القارئ الأنثى والسارد الإرشادي
لعلّ الإجابة عن هذا التساؤل وغيره لا تخرج عن الإطار النفساني الذي يرتبط بالتداعي الحر، وما يرتهن به من أحاسيس شعورية ولا شعورية، حتى إذا ما كشفنا عنها بانت الأسباب وتوضّحت النتائج. ولعل أقرب دليل يؤيد صواب هذا الافتراض هو التحول الذي طرأ على الكتابة الروائية في مطلع القرن الماضي، فنقلها من جمود التعاطي التاريخي إلى مرونة الكتابة النفسية بتيار الوعي، الذي من أهم سماته الاعتراف والإبانة اللتان هما مقصد القارئ الذي هو مبتغى الكاتب.
ومعروف أن هذا اللون من الكتابة السردية كان قد برع فيه كتّاب غربيون مثل دورثي ريتشاردسون وجيمس جويس، وويليام فوكنر، لكن فرجينيا وولف الروائية والناقدة الإنكليزية تقف في مقدمتهم. فقد بدت الأكثر شغفا بهذا التيار والأقدر على جعل بنية القارئ فعالة، مولية إياها عناية خاصة، كاشفة عن خفايا إنسانية، ومعبرة باحترافية عن الخلجات النفسية الداخلية، ولعل هذا الشغف بالتداعي النفسي كان وراء اهتمامها بالقارئ من جهة وسببا في تمردها في مجال الكتابة السردية من جهة أخرى فجرّبت أنماطا مستحدثة وانتهجت مسارات جديدة استطاعت عبرها تخطي القوالب القصصية التي كانت معروفة آنذاك، راكبة تيار الوعي متخذة منه عالما داخليا تستبطن فيه أصواتا داخلية تنبع من بواطن لا شعورية تجمع الداخل بالخارج والظاهر بالباطن وقد تكون لهذا الشغف صلة بانتحارها في الأغلب.
وفرجينيا وولف لم تكن مجرد كاتبة وإنما كانت فيلسوفة عالمة وناقدة سيكولوجية وامرأة أرستقراطية عاشت في كنف جمهور هو في الأغلب جمهور أنثوي قارئ من أهم صفاته أنه عاطفي لكنه صامت ومع ذلك حاول أن يصارع المجتمع الذكوري.
وحضور القارئ الأنثى في كتابات فرجينيا وولف هو الذي ألهمها توظيف تكنيك جديد هو ليس بالمونولوج الداخلي المباشر الذي يستخدم “في القصص بغية تقديم المحتوى النفسي للشخصية والعمليات النفسية فيها دون التكلم بذلك على نحو كلي أو جزئي” (تيار الوعي في الرواية الحديثة، روبرت همفري، ترجمة محمود الربيعي، ص44)، ولا هو بالمونولوج الداخلي غير المباشر بوصفه “ذلك النمط (..) الذي يقدم فيه المؤلف الواسع المعرفة مادة غير متكلم بها ويقدمها كما لو أنها كانت تأتي من وعي الشخصية” (المرجع السابق، ص49)، وإنما هو تكنيك آخر، إنه سارد خفي يشتغل على المستويين النصي وما بعد النصي في إطارين نفسي وذهني، وبغيته في الأساس النقد وليس السرد وما حصر فرجينيا وولف لأقواله بين أقواس كبيرة سوى تعبير عن مقصدية التعاطي النقدي، بعبارة أخرى نقول إنه تكنيك ابتدعته وولف يخص القارئة بالدرجة الأولى ويختلف عن الساردين الموضوعي والذاتي.
وهو أيضا سارد وسيط شبحي يسترق النظر بوجهة رأي تتدخل في عمل السارد الموضوعي وقد تتوغل في ذهن الشخصية الساردة نفسها. وهذا السارد ليس معادلا موضوعيا للقارئ ولا هو تداع حر غير مقصود، كما أنه ليس حلما أو مونتاجا ولا وسيلة سينمائية، وإنما هو بنية نصية ذهنية مستقلة وخالصة بوجهة نظر تنتقل ذهنيا من طبقة الوعي المسردن إلى طبقة الوعي المنتقد.
ويمكن أن نطلق على هذا السارد اسم (السارد الإرشادي) لأنه يقصد القارئ والقارئة معا، ناقدا وواصفا ومعلقا مسترقا السمع ومتسللا خلسة من دون علم السارد الموضوعي أو الذاتي مستلا الأفكار استلالا واشيا بها للقراء وقد يقتنصها عنوة ليظهرها بمغالبة واختراق في أي وقت شاء، لابسا لبوس التخفي حتى أن المؤلف نفسه قد يختلط عليه وجوده فيعتقد أنه سارده الأصل وقد يظنه شخصية متلصصة وهذا ما يجعله متملصا من قبضة الرقيب السردي، متمتعا بحرية الظهور والاختباء.
ويظهر هذا النوع من الساردين عند فرجينيا وولف في روايتها “أورلندو” (ترجمة توفيق الأسدي، دار المدى، 2016) لتكون هي المبتدعة له على حد علمنا والذي به دخلت عالم الكتابة الميتاسردية.
ويستدعي توظيف السارد الإرشادي، بوصفه وسيلة نصية تتخطى السرد إلى ما بعده، وعيا ابستيمولوجيا وتفكيرا معرفيا وممارسة جنونية وفعلا ذاكراتيا يصارع الوجود ويعرف مواطن الاضطراب والعصاب.
ولعل أهم الآليات التي يتم بموجبها توظيف هذا السارد هو تحول صوته السردي من الغياب أو التكلم إلى الخطاب، مع تمييز جنوسي بين القارئ والقارئة وهو ما سمح لفرجينيا وولف بأن تقول ما تريد وتنقد بوضوح الواقع وتبحث عن المعاني وتتعرّف على الذات حتى صارت قريبة إلى رصد رؤى صوفية ميتافيزيقية، وما ذلك إلا لأن القارئ/ القارئة هو هدفها ما بعد النصي وهكذا بدت وولف كاتبة جنبا إلى جنب كونها ناقدة.
والمؤلف الذي لا يمتلك قدرة نقدية لن يستطيع توظيف هذا النوع من الساردين لأنه سيحتاج أولا إلى قدرة معرفية على الانغماس في تيار الوعي وثانيا لأنه يتطلب إدراكا واعيا للآلية التي بموجبها تتصاعد درامية السرد سواء بالتغريب أو الإدهاش أو المفارقة وثالثا ما يقتضيه من معرفة معمّقة بوظيفة كل من السارد الإرشادي والمسرود له والقارئ الضمني.
وإذا كان مطلب السارد الإرشادي القارئ الفعلي الخارجي، فإن مطلب المسرود له القارئ الضمني بينما يكون مطلب القارئ الضمني المتلقي. وكان الناقد روبرت همفري قد عدَّ المونولوج الداخلي غير المباشر هو الأكثر اعتمادا عند فرجينيا وولف (تيار الوعي في الرواية الحديثة، ص50)، وذكر بشكل عابر وعفوي ما سماه فكرة المعلومات التي عدها أساسا قويا يقدمه المؤلف للتكنيك القصصي (المرجع السابق، ص86 ولم يشر د. محمود الربيعي إلى أورلندو في ترجمته لسيرة فرجينيا تيار الوعي في الرواية الحديثة/هامش ص23)، لكن الذي فاته أن جزءا من استعمال هذا التكنيك ليس هو المسرود له بل القارئ، وقد وقف عند ثلاث من روايات فرجينيا وولف وهي “السيدة دالوي” و”إلى المنارة” و”الأمواج”، وتناسى رواية “أورلندو” التي تتضمن هذا الاشتغال الاستحداثي في الكتابة بتيار الوعي.
ولا يخفى أن وراء توصيف (فكرة المعلومات) ما يشي بالسلبية على اعتبار أن تدخل المؤلف في عمل السارد سينافي ذاته الثانية، لا سيما في الكتابة السيرية التي ينبغي أن ترتب الأحداث السردية فيها بطريقة واقعية لا وقائعية تماشيا مع نظرية المحاكاة في الفن التي أساسها التخييل الذي به ترتفع الكتابة من مستوى شخصي إلى مستوى إنساني عام.
لكن الذي نراه في توظيف النقد في الكتابة السيرية إنما هو إيجابي كونه يعمل على إيقاظ بنية القارئ عبر السارد الإرشادي الذي سيجعل للتداعي النفسي خصوصية فنية، مميّزا بين القارئ والقارئة. ولن نجانب جادة الصواب إذا قلنا إن هذا الذي فطنت له فرجينيا وولف في روايتها” أورلندو” هو الذي ستنادي به في ما بعد مناهج القراءة والتأويل والهرمنيوطيقا التي تركز على الدور الحقيقي للقارئ الباحث عن تصور لتاريخ الوضع الإنساني رجالا ونساء، فلا يقتصر على الذكور فقط (مدخل في نظرية النقد النسوي وما بعد النسوية، حفناوي بعلي، الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، ص11)، فضلا عما ستعطيه النسوية الجديدة من اهتمام بالنسوية ذات الطابع الأكاديمي كما فعلت جوليا كريستيفا وإلين شوالتر، الأولى اهتمت بالأمومية متأثرة بجاك لاكان واستعملت الثانية مصطلح النقد النسوي في كتابها نحو بلاغة نسوية عام 1979 مهتمة “بدراسة كيفية تأثر جمهور القارئات بالصور الاختزالية أو الإقصائية للمرأة” (المرجع السابق، ص30).
وقد جاءت رواية “أورلندو” في شكل سيرة غيرية ذات مديات كتابية سردية وميتاسردية ومعطيات نقدية موظفة التداعي الحر باستعمال تيار الوعي مراهنة على دور السارد الإرشادي في إعلاء شأن القارئ وعلى النحو الآتي:
أولا: التعاطي الميتاسردي باستعمال السارد الإرشادي
في هذا النمط من الكتابة السيرية يتم الاشتغال على بنية سردية خارج نصية تدخل إلى ذهن السارد الموضوعي ووظيفتها الإرشاد والتعيين وهو ما جعل المؤلفة تضع كلامه بين قوسين كبيرين مميزة له عن الساردين: السارد الموضوعي الذي يريد التسجيل لحياة أورلندو جامعا الوثائق، والسارد الذاتي الذي يريد البوح بما يعرفه فقط.
ولا يخاتل السارد الإرشادي السارد الموضوعي فحسب بل هو أيضا يخاتل الكاتبة ويفرض عليها أن تقتحم عمل السارد الموضوعي معبرة عن ذاتها وكاشفة عن مشاعرها “شغف وفوضى وعواطف يكرهها كل كاتب سيرة” (الرواية، ص 17)، ثم تقطع “ولكن لنتابع″ وهذا التحريض في الأساس موجه للقارئ الخارجي أكثر منه للمسرود له والقارئ الضمني.
وما توكيدها على أن هذه السيرة تكتب من قبل امرأة إلا إشعار بأن هناك قارئة أنثى جنبا إلى جنب قارئ ذكر، تقول “وعلى كاتبة السيرة أن تلفت الانتباه هنا إلى حقيقة أن هذه الصفة الخرقاء فيه كانت غالبا ما ترافق بحب للعزلة” (الرواية، ص 19).
ولا خلاف في أن توظيف مخطوطة مذكرات أورلندو التي طالها الحرق فدمر أغلب الوثائق دلالة واضحة على النهج الواقعي الذي أتاح للسارد الإرشادي التدخل بالحدس والتخمين، مجوزا أن تكون المخيلة بديلة عن الوثيقة، لا سيما انكباب السارد الموضوعي على ملاحقة هذه المخطوطة مع قلة المعلومات المتوفرة لديه في إكمال القصة.
وقد يقتحم السارد الإرشادي ذاتين: الذات الروائية، وذاتها الثانية المؤلفة وقصده توخي الصدق والتحري عن الحقيقة في الترجمة لحياة أورلندو، الذي تخبط بين تضادية الجسد والروح والعشق والهجر والعزلة والرفقة، فوجد راحته في الطبيعة، تاركا حياة القصور والرفاهية، غير مكترث لأن يكون رجلا أو امرأة، متقبلا ضياع الفروسية والوجاهة والأملاك والسيادة، متنازلا، بكل أريحية، عن ذكوريته، غير واجد في ذلك أدنى خسارة، وواثقا من أن الجسد زائل وأن الروح هي الباقية.
ويعري النظر في المرآة أورلندو روحيا ليجد نفسه امرأة امتزجت برجل، وقد انتابتها مشاعر الرغبة العنيفة والعقل والتهور والتمنّع، وتجعله الأنوثة يشفق على الهوامش من الغجر والرعاة والخدم والفلاحين والبسطاء، لذا يرفض السفارة، وينبذ الوزارة، ويلبس ملابس شابة إنكليزية تنماز بالنعومة والرقة والميوعة وسرعة البكاء والإجفال لأدنى هزة، والافتتان والغرور والاضطراب وكثرة الحساسية والتخوف والقلق.
وهذه التركيبة من المشاعر هي التي تصيّره شاعرة تكتب برومانسية يخفق قلبها لأي صورة قاسية “الشاعر محيط أطلسي وأسد في آن معا حينما يغرقنا الأول ينهشنا الثاني” (الرواية، ص173)، وتتلاقى عندها الأضداد: النور/ العتمة، المعاشرة/ التعفف، جمال الثلج/ خيانة الطوفان، صوت جناحا إلهة الحب/ صوت صرير أجنحة سوداء خشنة.. إلخ.
وبتدخل السارد الإرشادي يتوجه السرد لصالح القارئة أكثر من القارئ، مستعملا ضميري الخطاب والمتكلمين، معليا الكينونة المؤنثة، واصفا إياها بأنها معقدة بسبب التضاد بين التضحية والجلد والفقد والطلب.
وحين قرر أورلندو أن يعود إلى رجولته، خالعا التنورة ولابسا البنطال، فوجئ بالصرامة التي تلبّسته، فقلّت ميوعته، ولم يعد يرى بعينيه، وإنما من مؤخرة رأسه، ولذلك عمَّ حياته الظلام، وأصبح الزمن قاسيا، وتغلب الواقع على الحلم، وصار يحسبه بالساعات، حتى إذا أتت الساعة الثانية عشرة التي هي ساعة الطبيعة الحتمية، التي بها التحول والدوران، تتحول رؤيا العالم لدى أورلندو من رؤية استعمارية ذكورية إلى رؤية ما بعد استعمارية أنثوية، فالاستيطان سيتهرّأ، وتتحول صورته الوحشية، القائمة على القوة والعنف، إلى صورة مخنثة مغلفة بالرقة، يطغى عليها التشارك والانفتاح، وليس فيها تفوق أو تعال، وهو ما تدعو إليه أدبيات ما بعد الكولونيالية اليوم.
ثانيا: التعاطي السايكولوجي باستعمال تيار الوعي
أسهم توظيف تيار الوعي في استبطان حياة أورلندو الشاب الشاعر الشغوف بالورود والجمال والبرية، ذي الأطوار الغريبة الذي “كان يوجد في شخصه قوة الرجل ورشاقة المرأة” (الرواية، ص 120). وأفاد هذا التيار، الذي يوصف بالفيضان، في التعرية والمكاشفة باستعمال المرآة التي فضحت المخفي، وأبانت عن حقيقة أورلندو، وما يستتبع هذه التعرية من التعريف بخفايا مؤنثة كمشاعر النشوة التي تنتاب الأنثى، فتكون المازوشية أساسها حتى أنها قد ترمي بنفسها في البحر من أجل أن ينقذها حبيب، بعكس الذكورة التي تكون السادية مطلبها حين تنتابها مشاعر التفوق والغلبة، فتسعى إلى الاستدراج والمراوغة كي تظفر بالأنثى. وتؤكد وولف أن الصرح الكامل للسلطة الأنثوية مبني على حجر الأساس، ذاك هو العفة التي هي جوهر الأنوثة وركيزتها الوسطى، التي تجعل النساء يصبن بالجنون لحمايتها، ويمتن حين تسلب منهن، ولكن بالنسبة إلى من كان رجلا لثلاثين سنة.. ما كان سيجفل كثيرا اتجاه ذلك الشعور (الرواية، ص ص 132، 133).
وهذه التعرية وتلك المكاشفة إنما تبتغي قارئين، الأول ضمني، والآخر فعلي. ومن الآليات التي استطاعت بها فرجينيا وولف تحقيق هذه البغية الاستئناف الذي به تقطع الساردة الحكاية، وتخاطب القارئ بعبارات ميتاسردية مثل “هيا بنا نستأنف قص الحكاية: توغلا في ذلك اليوم أكثر من المعتاد” (الرواية، ص 45)، وهي إذ تستند إلى وثائق تاريخية تفيدها في كتابة سيرة أورلندو، لكنها تتعمّد الإشارة إلى أن الوثائق نفسها قد لا تكون مقنعة ومنطقية لأنها ستكون كالخيال “ولكننا نصل الآن إلى حادثة تعترض طريقنا مباشرة، لذا لا مجال لتجاهلها. ومع ذلك فهي مظلمة وغامضة وغير موثقة، وبالتالي فلا تفسير لها، قد تكتب المجلدات في شرحها، فهناك أنظمة دينية بكاملها تناست على مغزاها، أما واجبنا البسيط فهو أن نروي الحقائق بقدر ما هي معروفة، وأن نترك القارئ يفسرها كما يريد” (الرواية، ص 59).
وهي لا تتوانى عن إشراك القارئ في البنية السردية “ويمكن لهؤلاء القراء أن يسمعوا همساتنا صوتا حيا، وأن يروا حين لا يقول شيئا في الغالب كيف كان يبدو وهو بالضبط (..) وأننا لمثل هؤلاء القراء نقوم بفعل الكتابة، فمن الواضح، إذن، لمثل هذا القارئ أن أورلندو كان مركبا على نحو غريب من كثير من الأمزجة” (الرواية، ص 65).
وقد يكون للتلاقي السايكولوجي ما بين الكاتبة وبطلها أورلندو مسلك تتحدى به القارئ، فمثلما وجد أورلندو في الكتابة والحبر والدواة نجاته، مقررا كسر العزلة والتواصل مع العالم الخارجي، فكذلك اتخذت المؤلفة فرجينيا وولف من الكتابة نقدا ورواية منفذا لها من عزلتها “الطبيعة التي تلتد بالتشوش والغموض، حتى أننا حتى تاريخه لا نعرف السبب الذي يدعونا إلى الصعود إلى الطابق العلوي، أو لماذا نهبط مجددا، فحركاتنا اليومية جدا هي أشبه بمرور سفينة في بحر مجهول” (الرواية، ص 69). وهذا البوح يذكرنا بكتابها النقدي المهم “غرفة تخص المرء لوحده”. فهل كانت فرجينيا تستشرف في هذه الرواية سيرتها المسكونة بالأشباح لتكون هذه الرواية منفذها الذي جربت فيه مغادرة السرد إلى الميتاسرد”؟ يواجه كاتب السيرة الآن صعوبة ربما يكون من الأفضل أن يعترف بها لا أن يموّهها”. (الرواية، ص 59).
ومن آليات السرد، التي بها حولت وولف قارئها من متقبّل مستهلك إلى متقبّل منتج، التحول في صوت السارد الذاتي من ضمير الغائب إلى ضمير الغائبة الذي قسم الرواية إلى قسمين، الأول ذكوري يسرد بالضمير الغائب “كان هو، ولا مجال للشك في نفسه، رغم أن الموضة السائدة آنذاك كانت تساهم في تمويه ذلك، آخذا بتقطيع شرائح من رأس رجل مغربي كانت تتأرجح من عوارض السقف” (الرواية، ص 15). والقسم الثاني، الذي شكّل الجزء الأكبر من الرواية بصفحاتها الإحدى والثمانين بعد المئتين، كان أنثويا بامتياز يسرد بضمير الغائبة “راحت لآلئها تتوهج كإشارة فوسفورية في العتمة ففر من رأس شلرداين طائر بري صرخت أورلندو أنها الإوزة البرية منتصف الليل 1928″ (الرواية، ص 281).
وقد ترتبت على هذا الاختلاف الجنوسي في الصوت السردي ثيمتان موضوعيتان متضادتان، الأولى النزعة الاستعمارية المنطوية على هيمنة اللون الأبيض، وما يستتبعها من أفعال استعمارية تتمثل في الغلبة والوحشية والهيمنة والاستحواذ، وهذا ما اشتمل عليه القسم الأول من الرواية، بينما تتحول هذه الرؤية في القسم الثاني من الرواية إلى رؤية ما بعد استعمارية، فالهيمنة، وإن كانت علامة تفوق، ظلت تُشعر الرجل الأبيض بالخذلان أمام جثة الرجل الأسود.
ولا مناص من أن يكون في توظيف التساؤلات بشكل مركزي في الكتابة اشتغال على بنية القارئ باستعمال السارد الإرشادي كقوله “ولكن كيف يمكنك أن تخاطب شخصا لا يراك؟ شخصا يرى غيلانا وآلهة الأساطير الإغريقية، وربما أعماق البحر بدلا عن ذلك؟” (الرواية، ص 22)، وأورلندو وحيد لا يراه إلا القراء محدقين إليه، ملاحظين تضاداته.
ولعبت الضدية دورا في توكيد ثيمة الانشطار في حياة أورلندو، الذي تذبذب بين أن يكون امرأة فيشعر بسحر الأنوثة، وبين أن يكون رجلا، فيشعر بالوحشية والقوة “إن الشخص توأم الشخص الآخر(..)، إن كل الحدود القصوى من الشعور على صلة بالجنون” (الرواية، ص 43). وقد انبنى على هذه الثيمة تصاعد التحبيك، فالنهار هو الرجل، والليل هو الأنثى، وقد اجتمعت إلهة الحب بإلهة الشهوة، وأن في قمة السعادة الموت وفي الفرح الكآبة، وهكذا.
وأسهم النوم والأحلام والشعر في تنغيص حياة أورلندو حتى وقع في الحيرة والشك، هل هو امرأة استرجلت أم رجل استخنث؟ فضلا عن جعل الغلبة للأنوثة التي تفوقت على الذكورة، وهو ما أكده القسم الثاني من الرواية الذي جاء بضمير الغائبة. هذا إلى جانب توظيف التكنيكات السردية الأخرى من قبيل الاستباقات الزمنية التي استشرفت المآل الذي سيقع فيه البطل أورلندو، والتوظيف الفنتازي الذي جعل الشعرية طاغية على حبكة الرواية، وبالشكل الذي جعل النهاية أنثوية، وكأن وولف تريد أن تؤكد “أن الجسد لا يتأنث لمجرد أن صاحبته امرأة، والثقافة تؤكد أن ليس كل النساء إناثا كما أن المرأة ليست في حالة أنوثة دائمة، وليس التأنيث في نظر الثقافة الفحولية إلا مجموعة من القيم الجسدية الصافية أو المصطفاة تحصرها الثقافة في صفات وحدود متعارف عليها” (ثقافة الوهم: مقاربات حول المرأة والجسد واللغة، عبدالله الغذامي، المركز الثقافي العربي، ص ص 51،52).
وبذلك تكون فرجينيا وولف قد طورت المبنى السردي من خلال توظيف تيار الوعي، معرِّية بطلها من ذكوريته مبتكرة السارد الإرشادي على المستوى ما بعد السردي، مستشرفة رؤية نسوية للعالم بعين فاحصة تثقب المجهول فترى القادم.
ولا غرو أن تكون رؤيتها الاستشرافية صادقة، ويكون تخمينها في محله؛ فالرؤية الاستعمارية قد ولت بسبب جفائها ورتابتها، وحلت محلها رؤية ما بعد استعمارية تنماز بنضارتها وخصوبتها، لكنها نفسها ستكون قابلة للزوال والتحول أيضا.