مرايا القاع الاجتماعي
عملت على فضح المسكوت عنه وهي تعيد قراءة هذا المشهد وتركيبه من جديد، بغية فهم مقدمات هذه النهايات التراجيدية السورية، التي كانت سنوات الحرب الدامية تتويجا لها. وعلى الرغم من تنوع زوايا الرؤية والبحث وموقع الكاتب من أحداث هذا الواقع، فإن أغلب هذه الأعمال حاولت أن تتوقف مليا عند العقود الخمسة الأخيرة من هذا التاريخ، بوصفها التاريخ الأشد تعبيرا عن تغوّل السلطة وفسادها وقمعها. من هنا تكتسب رواية “خمارة جبرا” (منشورات المتوسط 2017) للكاتب نبيل ملحم أهميتها، لأنها تعيد رسم هذا التاريخ من خلال سيرة الفئات الأكثر تهميشا، وأكثر الأماكن تجسيدا للبؤس الذي كانت تعيش فيه، ومنه اتخذت تحولات مصائر شخصياتها الغريبة اتجاهات مختلفة.
دلالات العنوان
يفتتح العنوان بدلالته المكانية المعنى الذي ينطوي عليه عالم الروائي، بوصفه البؤرة المكانية، التي تختزل الصورة المظلمة لسكان أحزمة البؤس والعطالة والفساد التي بدأت تتكون على هامش المدينة في بدايات أربعينات القرن الماضي، حيث ستكون هذه الأماكن مصدرا لخادمات بيوت الأغنياء ومحلات البغاء وتجارة الحشيش. في هذا القاع البائس الذي تُشكّل خمارة جبرا علامته الأبرز، تتشكل بدايات أحداث الرواية وتتطور مع اختراق شخصية بطل الرواية جادالحق جادالله (دلالة الاسم) للمكان. يظهر التحفيز الواقعي في الرواية من خلال استخدام الكاتب للقيم الواقعية، سواء عبر سرد حكاية مجيء بطل الرواية إلى الحياة من رحم أمه المتوفاة بعد علاقتها المشبوهة مع شيخ المنطقة، وتحوّل زمردة إلى أم بديلة له، أو الإحالة إلى أسماء أماكن ووقائع تاريخية وشخصيات معروفة، حيث يعمل التنويه الذي ينفي فيه الكاتب في بداية الرواية أيّ تشابه إن حدث بين شخصيات الرواية والواقع على الإيهام بواقعيتها.
ويلعب الإهداء الذي يتصدر الرواية دورا هاما في أفق توقع المتلقي، نظرا للدور الذي يقوم به في تلخيص المنظور السردي الذي ينبني على أساسه العالم الروائي ويتم تنظيم وضبط أحداثه، وتقديم شخصياته، للتعبير عن رؤية الكاتب إلى الواقع في تحولاته التاريخية، أو مآلاته الراهنة في لحظة عاصفة لا تزال تعيش سوريا فصولها الدامية والمفتوحة على مفاجآت يصعب توقعها. وتأتي جملة الاستهلال بوصفها عتبة أخرى أو فاتحة للتعريف بحقيقة شخصية بطل الرواية ولعبة الأقدار التي جاءت به إلى العالم، للكشف عن خلفيات العالم الذي تشكل فيه ومعه وعي بطل الرواية جادالحق جادالله لذاته وللواقع الذي كان يغرق في لعبته، كما يلخص ذلك في قوله بأن الغرق هو وحده يتكفل بخلاصنا، ولذلك نجده يواصل غرقه في واقع كان هو الآخر يغرق حتى بلغ لحظة انفجاره الشعبي. من هنا يمكن فهم اختيار الكاتب للحظة نهاية بطله في ساحة مستشفى المجتهد على كرسيه المدولب والمتهالك وسط عشرات الجثث المكدسة أو الجريحة، التي كانت تنقل على عجل من أماكن المواجهات القريبة في أحياء دمشق.
تقنية السرد
يتأسس زمن السرد الحكائي في الرواية من اللحظة التي يجد فيها جادالحق جادالله نفسه مطرودا من قسم العظام في مستشفى المجتهد، وهو يجلس على كرسيه المدولب والمتهالك في باحة المستشفى بعد تجبير عظام فخذه المكسور على عجل. يستخدم تقنية السرد الاسترجاعي (الفلاش باك) ما يجعل الزمن يتحرك منذ اللحظة، التي يبدأ فيها زمن السرد عائدا إلى زمن البدايات الأولى، بصورة تسمح للقارئ التعرف على تاريخ ولادة بطل الرواية يتيم الأبوين في قريته دير الغزال وعلاقته بأمه زمردة، وإقامته في حي الصفيح البائس على أطراف دمشق، ومن ثمّ رعايته من قبل عزرا اليهودي المولع باقتناء المخطوطات القديمة وعشقه لابنته التي تتولى تعليمه، ومن ثمّ تحولات حياته المتلاحقة وحياة شخصيات الرواية الأخرى.
ينطوي السرد الروائي على زمنين؛ زمن استرجاعي يذهب من زمن السرد نحو الماضي، في حين أن هذا الزمن الاسترجاعي يتخذ طابعا خطيا صاعدا وتعاقبيا من لحظة ولادة جادالحق وحتى هذه اللحظة التراجيدية لمصيره الحزين في مستشفى المجتهد، وهو يجلس على كرسيه المدولاب المتهالك بانتظار وصول السيارة التي ستقله إلى منزله. وإذا كان الزمن المؤسس للسرد لا يستغرق سوى ساعات، فإن الزمن الذي تسترجعه ذاكرة البطل يستغرق أكثر من سبعين عاما تمتد من عام 1940 وحتى سنوات الانتفاضة الأولى.
وفي حين تتسم حركة بطل الرواية على مستوى زمن السرد في المكان بالثبات، فإن حركته وحركة الشخصيات الأخرى لا تتوقف، وهي تخترق أمكنة مختلفة من مدينة دمشق، وستكون واضحة درجة التحول في مصائر هذه الشخصيات من خلال انتقالها في هذه الأمكنة، وما تنطوي عليه المقابلة في ما بينها، أمكنة بؤس وتهميش مقابل أمكنة ثراء وسلطة، ما يجعل تغيير الأمكنة في هذه الرواية عاملا حاسما في توليد المنحى الدرامي الذي يتخذه السرد ومعه أحداث الرواية. إن هذا الزمن الاسترجاعي أو زمن الذاكرة بما يستدعيه من صور ووقائع وشخصيات عسكرية وسياسية وثقافية، يتجاوز بعده التاريخي إلى البعد الاجتماعي والسياسي المغيّب من هذا التاريخ، ولا سيما في حقبة سبعينات القرن الماضي مع انقلاب الأسد الأب، الذي شكّل بداية لتغوّل سلطة الاستبداد القمعية وفسادها.
التاريخ الاجتماعي والسياسي
تحاول الرواية أن تتمثل التاريخ الاجتماعي والسياسي لسوريا الحديثة، عبر مجموعة من الشخصيات تشكل بسلوكها ومواقفها تمثيلا ظاهرا لهذا التاريخ، يقع بطل الرواية في مركزها، حيث يبرز من خلال علاقة هذه الشخصيات مع بعضها البعض البعد الاجتماعي والسياسي الذي يشكّل الخلفية، التي يستند إليها الكاتب في استدعاء المسكوت عنه من هذا التاريخ، الذي تُشكل فيه أمكنة القاع الاجتماعي (حي الصفيح وخمارة جبرا، كرخانة باب الجابية والروبير وحارة اليهود) الفضاءَ المكاني الدال لهذا العالم الروائي، وتحولاته الدرامية. تتميز شخصية جادالحق بالثبات حتى لحظة الانفجار الشعبي في وجه السلطة، ما يجعله يخرج على مألوف حياة مارس فيها كل الأدوار التي كانت مطلوبة منه، بينما تمتاز الشخصيات الأخرى بالتحول بدءا من شخصية جبرا صاحب الخمارة الذي يتحوّل إلى عاشق متيم بزمردة، ووارث أسنان والدته الذي استغل انقلاب الأسد ليتحوّل إلى مالك فندق من خلال ممارسات الفساد وتجارة الجنس، وقبل كل هذا شخصية فرنسا التي تنتهي انتحارا بعد أن خسرت حبها وسلطتها على كرخانة باب الجابية، وزمردة التي تحوّلت من كرخانة الروبير إلى حياة بالغة الثراء والثقافة الغربية بعد زواجها من قتيبة الشهاب.
يتداخل الذاتي الخاص مع العام في سيرة بطل الرواية وفي حياة شخصياته الأخرى؛ فرنسا ووارث أسنان أمه، لتغدو هذه السير في تكامل أدوارها وتنوعها سيرة وطن، ومن هنا تظهر أهمية الرواية، حيث نتعرف على الجانب المسكوت عنه في التاريخ السياسي والاجتماعي من خلال مجموعة من الشخصيات العابرة، كانت تتعرّى من أقنعتها في أحضان سيدة كرخانة باب الجابية فرنسا قبل أن تنتقل إلى كرخانة الروبير.
الراوي الضمني
في هذه الرواية يمكن للقراءة أن تتوقف عند مستويين اثنين في السرد الروائي؛ المستوى الأول هو وعي بطل الرواية جادالحق لذاته وللعالم كما تجلى ذلك في مواقفه وفي الأدوار التي كان يؤديها بجدارة، والمستوى الثاني هو وعي الراوي الذي يمثل الشخصية الثانية للكاتب، بوصفه الشخصية الحاضرة في كل أحداث الرواية ووقائعها، والقادرة على وصف تفاصيل حياة شخصياتها الأخرى وما تفكر فيه، أو تحمله من قيم وأفكار في إطار البنية الكلية للسرد. ويمكن للقراءة هنا أن تتوقف عند محاولة الرواية إماطة القناع عن الوجه الآخر للمجتمع الذكوري بطبقاته الاجتماعية والسياسية المختلفة، كما يتجلى ذلك بداية في العلاقة مع مومسات كرخانتي باب الجابية والروبير، وفي ما بعد مع جورجيت مديرة مكتب عزالدين رئيس عمال سوريا، ما يجعل التداخل القائم بين السياسي والاجتماعي في هذه الرواية يشكل اللحمة الأساسية التي يقوم عليها تنظيم السرد فيها. وإذا كان الكاتب الذي يستعيد أغلب أحداث العقود السبعة من تاريخ سوريا الحديث، فإنه يتجاهل هزيمة حزيران/ يونيو وحرب تشرين/ أكتوبر، اللتين لا تزال مفاعيلهما مستمرة حتى الآن. أخيرا ثمة إشارة عابرة إلى لغة الرواية التي مالت إلى الاستطراد واستخدام الجملة الطويلة، ما أثر على تنامي حركة إيقاع السرد ورشاقة اللغة.