شهود على العصر الرابع
قبل الزراعة، وفي عصر الصيد والالتقاط، كانت هناك بدائيات ثقافية، ربما اللغة احدى أشكالها. ما وجده الباحثون على جدران الكهوف يشير إلى أن الرسم كشكل من أشكال الفنون، كان موجودا. حاول إنسان ذلك العصر التعبير عما يراه، فبدأ بالرسم والهمهمة التي سرعان ما تحولت إلى لغة.
مع انطلاقة الثورة الأولى، ثورة الزراعة، قبل أكثر من 12 ألف عام، تطورت أشكال الثقافة وزاد التدوين والتسجيل وصارت الكتابة، بأشكالها المختلفة، شيئا طبيعيا ومألوفا. كل الشواهد تؤكد على حدوث طفرات ثقافية كبرى، من الرسم إلى النحت إلى العمارة، وفي الثقافة الشفاهية مثل الشعر والحكاية، وفي الحِرف التي تعكس إلى حد كبير مدى تقدم المجتمعات وتعقيد حياتها. عاش عصر الزراعة معنا طويلا، ولهذا ترك بيننا الكثير من الأثر الثقافي، والديني أيضا، وهو ما ينعكس يوميا الآن في حياتنا.
مع الصناعة، أو الثورة البشرية الثانية، برزت انماط ثقافية أوسع وأكثر عمقا وتأثيرا في حياة الناس. وإذا كان من السهل احصاء انجازات عصر الصيد والالتقاط الثقافية بتخطيطات على جدران الكهوف، ومن الأصعب جرد عناصر الثقافة في العصر الزراعي، فأنه من المستحيل تقريبا عد ما انجزته البشرية في العصر الصناعي الذي ابتدأ عمليا في منتصف القرن الثامن عشر. نفكر بالعصر الصناعي دائما على أنه عصر المكننة الصناعية، لكنه أعمق من ذلك بكثير. كل ما نراه الآن من تفاصيل صغيرة وكبيرة، هو نتاج لتحرر الانسان من العمل اليدوي المكرر، وتوجهه لغزو افاق فكرية وثقافية واسعة، وهي واسعة لأنها في عمقها الأهم علمية وغير غيبية. عصر الصناعة والمدن لا يزال هو عصرنا الراهن مع لمسات تقنية جديدة.
مع المعلوماتية، بجانبيها الكمبيوتري والاتصالات، تجزأت الصبغة الصناعية للثقافة إلى قطع صغيرة يأخذ كل واحد منا حصته منها بالقدر الذي يراه مناسبا، أو يساهم فيها وفق ما تمكنه منها قدراته. الثورة البشرية الثالثة - المعلوماتية، حررت الانسان من مركزيات الصناعة المعتادة ومركزية المدن وثقافتها بل ومركزية السلطة. أنت كاتب ومخرج ورسام ومصور ومثقف ومفكر موسوعي (باستخدام محركات البحث في كثير من الاحيان) وموزع للموسيقى وتاجر أيضا.
أنماط الثقافة في تغير ملموس، ولا نعرف مستقر لها. ثبتت اشكال الاثاث والمنازل والألبسة والسيارات في العصر الصناعي، ولكن ما بين ايدينا من هواتف وأجهزة كمبيوتر وبرامج في تغير مستمر شكلا ونوعا وقدرات. ومع هذه التغيرات، ننتج ثقافة جديدة ومختلفة.
الآن نحن على أبواب الثورة الرابعة (من دون تحديد إن كانت بشرية أم غير بشرية). في كل لحظة، هناك برنامج كمبيوتري يفكر في شيء ما. هذا يختلف شكلا ومضمونا عن فكرة برنامج الكمبيوتر الذي يقوم بمهمة معتادة من العصر الصناعي مثل كتابة النص على ورقة بطريقة أسلس وبأخطاء أقل.
إذا كان عصر المعلوماتية يتيح لك كتابة كتاب على شاشة كمبيوتر ببرنامج مثل مايكروسوفت وورد، ويدقق الإملاء ويسهل التعديلات ويضمن وصول النص إلى دار النشر عبر الايميل بكبسة زر، فأن العصر الرابع الجديد يجعل الالة تكتب لنا ولنفسها ولغيرها من الالات وتستنبط القوانين الخاصة بالحديث لغة وصياغة بين البشر والكمبيوتر، وبين الكمبيوتر والكمبيوتر. هذا ليس خيالا علميا بل حقيقة حلت على عالمنا بأسرع مما نتوقع.
الوعي (أو الإدراك) الصناعي قضية في طور الحدوث ونحن شهود على عصرها مثلما وقف أول مزارع يبحلق في سنبلة زرعها من حبة حنطة، أو جمهرة من الناس تفرك اعينها غير مصدقة وهي ترى السيارة تمر بالقرب منهم، أو من سمع صوتا عبر الراديو او الهاتف أو شاهد أول صورة من على شاشة تلفزيون.
أسوة بمنظومة الطبقات الاجتماعية والثقافية التي تنشأ مع التغيرات الكبرى والثورات البشرية المفصلية، نحن أمام واقع "طبقي" جديد يصعب تصنيفه. ومثلما ينتج أفراد الطبقات المستحدثة ثقافتهم المستحدثة، فأن من الوارد أن نرى انماطا جديدة من الثقافة. قد تكون في بداياتها محاكية للثقافة السائدة، لكنها سرعان ما تثور عليها وتعمل على تغييرها. المشكلة هذه المرة، بالمقارنة بما سبق من ثورات، أن مناولة الثقافة بين عصر وعصر ليست مناولة بين أفراد وأفراد، بل بين أفراد وشيء آخر خليط بين الفرد والآلة.
إستقرأ الانسان العصر القادم حيث الروبوتات الذكية من حولنا. وعندما كتب الأديب الأميركي فيليب ك. ديك روايته "هل تحلم الروبوتات بخراف آلية" عام 1968 ربما كان يجول بفكره أن هذه الروبوتات سيكون فيها الكثير منا ومن صفاتنا بما يزيد عن الشكل والأحلام. لم يفته أيضا أن يتساءل عن معنى أن تكون إنسانا.