فضاءات الكاتبة
عندما أكتب أشعر بأنني إنسانٌ مختلفٌ، يجمع قلمي بين مشاعر المرأة ومشاعر الرجل. فقلم المبدع بلا جنس. ولأننا نبدع ونفكر باللغة؛ فالمفترض أنه لا يوجدُ ما يُسمى بلغة المرأة ولغة الرجل، وإلا فنحن نفترض أن المرأة لا تستطيع التفكير. بالتأكيد وضع المرأة في العالم العربي يسمح بطرح الأمر على هذا النحو. فمثلاً عندما تتوالد المشاهد والأحداث والأفكار أثناء كتابتي رواية من رواياتي يعترضني افتقادي لبعض الخبرات الحياتية مثلما يفتقد الرجل بعض الخبرات. مثلاً.. مشاعر الجندي وهو يقتل إنسانًا آخر في معركة، أو السير في شوارع القاهرة بمفردي في الثالثة فجرًا، أو تجربة الهروب من البيت والعائلة والقبيلة ورعاية الأطفال، من أجل تجربة التشرد ورؤية المدن والشخوص والحكايات، لأيام طويلة دون ضمانات ودون التفكير في العواقب. يحدث أحيانًا أن تثور بعض الصفحات البيضاء في وجهي، لأنها تعرف أنها ستظل بيضاء إذا لم أختبر ولو بالمشاهدة ما أكتب عنه مثلما يفعل الكاتب. تعرف الصفحات البيضاء جيدًا أن بعض الفضاءات التي تتحرك فيها الكاتبة مسدودة ومحدودة، ولذلك فبعض إبداعات المرأة العربية رديئة لأنها تدور فقط حول ما تعرف، حول الصراخ عمَّا تعرف، حول المتاح لها، حول الهامش الاجتماعي المتروك لها، أي حول هذا الحاكم / الرجل الذي لم يسمح لها بالمشاركة وهو يشيّد الأسوار والبيوت والمدن والقرى والقوانين التي تخصها، ثم يضع لها علاوة على ذلك خرائط الخروج منها أو الدخول إليها.
الكاتبة في العالم العربي ليست لديها حتى رفاهية استعارة لغة الرجل مثلما استعار الشاعر العربي الكبير نزار قباني لغة المرأة في معظم قصائده، فمفردات لغة المرأة ــ في الكثير من الحالات ــ أقل غزارة من مفردات لغة الرجل وفقًا لتجارب كليهما العملية وسبق الرجل لكتابة فصول التاريخ قبلها بآلاف السنين، ومن ثم لا تستطيع الكاتبة ارتداء قناع الرجل / الكاتب إلا وهي متلبسة بسرقته، سرقة حياته التي لم تعشها وسرقة تجاربه التي لم تختبرها، أو بتعبير أقل حدة التلصص على حياته.
بينما على الجانب الموازي نجد أن سؤال التفريق بين لغة الرجل ولغة المرأة قد تلاشى في الغرب تمامًا، وعاد تعريف اللغة هناك إلى سياقه الحقيقي العام، بعد أن اتحد رافدها المذكر والمؤنث. الآن الكاتبة تحتلّ في الغرب مقاعد كثيرة في الصفوف الأمامية للمشهد الأدبي، فهي حرة ومشاركة رئيسة في بناء الحياة، فلقد صارت رائدة فضاء وشرطية وجندية وحاكمة ولاية بل رئيسة وزراء ورئيسة جمهورية أيضًا، وأكسبتها حريتها والمنظومات القانونية التي وُضعت لتمكينها وحمايتها، مساحات شاسعة جديدة لتلمَ بالمشهد كاملاً من علٍ، وتشتبك مع الحياة بأفكارها ونصوصها الإبداعية الملهمة التي ينبغي لها أن تكون حاملة لخبرات الأنثى وخبرات الذكر كقطبين للحياة.