معاني الشعر مترجمة نثرا سيجدها تكرارا لما ألف من معاني في النثر الذي يُكتب في لغته، ذلك أنّ المعاني حسب الجاحظ شائعة بين الأمم ولا يقوى العرب على منافسة العجم فيها.
واضح من قول الجاحظ أنّ رفضه نقل الشعر يرتبط برؤيته النقديّة الأدبيّة لماهية الشعر. والجاحظ لا يختلف في ذلك عن الأغلبيّة السّائدة من النقّاد العرب قديما وحديثا في تعريف الشعر بالتركيز على جانب واحد منه هو الوزن. كما يرتبط هذا الموقف برؤية الجاحظ للترجمة، إذ يعتبرها نقلا وفيّا للنصّ الأصليّ يحقّق به المترجم تطابقا كاملا مبنى ومعنى مع نصّ من ترجم له. ولكن هيهات بلوغ ذلك والشعر العربيّ موزون مقفّى ولغات الآخرين في رأي الجاحظ، لا تعرف الوزن والقافية، بل هي جاهلة بالشعر إذ هو مقصور على العرب.
ومن الطّريف أنّ أبرز المدارس والاتّجاهات النقديّة في القرن العشرين كالإنشائيّة واللسانيّات والبنيويّة قد وقفت من ترجمة الشعر بل من الترجمة الأدبيّة عامّة موقفا شبيها إلى حدّ بعيد بموقف الجاحظ. فرأى ياكوبسون بناء على التمييز بين لغة الشعر ولغة النثر والتسليم بأنّ الشعر قائم على الإحالة الذاتيّة ومفهوم العدول، أنّه تستحيل ترجمة الشعر. ذلك أنّ نقله سيمثّل تعسّفا على طبيعته الإنشائيّة (الإحالة الذاتيّة) وسيفقده أبرز سماته (العدول)، ولن يجد قارئ النصّ المترجم ما ينسيه النصّ الأصل. يقول ياكوبسون “والشعر بحكم تعريفه لا يُستطاع أن يترجم وليس بممكن إلاّ نقله نقلا خلاّقا” (ذكره محمد عجينة: الترجمة الأدبيّة، رحاب المعرفة، السنة 4، عدد 21، مايو- يونيو 2001، ص 92).
وذهبت اللسانيّات استنادا إلى أبرز مبادئها، مبدأ الفصل بين الدّال والمدلول، واعتبار العلاقة بينهما علاقة اعتباطيّة، إلى القول باستحالة الترجمة الأدبيّة عامّة. ذلك أنّ ترجمة ملفوظ النصّ (الدّال) لا تضمن بأيّ حال من الأحوال ترجمة المضمون (المدلول) لما بينهما من تباعد أوّلا، ولأنّ النصّ المترجَم سيخلق علاقة جديدة في اللغة المنقول إليها بين دال ومدلول جديدين. وبذلك فالنصّ المترجم هو نصّ قائم بأصله لا علاقة له بالنص الأصل.
أما البنيوية فلتعاملها مع النص الأدبيّ على أنّه نسق لغويّ مغلق على ذاته، ذو حدود نهائيّة لا تربطه صلات مادية حقيقيّة بالمرجع الواقعيّ، فقد استبعدت إمكان ترجمة الشعر إذ أنّ كلّ ترجمة هي خلق لنصّ جديد ولأنّ كلّ ترجمة تفرض على المترجم فتح النصّ على السياقات التاريخيّة والنفسيّة والاجتماعيّة والحضاريّة وهو ما ترفضه البنيويّة رفضا مطلقا.
ويبدو أنّ محمد الهادي الطرابلسي في مناقشته الجاحظ قد تأثّر أيّما تأثّر بآراء الإنشائيّين واللسانيين والبنيويّين فمال مع قليل من التعديل إلى موافقة الجاحظ على استحالة ترجمة النصّ الشعريّ فحسب بل النصّ الأدبيّ عامّة. يقول “قد نتوهمّ أنّنا وفقنا إلى ترجمة أدبيّة النصّ إذا ما اجتهدنا في إخراج نصّنا في اللغة المنقول إليها مخرجا أدبيّا. ولكنّ الحقيقة أنّنا نكون إذ ذاك قد ولّدنا نصّا جديدا غير النصّ الأوّل، ولّدناه عن طريق قراءتنا للنصّ الأصليّ، فسبيلنا في هذا الباب هي سبيل القراءة لا الكتابة وسبيل التوليد لا سبيل المحاكاة” (بحوث في النصّ الأدبيّ، الدار العربية للكتاب، تونس 1988، ص103). وقد رأى الطرابلسي أنّ أمام المترجم الأدبيّ ثلاثة إمكانات لا يؤدّي أيّ منها إلى الترجمة وهي: الاقتباس أو الشرح والتفسير بتحليل الأساليب المخصوصة والإيحاءات المختلفة التي تصحبها، أو التبديل والتوليد بالبحث عن إيحاءات جديدة قريبة من الإيحاءات الأولى. ولمّا كان كلّ طريق من هذه الطرق مسدودا لا يلبّي رغبة المترجم، فقد فرغ الباحث إلى أنّ ترجمة النصّ الأدبيّ عمليّة مستحيلة.
إنّ مجمل هذه المواقف الملتقية في رفض ترجمة الشعر تنطلق من مسلّمة أساسيّة مفادها أنّ المترجم لا بدّ أن يكون أمينا للنص الذي يترجم ولا تكون الأمانة إلاّ بمطابقة ترجمة النصّ الأصليّ في مبناه ومعناه، ولذلك يجد المرء أنه من العسير فعلا بلوغ مثل هذه الترجمة في الشعر. كما أنّ هذه المواقف تنطلق من تصوّر سكوني للنصّ الشعريّ، فهو مع الجاحظ وزن وقافية، ومع الإنشائيّين استعمال مخصوص للغة يختلف جذريّا عن استعمال النثر إيّاها، وهو مع البنيويّين فصل تامّ للقصيدة عن سياقها التلفظي ومراجعها الواقعيّة الحضاريّة.
إمكان ترجمة الشعر
يجب أن نشير في بداية هذا القسم من التحليل إلى أنّ إمكان ترجمة الشعر أمر قائم في الواقع ولا يحتاج تدلالا عليه إلى التنظير والتقعيد، ويكفي برهانا عليه الكمّ الضخم من القصائد التي تنقل يوميّا وتترجم لا بين عدد محدود من اللغات بل داخل اللغات العالميّة الحيّة جميعها. صحيح أنّ هذا الواقع القائم لا ينفي عسر ترجمة الشعر وصحيح أنّ الأغلب الأعمّ من هذه الترجمات ضعيف من الناحية الفنّية. ومع ذلك فسواء أحبّ المعترضون على ترجمة الشعر أو كرهوا، فإنّ قيام حركة ترجمة شعريّة نشيطة جدّا دليل على إمكان هذا الفعل الأدبيّ المعرفي الحضاريّ.
وكثيرا ما استند أصحاب الموقف الأوّل من ترجمة الشعر دعما لموقفهم، إلى غياب حركة ترجمة الشعر قديما، ففُسّر إحجامُ العرب عن نقل أشعار غيرهم باستحالة الترجمة عامّة. إلّا أنّ المتأمّل المتريّث يتبيّن له كما ذهب إلى ذلك المنصف الجزّار (الترجمة الأدبيّة، ضمن: الترجمة ونظريّاتها، بيت الحكمة 1989)، أنّ وراء استنكاف العرب عن ترجمة الشعر أسبابا حضاريّة ونفسانيّة أهمّها: اقتناعهم الجازم بأنّ الشعر ديوانهم وفنّهم الذي لم يُعْطَهُ غيرهم من الأمم، ومن ثمّة انعدم إحساسهم بالحاجة إلى ترجمة شعر الفرس والهنود والإغريق في حين أوجبت عليهم الضرورة الحضاريّة وجوب الإسراع بترجمة فلسفة هذه الأمم وحكمتها وعلومها. كما أنّ ثمة عاملا حضاريّا مهمّا جعل العرب يزهدون في ترجمة الشعر وهو عدم توفّر تراكم من التواصل الإنسانيّ الحضاريّ يسمح بترجمة أرقى التعبيرات الثقافيّة وأعسرها على النقل: الشعر. فعلّة غياب ترجمة الشعر قديما ليست في النصّ الشعريّ ولا في فعل الترجمة وإنّما هي في السياق الحضاريّ الحافّ بالترجمة.
لذلك فعندما توفّر رصيد حضاريّ مهمّ من التواصل بين العرب والغرب في بداية القرن العشرين عبر الرحلات والبعثات العلميّة والتجارب الشخصيّة، وعندما أدرك العرب أنّ الشعر ليس حكرا عليهم بل هو شائع بين كلّ الحضارات والألسن، وعندما مسّت العرب حاجةٌ ملحّة إلى ترجمة شعر غيرهم لاكتشاف آداب الآخر من جهة وتطوير أدب الذات من جهة ثانية، عندها أقبلوا على الترجمة في حماس ولهفة. فأصبحت ترجمة الشعر ركنا ثابتا في الدوريّات العربيّة من “المقتطف” إلى مجلتي “شعر” و”الأقلام”، وترجمت بعض القصائد مرّات لا تعدّ. وأشهر مثال على ذلك قصيدة “البحيرة” للامرتين التي نقلت إلى العربية في ما لا يقلّ عن عشرين مرّة.
والسؤال الذي يطرح: إذا كان من العسير فعلا ترجمة الشعر، وإذا كان بالإمكان بعد تعلّم نخبة الأدباء والقرّاء العرب للّغات الأجنبيّة قراءةُ النصوص الشعرية العالمية مباشرة دون واسطة من الترجمة: فلماذا نترجم الشعر بدل التمتّع به في لغته الأصليّة؟
تبدو الحاجة إلى ترجمة الشعر أمرا مشتركا بين منتج النصّ ومتقبّله في مستوى أوّل فرديّ، وبين اللغات والحضارات في مستوى ثان جماعيّ. فمنتج النصّ الأصليّ يرى في نقل نصّه إلى لغات أخرى عنوانا على النجاح الأدبيّ وضمانا للانتشار ووسيلة لتجدّد نصّه وبلوغه قرّاء جددا. أمّا متقبّل النصّ ولا سيما إذا كان مبدعا شاعرا، فلن يردّه حذقه لغة النصّ الأصلية وقدرته على التمتّع بالنصّ في لغته الأمّ عن الرغبة في ترجمته متى أعجب بالنصّ وعايش صاحبه الجوّ الوجداني الذي ألمّ به حين إنشاء القصيدة. فحبّ الترجمة، ترجمة النصوص الإبداعيّة العظيمة، والشوق العارم الحارق إلى سرقة النصّ من صاحبه وكتابته كتابة جديدة في لغة المترجم، متأصّلان في ذات المترجم، يأخذان بلبّه كما تأخذ بالمبدع جمرة الإنشاء، لا يهنأ ولا يرتاح حتّى يحوّل النصّ الذي أعجب به إلى لغته. فللترجمة لواعج وآلام ومخاض مثلها مثل الإبداع، والقدرة على التمتّع بالنصّ الأصليّ لا تشفي غليل المترجم المبدع بل لعلّها لا تزيد ناره إلاّ أوارا. وربّما لهذا السبب كان عظماءُ المبدعين هم عظماءَ المترجمين من غوته إلى بودلير وأدونيس وسعدي يوسف. أفلم يكن أولى لهؤلاء أن ينشئوا قصائدهم بدل ترجمة قصائد غيرهم لولا أنّهم وجدوا في فعل الترجمة من الثراء المعنويّ وتحقيق الذات ما يضاهي ما يجدون في فعل الكتابة؟ بل لعلّ في الترجمة لذّة لا توجد في الكتابة، فهي تتيح لنا أن نحقّق ما حلمنا به أطفالا من رغبة في التنكّر والاختفاء عن أعين من يعرفوننا والحلم بالحلول في نفوس الآخرين وأجسادهم وأقوالهم. كما أنّ الترجمة تتيح إمكان أن نختلس أملاك الغير ولكن بطريقة شرعيّة وبمباركة من المالك الأصلي وتشجيع…
على أنّ المترجم الفرد وهو يلبّي بالترجمة حاجة فرديّة إنّما هو ينخرط، سواء وعى بذلك أم لم يع، في سياق أدبيّ وحضاريّ أكبر يجمع لغته بغيرها من اللغات. فكلّ أدب في حاجة إلى الاستمرار والتجدّد، إلى أن يرى نفسه في لغات أخرى، وهو في حاجة كذلك إلى أن يستوعب نصوص الآداب الأخرى ويكتبها بلغته فيطّلع على تجارب الآخر ويحتكّ بها. ولولا الترجمة لبات كلّ أدب سجين حدوده الضيّقة كالنزيل في جزيرة منعزلة لا يصله منها غير صداه مشوّها. ومثلما أنه لا يمكن للمرء أن يتخيّل أنّ بمستطاع حضارة ما أن تستغني عن ترجمة النصوص المتعلّقة بالاقتصاد والصناعة والطبّ، فكذلك لا يمكننا أن نتخيّل أدبا قادرا على العيش دون ترجمة نصوص غيره. والناظر في ما ترجمه العرب عن غيرهم طيلة القرن العشرين يلاحظ أنّ حركة الترجمة كانت تسير جنبا إلى جنب في تعالق جدليّ مع تطوّر حركة الشعر العربيّ. ففي بداية القرن غلبت ترجمة الشعر الرومنطيقيّ العربيّ في الوقت نفسه الذي ظهرت فيه بوادر اتجاه رومنطيقيّ عربيّ مع أدباء المهجر وبعض إسهامات مدرسة الديوان. أمّا في الخمسينات فقد فتحت مجلّة “شعر” صفحاتها لترجمة نصوص شعريّة تتمرّد على الوزن وتؤسس لقصيدة جديدة تتناقض في تصوراتها للشعر مع كلّ الأنماط الشعرية السائدة وكانت هذه الترجمات تصدر في الوقت نفسه الذي ينشر فيه أعلام جماعة “شعر” كأدونيس وأنسي الحاج ويوسف الخال نصوصا تبشّر بقصيدة النثر أفقا جديدا لتطوير الشعر العربيّ. أمّا في الستينات والسبعينات فقد اشتدّ انجذاب المترجمين العرب إلى نقل الشعر السياسيّ الثوريّ في وقت طغى فيه على الشعر العربيّ صوت الالتزام والدّعوة إلى تغيير الواقع.
إنّ ترجمة الشعر إذن واقع قائم الذّات يحقّق بها المبدع والمترجم والأدب والحضارة حاجات أساسيّة لا يحققّها لهم الإبداع أو القراءة. ولكن ما نصيب هذه الترجمات من النجاح الفنيّ وما هي الشروط الأساسيّة لإمكان ترجمة الشعر؟
شروط ترجمة الشعر
لإمكان ترجمة الشعر لا بدّ حسب رأينا من توفّر ضربين من الشروط: شروط نظريّة مفاهيميّة، وشروط تطبيقيّة فنيّة. فأمّا الشروط النظريّة فيمكن تلخيصها في عناصر ثلاثة هي:
أولا: التخليّ عن الفهم التقليديّ للشعر على أنّه نظم ووزن فحسب والتعامل مع الإيقاع تعاملا أوسع أفقا من التعامل التقليديّ. وبهذا يمكن للمترجم التصرّف في البحث عن البنية الإيقاعيّة الموسيقيّة الملائمة للنصّ الأصليّ.
ثانيا: إعادة النظر في التقسيم الثنائيّ الحادّ بين لغة خاصّة بالنثر وأخرى خاصّة بالشعر والأخذ بعين الاعتبار عند تحديد أدبيّة النصّ عناصر أخرى تنتمي إلى سياق التلفظ ولا تقتصر على الملفوظ من قبيل: العلاقة بين الباثّ والمتقبّل، وصلة النصّ بالأنساق الثقافيّة والأخلاقيّة والحضاريّة الحافّة. ذلك أنّ حسن تحليل حركة النصّ في العالم ضروريّ جدّا للمترجم.
ثالثا: التحرّر من ثنائيّة الخيانة والأمانة وفق التصوّر السّائد عنها وبناء مفهوم جديد لمسألة الوفاء للنصّ الأصليّ الذي يبقى دائما أفقا فنيّا ومعرفيّا وأخلاقيّا يلتزم به المترجم ويحلم بالوصول إليه. ولكنّ الأمانة في الترجمة لا تعني مطابقة النصّ مطابقة حرفيّة. فعلاوة على أنّ ذلك الأمر أعسر من الصعود إلى القمر فإنّه سينتج لنا نصوصا ركيكة هي عبارة عن تنضيد لمقابلات لغويّة قاموسيّة لا صلة لها بالشعر. وفي ذلك أكبر خيانة يمكن أن يقترفها المترجم تجاه صاحب النصّ. إنّ الأمانة في ترجمة الشعر هي أن يبذل المترجم المبدع قصارى جهده لينشئ بترجمته نصّا شعريّا يضاهي النصّ الأصليّ في إبداعه وعبقريّتة وقدرته على التعبير عن الحالة الوجدانيّة القريبة ممّا عاش الشاعر وهو يخلق نصّه أوّل مرّة. وبذلك يضمن التأثير في قارئ النصّ المترجَم كما أثّر الشاعر في قارئ النصّ الأصليّ.
أمّا الشروط التطبيقيّة فهي كثيرة لا حدّ لها، إذ ترتبط بممارسة الترجمة وهي ممارسة مفتوحة على الطّارئ وغير المنتظر. لذلك فهذه الشروط ترتبط إلى حدّ بعيد بخبرة المترجم ودربته على نقل النصوص. لكن إجمالا يمكن أن نحدّدها في أربعة عناصر:
أولا: ضرورة التريّث في إنجاز الترجمة وعدم التسرّع أو التقيّد بآجال محدّدة. ومعنى ذلك أنّ الدّافع إلى الترجمة ينبغي أن يكون دافعا إبداعيّا في المقام الأوّل لا عقدا يربط المترجم بجهة ما لا يرى فيه المترجم غير عائد ماليّ. إنّ طول مدّة الترجمة أمر على غاية من الأهميّة لأنّه يساعد المترجم على معايشة النص والنفاذ إلى روحه وإدراك كلّ خصائصه الفنيّة والإلمام بشتّى الصلات التي تربطه بالسياقات المعرفيّة.
ثانيا: ضرورة مرور الترجمة بمرحلتين كبريين تنقسم كلّ منهما إلى مراحل فرعيّة وهما: مرحلة الغوص في النصّ وتتضمّن عمليّات فرعيّة (هي تفكيك النصّ الأصليّ وتحليله وفهمه)، ومرحلة الابتعاد عن النصّ والتهيّؤ إلى إنشاء النصّ الجديد في اللغة الهدف.
لا سبيل إذن إلى ترجمة الشعر لاستحالة بلوغ الهدف الذي تسعى إليه كلّ ترجمة: وهو مطابقة النصّ الأصليّ في مبناه ومعناه. فلا إمكان البتّة لأن يكون النصّ المترجَم وفيّا لبنية القصيدة العربيّة ووزنها وقافيتها ووجوه المجاز فيها فضلا عن عنصر آخر أهمله الجاحظ وهو السياق الثقافي والحضاريّ الذي يفعل فعله في النصّ ويصوغ معجمه ومعانيه. والمعضلة الكأداء الأخرى هي كيف نترجم ما لا يُرى في القصيدة وهو جوهر الشعر
ثالثا: الترجمة عمل شامل مركّب أبعد شأوا من ترجمة لغة النصّ فيجب أن تقوم على الجمع بين ترجمة المحتوى الشعري (المجاز)، والاعتناء بشكل النصّ الأسلوبيّ والموسيقي بالاجتهاد في استنباط بنية موسيقيّة تتناسب مع اللغة المترجم إليها وتستطيع أداء خصوصيّة الإيقاع في النصّ. من ذلك ما فعله نيقولا فيّاض عند ترجمته قصيدة البحيرة للامرتين فقد سعى إلى نقل الإيقاع الحزين عند لامرتين، فقلّد البناء الموسيقيّ في نونيّة ابن زيدون (أخذنا ذلك عن : لطيفة زيتونة: ترجمة الشعر، آفاق عربيّة ع 12، ديسمبر 1987، بيروت، ص 72).
أهكــذا أبـدا تمـضــي أمــانينـــا نطوي الحياة وليل الموت يطوينا
تجري بنا سفن الأعمار ماخرة بحـــر الوجــود ولا نلقـــي مراسينــا
رابعا: الاعتناء أشدّ الاعتناء بنقل المحتوى المعرفيّ الثقافي من مفاهيم وقيم انبنى عليها النصّ الأصلي وربطته بصلة وثيقة بالثقافة والحضارة اللتين ظهر فيهما. ومهمّة المترجم في هذا المجال صعبة جدّا فعليه أن يكون وفيّا لهذا المحتوى المعرفيّ الثقافي وفي الوقت نفسه عليه أن يجد المقابل له في اللغة التي يترجم إليها. والنجاح في هذا المجال يضمن إلى حدّ بعيد نجاح الترجمة والإخلال به يسقط الترجمة إسقاطا. من ذلك ما لاحظه رفيق بن وناس على ترجمة الصادق مازيغ قصيدة Recueillement لبودلير من تحويل لدلالات القصيدة من معنى التأملّ ومخاطبة الذات إلى معنى الخشوع والندم فأخرج القصيدة من إطارها الذاتي الرومنطيقيّ إلى إطار دينيّ غريب عنها ( رفيق بن ونّاس: الصادق مازيغ مترجما للشعر، ضمن : الترجمة ونظرياتها، بيت الحكمة، تونس 1989، ص 129).
أخيرا، تلتقي هذه الشروط جميعها في تأكيد أنّ ترجمة الشعر عمل إبداعيّ قائم الذات لا صلة له بنسخ النصّ ونقله من لغة إلى لغة أخرى بل فيه من الخلق والابتكار والتوليد الكثير. لهذا يبدو أنّ أقدر الناس على ترجمة الشعر هم الشعراء أنفسهم، الشعراء المبدعون، ولكنْ العارفون أيضا معرفة لا حدّ لها بلغة الآخر وحضارته وقيمه، والعارفون كذلك بلغتهم وثقافتهم ومواطن الحسن فيها.