البُرنس والوَتدْ
ليلتها انتظمت السّهرة في حانوت بولاعراس. جميع المدمنين على لعب الورق كانوا حاضرين: العربي، والأخضر، والمولدي “الفأر”، والعروسي، والطيب، وحسن، وعابد “البوهالي”، وحميد”الأعور”، والذهبي “العصفور”. أحبّاء الفرجة، وعشّاق الشّامية والحلقوم اللذين يوزّعهما المنتصرون في نهاية كلّ شوط من أشواط اللعبة كانوا هناك أيضا. بهم جميعا غَصّ الحانوت الضّيّق. لذا فضّل بولاعراس إبقاء الباب نصف مفتوح رغم البرد اللاّذع…
الوقت بين الربيع والشتاء. لأسبوع، ظلّت العواصف الهوجاء تهزّ القرية، ممزوجة أحيانا بالبَرَد، أو بأمطار غزيرة. وفي الأودية والوهاد العميقة، كان الشتاء يزأر غاضبا، مثقلا الدنيا بوحشة قاتمة، محاولا صَدّ ربيع يتقدّم بحياء وهدوء. وبأصابعه الدافئة، يزهر أشجار اللوز، وينبت الأعشاب في السّهول المنخفضة، ويلوّن الزيتون، والزّرع بخضرة داكنة.
عابد “البوهالي” كان أوّل الواصلين إلى الحانوت. تكوّم في برنسه، مبديا تشوّقا واضحا لسماع رأي كلّ قادم في لحم العجل الذي باعه إيّاهم في الظهيرة، وذبحوه ابتهاجا بالأمطار. وضع بولاعراس الكانون أمامه، راجيا منه إعداد الشاي:
-أريده لذيذا مثل لحم عجلك يا عابد العزيز!
انبسطت أسارير عابد “البوهالي”، وفي عينيه رقصت بهجة طفوليّة. فتلك إشارة بأن الجميع راضون عن لحم عجله، وعنه بطبيعة الحال. ثمّ لم يلبث الآخرون أن راحوا يمتدحون لحم عجله، داعين له بطول العمر، وبالخير والبركة، وبالرحمة للوالدين الفقيدين. وسعيدا بما كان يسمع، ظلّ هو يتأمّل الوجوه الطافحة بالبشر، راغبا في سماع المزيد من المديح. وفي الحقيقة كان جميع الحاضرين سعداء في تلك الليلة الباردة، ليس فقط بسبب العشاء الدّسم، وإنما أيضا لأن العام يلوح أخضر، والصابة وفيرة. وستمتلئ البيوت حتى السّقف بأكياس القمح والشعير والفول والحمّص والجلبّان. وستضجّ السّهول بالأغاني والزغاريد، وستمتزج أصوات نساء القرية بأصوات نساء القرى المجاورة مردّدة أغاني الحب، والفرح، والخيانات، والهجران الموجع للروح والقلب. وسيسهر الكبار والصّغار على ضوء القمر وهم يتهادون مثل سكارى بين الهضاب، وسيروون حكايات وخرافات تطرد عنهم الكسل والنوم. وعندما يحمرّ التّين الوحشيّ، سيهيج الفتيان، وسوف يرقصون على أنغام الطبول والمزامير، وسوف تنزل الصبايا إلى العين بخطوات راقصة في انتظار العريس الجديد…
بدأت السّهرة بلعبة “الروندة”. تحلّق اللاّعبون الأربعة وسط الحانوت متخلّين عن برانيسهم لكي لا تعيق حركاتهم. الذهبي العصفور والأخضر، ضدّ العربي والعروسي. والأربعة هم من أمهر اللاّعبين في القرية، ومن أكثرهم دراية بفنّ “الرّوندة”. وكم من مرّة جاءهم لاعبون من قرى بعيدة ليمتحنوهم، غير أنهم عادوا إلى بيوتهم بغصّة الخسارة. تابع الآخرون اللعب باهتمام في البداية. فلمّا طال، انصرف اهتمامهم عنه ليخوضوا في أمور شتّى، متبادلين النّكات والطرائف، والأخبار. ومن زاويته، كان بولاعراس يراقبهم، ملبّيا طلباتهم، مُجيبا على أسئلتهم برصانته المعهودة.فجأة ضرب العربي بقبضته على الأرض وصاح مزهوّا “زغردي يا حليمة(حليمة هي أمه).. فأنت لا تنجبين إلا الرجال الصناديد الذين لا يعرفون طعم الهزيمة!”.. وكان ذلك إذانا بانتصاره النهائيّ هو ونصيره على الأخضر والذهبي” العصفور” اللذين أسْنَدَا ظهيرهما للحائط، وقد لطّخ عار الهزيمة وجهيهما، وتفصّد جبينيهما عرقا،وغارت عيونهما. ومرة أخرى، صاح العربي وقد لمع وجهه بفرحة الفوز:
- أنا سيّدها.. أصيبها في المقتل وهي طائرة!
ازداد وجها الأخضر والذهبي”انقباضا، وتجهّما. ساد صمت ثقيل. فالهزيمة في لعبة “الروندة” شيء منكر. والمهزوم فيها يشعر كما لو أنه جرّد من رجولته، وطُعن في صميم كرامته..
- أصيبها دائما في المقتل حتى وهي تطير عاليا.. فأنا ولد حليمة التي يهابها أسياد الرجال!
صاح العربي مرة أخرى قاطعا الصّمت الثقيل..
ساعيا لـ”تطييب الخواطر”، مدّ بولاعراس رأسه، وقال باسما:
-“الروندة” يا رجال مثل الدنيا ليست وفيّة لأحد.. وفي المرّة القادمة قد يكون الانتصار من نصيب من هزم الليلة!
- مستحيل.. سأكون أنا سيّد “الروندة” دائما وأبد!.. قال العربي وقد ازداد زهوا واعتزازا بنفسه..
ساد صمت ثقيل مرة أخرى. الصّمت الذي يسبق العاصفة. فقد بدا واضحا أن نحيلة وجد الفرصة لإثارة غضب الأخضر، ونبش الجرح القديم. فالجميع يعلم أن العلاقة بين الرجلين اللذين أشرفا الآن على الأربعين، وبان الشيب في مفرقيهما، ظلّت دائما متعكّرة منذ فترة الشباب. وقبل ذلك كانا صديقين متلازمين لا يكادان يفترقان. غير أن سالمة فرّقت بينهما. وكانت سالمة صغرى بنات الأشهب المهاب الجانب من الجميع بسبب سلاطة لسانه، وقدرته الفائقة على إجبار خصومه على الانسحاب مبكّرا. وهي متوسّطة الجمال، نحيلة، سمراء، غير أن صوتها يذيب قلوب الفتيان. صوت فيه شيء من نعومة الحرير، ونضارة الزهرة التي تفتحت للتّوّ، وهديل الحمام، ووشوشة السواقي على الأحجار الملساء. لذلك كانت أمها تقول مفتخرة بها “جمال ابنتي سالمة في صوتها”. والأخضر والعربي هاما بحبّ سالمة من دون أن يعلم الواحد منهما بالآخر. والأخضر لم يجرؤ على البوح بحبّه لسالمة بسبب حيائه الشديد. حياء يلجم لسانه أمام النساء بالخصوص، ويربكه، فيحمرّ وجهه، ويتصبّب عرقا، بل قد يصيبه الدّوار فيسارع بالانسحاب كالهارب من مواجهة يعلم جيّدا أنه سيهزم فيها. وهذا الحياء الذي تلبّس به منذ فترة الطفولة، والذي لا تزال آثاره تبرز من حين لآخر حتى بعد أن تقدم في العمر، سبّب له مشاكل وإحراجات كثيرة. ولم يكن الأخضر يعاني من الحياء فقط، بل كان يخاف الظلام، ويخشى المرور بالقرب من المقابر وحيدا حتى في النهار. ومنذ صباه، وهو يعتقد أن الليل مسكون بالسحالي، والأغوال، والأرواح الشريرة، وبكائنات غريبة تكتُمُ أنفاس السائرين في الظلام فيعثر الناس على جثثهم في الصباح وقد تورّمت، وتشوهت بحيث يصعب التعرّف على أصحابها. ولم يسبق للقرية أن عرفت أحداثا من هذا القبيل، غير أنّ كثرة الحكايات عنها جعلت الأخضر يحجم دائما عن التشكيك في صحّتها..
أما العربي فلم يتردّد في أن يهمس بحبّه لسالمة وهي تسير وحدها في الدّرب الضيّق الفاصل بين بيت عائلتها وبيت خالها. فعل ذلك ذات قيلولة قائضة هجعت فيها القرية، وسكنت حركة الناس سكونا تامّا. ولم تقل سالمة شيئا، بل أسرعت الخطى وقد اشتعل وجهها بحمرة الخجل..
دأب العربي على ملاحقة سالمة في المسارب، مفاجئا إيّاها وهي تملأ جرّتها في العين أو هي تتجوّل في حقل الزيتون ليهمس لها بكلمات يرتعش لها قلبها، ويحمرّ وجهها فتغمض عينيها نصف إغماضة وكأنها تشتهي أن تغفو على وقعها. وشيئا فشيئا لانت سالمة فسمحت للعربي بلمس يديها، ثمّ بتقبيل شفتيها. بعدها تركته يداعب خصرها، ويلتصق بها حتى يلامس عضوه ما بين فخذيها. وكانت تعود إلى البيت وهي دائخة بعطر أنفاسه، وبعذوبة همساته. ولمّا قال لها والشمس تغرب خلف الهضاب العارية:”أتمنى أنت تكوني حلالا لي في أقرب وقت ممكن!، أجابته وقد تورّد خدّاها، ولمعت عيناها بندى الحب: “إن رضي والدي فلن أمانع!”.
عاد العربي إلى البيت مهموما، ملتاعا كمن يتوقّع شرّا بعد أوقات سعيدة. فهو يعلم أن والد سالمة يكنّ لعائلته حقدا دفينا بسبب خلاف قديم نشب بينه وبين المرحوم والده. وقد نسي هو سبب ذلك الخلاف، وربّما نساه الجميع. أمّا الأشهب، والد سالمة، فالثّابت أنّ الخلاف لا يزال في قلبه مثل شوكة. وها قد مرّت سنوات وسنوات، ورحل ناس وجاء إلى الدنيا آخرون، غير أنّ الضّغينة القديمة ظلّت مشتعلة في صدره. وحتى عندما توفي والده، رفض حضور جنازته. فكيف إذن يقبل بتزويج ابنته لابن غريمه القديم. وإن هو تجاسر، وتقدّم لطلب يد سالمة فسوف تكون العاقبة وخيمة. لذا من الأفضل ألاّ يفعل ذلك.. آه..يا لرجال الزمن القديم! الحبّ عندهم إمّا محرّم وإما مفقود!
جفا النوم العربي، وأصبح نفورا من الناس، عزوفا عن الأكل. لأسابيع عدّة وهو على هذه الحال. وفي النهاية، ضاقت به الدنيا فلجأ إلى أقرب صديق. ولم يكنْ هذا الصديق غير الأخضر…
جلس بجانبه. أشعل له ولنفسه سيجارة.تنهّد عميقا، ثم قال:
- إذا لم أتزوّجها فسوف تصبح حياتي مرّة مثل حياة المنبوذين والمهانين!
سَرَح الأخضر بذهنه في أرجاء القرية بحثا عن تلك التي يعذّب حبّها أعزّ صديق له فلم يعثر على أثر لها..
- حبّها يكويني مثل نار حامية! أضاف العربي
- ومن تكون؟ سأل الأخضر
- سالمة يا صديقي
انطفأ نور النهار، واهتزت الأرض من تحت الأخضر فكاد يغمى عليه. بصعوبة نهض. وبملامح من حلّت به مصيبة لم يكن يتوقّعها، مضى بخطوات ثقيلة نحو وجهة غير معلومة. عندئذ أدرك العربي أن صديقه واقع مثله في حبّ سالمة..
ولم يتزوّج سالمة لا الأخضر ولا العربي. فعندما تكاثر عدد طالبي يدها، وقف والدها في ساحة القرية في يوم السوق الأسبوعيّة، وأقسم ثلاثا أنها لن تكون إلاّ لابن خالتها الذي يعيش في العاصمة. وتزوجت سالمة بحسب قرار والدها، ولم تعد تزور القرية إلاّ في الأعراس، والمآتم، وفي المناسبات الكبيرة الأخرى.غير أن الودّ كان قد انقطع بين الصديقين. صحيح أنهما تجنّبا القطيعة، غير أنّ كلّ واحد منهما أصبح نفورا من الآخر، متحاشيا الإنفراد به، وإظهار ولو القليل من الودّ نحوه..
واصل العربي الافتخار بنفسه وبمهارته في لعبة “الروندة”. محاولا لجمه، نهره بولاعراس بلطف قائلا:”عيب على المنتصر المبالغة في الافتخار بانتصاره!”. صمت العربي مكرها. فقد كان يرغب حقّا في إغاظة صديقه القديم خصوصا وأنه لم يواجهه في لعبة “الروندة” منذ زمن طويل.
تقدّم الليل، وازدادت العاصفة هيجانا. أخذ الأخضر يتململ راغبا في العودة إلى بيته طالبا من الذهبي “العصفور”، صديقه المفضل بعد العربي مرافقته. غير أن هذا الأخير أزعجه إلحاحه، فصاح فيه: “أتركني.. ألا تستطيع أن تعود وحدك إلى بيتك؟!”.. هذه فرصة لا يمكن أن أضيّعها، قال العربي في سرّه، ثم صاح ساخرا وقد احتدّت رغبته في تعكير مزاج صديقه القديم:
- أنا على يقين أن الأخضر لا يستطيع العودة وحده إلى البيت لأنه يخاف الظلام!
انتفض الأخضر غاضبا، وصاح وقد لمعت عيناه ببريق من يودّ الاقتصاص من عدوّ لدود لا يكفّ عن إذلاله وإهانته أمام الرجال:
- أنا أخاف الظلام؟؟
- “نعم..أنت تخاف الظلام.. والجميع يعرفون ذلك!” قال العربي بهدوء الواثق من حقيقة لا تقبل الشكّ أو الاختلاف
- أنت سفيه!ردّ الأخضر حانقا..
- إذا ما كنت سفيها كما أنت تقول، فعليك أن تراهن لكي تثبت خطأ ما قلت..
شعر الأخضر أن غريمه نَصَبَ له فخّا قد يفشل في النجاة منه. لذا ظلّ صامتا، مشوّش الذّهن، ساعيا للعثور على الطريقة المثلى للنجاة. تدخّل بولاعراس، وسأل العربي:
- وما هو الرهان؟
- أعطيه مئتي دينار شرط أن يدقّ هذا الوتد عند قبر وليّنا الصالح سيدي أحمد بن سعيد!
ابن العاهرة! من أين جاء بالمئتي دينار وهو الفقير الجوعان؟! واضح أنه يرغب في جعلي أضحوكة القرية..غير أنني سأتحدّاه، وأحبط مؤامرته الدنيئة لأجبره على دفع القديم والجديد.. وبذلك أرتاح منه ومن شرّه.. هكذا فكّر الأخضر في سرّه، ثم قال وقد بدا متحمّسا للمواجهة:
-إعط المئتي دينار إلى بولاعراس
امتثل الأخضر لطلبه..
التف الأخضر في برنسه الجديد الذي نسجته له زوجته أوّل الخريف. أمسك بالوتد، وبالمطرقة ثمّ اندفع نحو الباب ليختفي في الظلام والعاصفة.
لحين وجم الرجال وصمتوا. ثم قطع العربي الصمت قائلا:
- أنا على يقين أنه سيعود قبل منتصف الطريق!
شعر الذهبي “العصفور” بغصب يهزّ جسده، فقال في سرّه: “إذا ما خسر الرهان فسوف أقطع نهائيّا علاقتي به!”
سار الأخضر باتّجاه المقبرة بخطوات واثقة، وصدره يغلي بالرّغبة في الانتقام..ابن الفاجرة.. الليلة سألقّنه درسا لن ينساه أبدا.. بعدها سيمشي في القرية ذليلا مهانا.. حتى الأطفال سيضحكون عليه.. الكلب ابن الكلب.. كيف يبيح لنفسه إهانتي أمام الرجال؟؟.. سأدقّ الوتد ثمّ أعود إلى الحانوت لأبول عليه وعلى أجداده..
الظّلمة شديدة بحيث يصعب على السّائر أن يميّز ما حوله. العاصفة تهزّ الدنيا هزّا عنيفا. من الأودية والوهاد يتعالى عويل ونواح كما لو أن الأرواح الشريرة تقيم هناك مآتم لضحاياها. حتى الوادي الفاصل بين القرية والمقبرة، سار الأخضر خفيف الخطوة، مزهوّا بنفسه مثل محارب واثق من الانتصار في معركة مصيريّة. لكن وهو يقطع الوادي خيّل إليه أنه يسمع فحيحا كفحيح الأفاعي فبرد جسده، وثقلت خطواته، ووقف شعر رأسه، وتسارعت ضربات قلبه.. يا للوادي اللعين!.. منذ الطفولة وهو يخشى السير فيه حتى في ضوء النهار.. والكبار يشيعون أنه كان مكمنا لقطّاع الطرق، وفيه زهقت أرواح كثيرة.. أوف يا للوادي اللعين!
بعد أن اجتاز الوادي، استعاد الأخضر شيئا من هدوئه وتوازنه. غير أن الخوف سرعان ما استبدّ به من جديد. فقد خيّل إليه وهو يقترب من المقبرة أنه يرى أشباحا برؤوس غريبة تتدافع نحوه مهدّدة، متوعّدة.. ثقلت خطواته. جفّ ريقه ولم يعد يميّز شيئا.. هل يرفع صوته بالغناء تحديا للظلام والخوف؟ ولكن أي فائدة من الغناء في قلب عاصفة هوجاء.. ثم إنّه لا يحفظ ولو أغنية واحدة.. الأفضل أن يتلو آية الكرسي.. ولكنه لا يحفظها.. فليكتف إذن بالبسملة إلى أن يفرّجها الله..
أمام المقبرة، أحسّ الأخضر بالاختناق حتى أنّ قلبه كاد يتوقّف عن الخفقان.. يا وليّنا الصّالح.. يا صاحب البركات.. أعنّي وخذ بيدي، وامنحني القوة والصبر وسأكون دائما في طاعتك، ولن يكفّ لساني عن شكرك.. يا وليّنا الصالح.. أنر طريقي ولا تخذلني!..
مشى الأخضر بين القبور مبسملا مستغيثا بالوليّ الصّالح الذي قيل أنه كان يخبر الناس عن الفواجع قبل وقوعها. ثمّ لاحت شجرة الخرّوب التي ينام تحتها الوليّ الصّالح نومته الأبديّة. وفي الظلمة الحالكة بدت هائلة الحجم، مخيفة مثل غول الخرافات. اقترب الأخضر من القبر وهو يرجف كما لو أنه يقف عاريا في برد العاصفة. وضع الوتد على الأرض. وبالمطرقة راح يضرب وهو في أشدّ حالات الاضطراب والارتباك. غير أن الوتد ظلّ على سطح الأرض.. تصبّب العرق غزيرا باردا، وتعالى لهاث الأخضر كما لو أنه لهاث دابّة مُجْهَدَة. وبسبب الخوف والاضطراب، ضرب بالمطرقة ركبتيه مرتين مسبّبا لنفسه ألما حادّا. لكن لمّا أحسّ أن الوتد أخذ ينزل إلى أعماق الأرض، استعاد القليل من توازنه، ونهض راغبا في العودة إلى الحانوت بأقصى السرعة ليحتفل بانتصاره الباهر على غريمه. وهو يتأهب ليخطو الخطوة الأولى، شعر أن شيئا ما يشدّ برنسه إلى الأرض. جذبه بقوّة غير أن البرنس أبى أن يطيعه. أعاد جذبه مرات ومرات لكن من دون جدوى.عندئذ لم يعد يرى من حوله غير جماجم، وعظام نخرة، وأفواه سوداء، وعيون كالكهوف، وأياد بيضاء تجذبه إلى أعماق الأرض حيث الظلمة الأبديّة، وحيث زبانيّة جهنّم بسياطهم الناريّة. تخلّى عن البرنس مُطلقا صرخة عظمى، ثم ركض وهو يولول طالبا النجدة. وكان بولاعراس أوّل من سمعه:”اسمعوا يا رجال.. يبدو أن الأخضر يستغيثّ”. جروا باتجاه المقبرة. اعترضهم الأخضر وهو يركض من دون أن يكفّ عن الصياح والولولة. وعندما أحاطوا به مستفسرين عن حاله، قال لهم وهو يكاد يجهش بالبكاء:”الأموات يطاردونني.. وقد افتكوا برنسي!”.. رافقه البعض إلى الحانوت وهو على أسوأ حال. أما الآخرون فقد واصلوا سيرهم باتجاه المقبرة يتقدمهم العربي. عند وصولهم إلى شجرة الخرّوب، أشعلوا عيدان ثقاب فرأوا على ضوئها الشحيح الراجف في الريح، الوتد وقد ثقب الجناح الأيمن للبرنس قبل أن ينفذ إلى الأرض. وبدا البرنس وكأنه مغتاظ من صاحبه الذي فرّ مهملا إيّاه ه بين الأموات..
قهقه الرجال، ورقص العربي بين القبور في العاصفة الهوجاء!