المسرح النسوي العربي وتحدي القهر الذكوري
تشير مترجمة كتاب “نصوص من المسرح النسائي”، الصادر في القاهرة عام 2003، سناء صليحة، في تقديمها له إلى أن شوائب عديدة علقت في أذهان الكثيرين منا حول الدراسات النسوية عموماً، ومسرح المرأة على وجه التحديد. وقد اكتسب مفهوم “النسوية” (Feminist) سمعةً سيئةً، نتيجةً لسوء الفهم، وعدم تكامل المعلومة، بوصفه وجهاً آخر من وجوه العولمة، والغزو الثقافي، يهدد المجتمع وكيان الأسرة وترابطها، ويحث المرأة على التخلي عن أدوارها ورسالتها.
لكن سناء صليحة، شأنها شأن العديد من نقاد المسرح والباحثين العرب، تستخدم مصطلحي “المسرح النسائي” و”المسرح النسوي” دون تمييز، في حين أن الأول يشير إلى النشاط المسرحي الذي تقوم به فرق مسرحية تديرها النساء، حتى وإن كان تكوينها وجمهورها خليطاً من الجنسين، وتغلب على إنتاجاتها العروض التي تؤلفها وتخرجها كاتبات ومخرجات متمرسات. ويستند هذا التحديد إلى منهج تلك الفرق المسرحية في العمل والإدارة، أي إلى ما يحدث وراء خشبة المسرح، لا إلى ما يُقدَّم عليها. أما المصطلح الثاني فإنه يشير إلى التجارب المسرحية التي تحمل وجهات نظر نسائية بحتة، أو تنطلق من النظرية النسوية (أو مبادئ الحركة النسائية المنظمة التي تسعى إلى نصرة المرأة في جميع المجالات)، وتشكّل محاولات لتحدي المواضعات المسرحية (الذكورية)، التي تسعى إلى قولبة صورة المرأة، وتعكس الأبنية الاجتماعية التي تحصرها في الأدوار الثانوية والتابعة، أو تروج لها بوصفها “قطعة تزيينية” أو “شيئاً جميلاً”. وفي معظم الحالات تكون هذه النتاجات المناهضة لقهر المرأة من إبداع نساء خرجن من معطف الحركة النسائية. ومن الواضح أن تحديد هذا المصطلح يستند إلى ما يحدث على خشبة المسرح، أو ما يُقدَّم عليها من خطاب مسرحي ذي طابع نسوي.
في إطار هذا التمييز يمكن تحديد نوعين من التجارب المسرحية: تجارب مسرحية “نسائية”، أي تلك التي أنتجتها كاتبات ومخرجات مسرحيات، وتجارب مسرحية “نسوية”، أي تلك التي تحمل وجهات نظر نسائية بحتة. وتحاول هذه المقالة الوقوف على ثلاث تجارب مسرحية عربية تمثّل النوع الثاني، وهي “ثلاث نسوان طوال” لرندا الأسمر، و”حكي نسوان” للينا خوري، و”كلام في سري”، لعز درويش.
ثلاث نسوان طوال: تنويعات لامرأة واحدة
اقتبست اللبنانية رندا الأسمر هذه المسرحية عن نص “ثلاث نساء فارعات” لإدوارد ألبي، وأخرجتها نضال الأشقر، ومثلتها رولا حمادة، وكارمن لبس، ورندا الأسمر. وهي تصور رحلة حياة امرأة تتوزع على ثلاث مراحل (الماضي، والحاضر، والمستقبل)، منذ لحظات تفتحها الأولى على الحياة وعلى جسدها، منذ الأفكار التي انهالت عليها والقيم التي نشأت في عهدتها المرأة في كل محطاتها وهمومها: الطفولة والأسرة والمدرسة والمجتمع والزواج والموت، لتكشف عن مدى الأسى الذي تحمله المرأة، وخاصةً حينما تعيش حياةً منفتحةً.
تبدو الشخصيات النسوية الثلاث في المسرحية وكأنها تنويعات لشخصية واحدة هي شخصية العجوز المركزية، ذلك لأنهن يمثلن وجوها من محطات زمنية: “هل أن القطار واحد؟ هل أن الاتجاه واحد؟ هل هن من امرأة واحدة؟”.
وقد أدخل عرض المسرحية، الذي قدم في أيام عمّان المسرحية السابعة عام 2000، متلقيه في حميمية خاصة كانت أبعد ما تكون عن حضور الرجل في النص، الرجل المؤلف أو المخرج، إذ أسهم إخراج نضال الأشقر في وضع اليد على جرح المرأة المفتوح تجاه عمرها، وتجاه رجلها الذي طواه الزمن ومات.
النص الأصلي، الذي أطلق عليه النقاد وصف الإنجاز الأكثر دقة وبراعة في تجربة إدوارد ألبي المسرحية، يبدو وكأنه يتحدث عن ثلاث نساء، وفي كل مرحلة يتحدث المؤلف بواقعية يصور من خلالها الأسلوب الذي نتعامل فيه مع مشكلاتنا ومع أنفسنا باستخدام تلك التجربة. وقد ذكر ألبي أنه كتب النص عن أمه بالتبني، وعن استبدادها الذي لم يطقه في يوم من الأيام. ورغم تجسيده صورة قبيحة لها اعترف، في الوقت ذاته، بأن التجربة كانت بمثابة التعزية بموتها.
تخلص وطفاء حمادي في كتابها “سقوط المحرمات: ملامح نسوية عربية في النقد المسرحي” إلى أنّ نضال الأشقر اعتمدت على الجسد كحامل لرؤيتها البصرية والإخراجية، ضمن ما أطلقت عليه “صناعة مسرح الحواس″…، وما اهتمامها بالجسد إلاّ دلالة على الرغبة في إظهار المرأة بكل كيانها وأحاسيسها، إضافةً إلى ما تقوم به من البحث عن الوعي والوصول إلى الإحساس بالهوية الجماعية والفردية.
حكي نسوان: المرأة وعورات المجتمع
قدمت الكاتبة والمخرجة المسرحية اللبنانية لينا خوري في مسرحية “حكي نسوان”، بعد صراع طويل مع الرقابة استغرق عاماً ونصف العام، من خلال أداء أربع ممثلات (ندى أبوخالد، وزينب عساف، وكارول عمون، وانجو ريحاني)، اثنتي عشرة لوحةً تباعاً في شكل مونولوجات، أو حوارات من طرف واحد في محاكاة لإثنتي عشرة قصة لواقع الأنثى في المجتمع اللبناني. وقد تميزت هذه المونولوجات بجرأة وصلت إلى حد القسوة على الذات وعلى المشاهد، وكأنها تحاول أن تضع مرآةً مكبرةً على الخشبة لتري المتلقين من خلالها ما تعدّه عوراتٍ للمجتمع في تعامله مع المرأة.
وجاء السرد في المسرحية على خلفية لعبة الإضاءة والموسيقى التصويرية ليوحي بأن الواقع النسوي يتراوح بين ذروة التراجيديا والملهاة التي تصل إلى الكوميديا الصرف.
تنطلق المسرحية بهجوم صاعق للممثلات الأربع على المشاهدين بالكلام عن الأسماء الفصحى والعامية لعضو المرأة التناسلي، وينتهين إلى نتيجة تتلخص في الدعوة إلى تجاهل هذا العضو من جسدها “وتركه في حال سبيله” كأنه لعنة أو شتيمة.
في هذا العرض تقوم إحدى الممثلات بتقديم كل مونولوج بقالب يضفي الكثير من الجدية عليه عبر الإشارة إلى أنه رواية حقيقية قالتها امرأة ما لمخرجة العرض. وعندما ينطلق المونولوج على لسان إحداهن تشاركها الممثلات الأخريات في لعب الدور الذي يكمل المشهد حتى وإن كان هذا الدور لرجل.
من القضايا التي تثيرها المسرحية الاغتصاب في سن الطفولة على يد صديق الأسرة، وأعراض العادة الشهرية عند المرأة، والتعرض لتجربة الوقوع فريسة لمثلية الجنس، والتحرش الجنسي في العمل، أو على الطريق، أو في وسائل النقل العام والخاص، وعمليات التجميل وأثرها النفسي على المرأة، والأمراض النسائية، والأشكال المتعددة التي تظهر فيها النساء في المجتمع، وطريقة التعامل فيما بينهن، وتعاطي المرأة نفسها مع أعضائها الحميمة، وتعاطي المجتمع مع هذه الأعضاء.
ترتدي الممثلات الأربع، طوال العرض، ثياباً سوداء كاشفةً، إشارةً إلى أن واقع المرأة في المجتمع واقع أسود، وأن المجتمع لا يستطيع أن يرى من المرأة سوى أنها جسد للجنس، ويحاسبها على أساس هذه النظرية.
وتُختتم المسرحية -التي تبدو لوحاتها في الظاهر كوميدية، لكنها تختزن في باطنها مرارة قمع المرأة في المجتمع الذكوري- بصرخة مدوية من الممثلات الأربع في دعوة إلى تغيير المجتمع رؤيته إلى الأمور الحميمة للمرأة، كما تقول ليلى بسام في قراءتها للمسرحية (موقع إيلاف الإلكتروني، 6 شباط/ فبراير 2007).
كلام في سري: جسد مقتحم وعقل مغامر
يتناول عرض “كلام في سري”، للمخرجة المصرية ريهام عبدالرازق، واقتباس عز درويش عن مسرحية “حكي نسوان” الآنفة الذكر، مشاكل المرأة، في مصر خاصةً، والهموم التي تحملها في رحلة حياتها منذ الطفولة إلى الممات من خلال وجهة نظر المرأة ذاتها.
ويستند العرض، بشكل أساسي، على ثلاث شخصيات نسائية (راقصة ومغنية وممثلة)، مثلتها المخرجة نفسها، ورانيا زكريا، وياسمين سعيد، إضافة إلى شخص رابع مفترض بين المتلقين، في سرد إيقاعات أحداث حياة كل منهن، وما يتعرضن له منذ الطفولة من إجحاف وتهميش متعمدين، عن طريق الكلام والحركة الإيمائية.
هؤلاء النساء الثلاث يمثلن الجانب اللامرئي لحالة النفور التي يبديها الرجل الشرقي تجاه هذه الشرائح من المجتمع، تتقدم كل واحدة لتجسيد دورها في بؤرة الضوء، قد يكون ذلك لشعورهن بالمأزق، أو لتسليط الأضواء الكاشفة على قضاياهن، وتجسيد تشنجات المجتمع وما تعانيه المرأة الشرقية من التهميش والإقصاء لتفرغ كل واحدة منهن مكبوتها النفسي. تتخذ الشخصيات الثلاث أحد المتلقين لإشراكه في عملية السرد المسرحي، كل واحدة تحاول الاستئثار به لنفسها، فتنكسر الذوات النسائية لتكشف عما يدور في أذهانهن من القضايا النفسية، وفجأة تنزل دمية تشير إلى الرجل الذي وجهت النساء الخطاب إليه فيسرعن إلى جلدها انتقاماً (ناجية السميري، “كلام في سري.. خطاب مأزوم لقضايا مغلوطة” (صحيفة الصحافة، تونس، 7/12/ 2007).
يمكن القول، مجازاً، إن هذا العرض كان نوتةً موسيقيةً حزينةً عزفت على أوتار أحاسيس مجروحة ومخنوقة من الخوف مرةً، ومن التردد مرات عديدةً، نوتة كانت بمثابة صحوة أبرزت جلياً بعض الغوامض والصغائر الكامنة في نفس الإنسان، كلام بدايته همسة ونهايته صرخة إعلان عن أشياء صغيرة ضاعت منا لتخلق هفوة كبيرة بيننا.
وقد أجمع أغلب النقاد الذين شاهدوا العرض على أنه عرض نسوي جريء قدّم مقاربة درامية لقضايا المرأة وعلاقتها بالرجل، مع التركيز على قضية القهر الجنسي عموماً، والتابوهات والعادات والفتاوى المتراكمة التي تحرمها من حقها الشرعي والإنساني في التمتع بمباهج الحياة ولذائذها.
يقول أحد النقاد “يعد عرض ‘كلام في سري’ عرضاً مفعماً بالبوح والفضفضة بالأسرار والخبايا النفسية ودقائق المشاعر والانفعالات التي لا تخلو من تناقض ومفارقة لنفسها، ولا تخلو على مستوى آخر من تعرية جريئة للمسكوت عنه، والكامن في علاقة الرجل/ الذكر بالمرأة/ الأنثى، تعرية جريئة قد تبدو وقاحةً ومجاوزةً للآداب المرعية، أو خدشاً للحياء، لكنها في الواقع جرأة محمودة تفرض على المجتمع أن يواجه نفسه في مراياها الممكنة، ولو كره الذين يؤثرون أن يدفنوا رؤوسهم في الرمال، منعمين فيما يبنونه في أخيلتهم من صور زائفة سواء عن أنفسهم وما يفعلون، أو عن الواقع الذي يعيشونه في الحياة اليومية”. وكتب ناقد آخر قائلاً “إنه عرض جسور لفتيات متمردات نجحن في إسعادنا بالفن الجميل، وفي إصابتنا بغصة في الحلق، يراها البعض من منظور أخلاقي فيتأفف، ويراها البعض الآخر من منظور تراثي تجاوزا للخطوط الحمراء فيخفي عينيه عن الحقيقة، ويراها البعض الثالث، وأنا منهم، جسارة إبداعية تكشف عن أن شباب اليوم قادر على مواجهة سحابات الظلمة الصحراوية، وغمامات الأفكار المتخلفة، وقادر من ثم على تحطيم صمت القصور بالصوت العالي”.
هذا العرض نقطة فارقة في تاريخ المسرح المصري، حسب رأي الناقد كمال يونس، وخطوة هامة لاتجاه يناقش قضاياه الساخنة بلغة مستفزة وجسد مقتحم وعقل مغامر.