رسائلٌ من بريد الموتى
يحدق بوجهه الباهت المرتسم على نافذته المدماة، وحيداً بائساً بين أربعة جدران أسمنتية، سوداء بفعل الحرائق، يطل من بين قضبان سميكة على مساحة ضيقة من المدينة تكفيه لأن يكون شاهداً على الخراب اليومي.
في الشارع المجاور طفلان عاريان يحملان صورة لامرأة عجوز مفقودة، قالوا إنها آخر ما تبقى من العائلة، وهناك خلف هذا الحضور المريب طيف معدني ينشر أديمه المهيب مما يدعى عبثاً سماء، فيرسل قطعاً محمومة تحيلُ الأرض إلى أشلاء من اللحم لما كانوا يوماً يُكَنون بأسمائهم واليوم أصبحوا نقشاً على الشواهد.
في ذلك المنحنى الضيق، تنتعل الهواء ثلاث نسوة مكلومات أعلنَّ بعد الحرب التمرد على شوك الطريق، فالطريق نصف مغلق بعدما غاب عنه المشاؤون، أو بالأحرى أنهم انتقلوا في صناديق خشبية إلى ذلك الوادي السحيق دون أن تطأه أقدامهم، فالطرقات في هذه المدينة تلعن الغائبين.
كل الذين انتقلوا إلى الطرف الآخر من المدينة لم يتسن لهم قراءة المكاتيب التي أرسلوها لهم من سبقوهم إلى هناك، فصناديق البريد تعج بالرسائل وكان على غريب ما أن يوقّع على استلامها جميعاً ويقرأها بالنيابة..
الرسالة الأولى
جندي رقم “54207” من الفرقة الثالثة، مشاة
عزيزتي فيحاء
قد ترتابين من رسالتي هذه أشد الارتياب، نعم معك حق، فأنت لم تعتادي على هذه الخربشة والحروف المتقافزة بغير تنظيم أو استقامة، فلطالما كنت تغبطيني على دقة ترتيبي واهتمامي وروعة كتابتي، لكني أؤكد لك بما لا يدع مجالاً للريبة بأني أنا من كتبت هذه الكلمات، اللعنة كل اللعنة على ذلك الخائن الصغير الذي غدر بي وأنا بأمسّ الحاجة إليه، ذلك الإصبع المقطوع الذي تركني أصارع وصعَّب عليكِ مهمة القراءة، لكن لا تقلقي، مازلت أثق بإخوته الأربعة وبقدرتهم على تعويض الغياب.
الرسالة الثانية
جندي رقم “29301” الفيلق السادس، متطوعين
أمي الحبيبة
كم يؤلمني بأنه لم يعد بوسعكِ قراءة رسائلي بعد اليوم، أنا مذنب يا أمي، ولن أغفر لنفسي كل هذه اللامبالاة، فعيناك التي عميت بكاء على فراقي لم تعد قادرة على معرفة مدى الحزن الذي حل بي، وأنت الآن تستمعين إلى رسالتي يقرأها أحدهم بصوته لن تستطيعي التعرف على صورتي المرفقة، ولن يؤذيك شكل وجهي المشوه ويا لأسفي وقلة حيلتي الآن أمام كل هذا الضياع، كنت صادقة عندما أخبرتني بأن هذه الحرب عبثية، وكنت ساذجاً عندما آمنت بها.
الرسالة الثالثة
جندي رقم “230015” الفيلق الخامس، احتياط
ابنتي الغالية مريم
أرجو أن لا تغتاظي من كلماتي البسيطة والتي قد لا تراعي قواعد اللياقة والكياسة التي أصبحت معتادة عليها، فأنا يا بنيتي كما تعلمين فلاح فقير لم يكن يتصور يوماً أنه سيكون مضطراً لكتابة رسالة إلى ابنته الوحيدة، لكن اطمئني يا صغيرتي، لن تحملي عبء قراءة المزيد من الرسائل، ولن تخجلك لهجتي القروية بعد اليوم، عندما تعودين إلى القرية ستجدين شهادة ملكية المنزل في صندوق خشب القنب في غرفة والدتك رحمها الله، أما حقل الشوفان فيؤسفني أن أخبرك بأني رهنته لأستدين به ثمن تأثيث مكتبك الخاص في البلدة.
الرسالة الرابعة
ممرضة مجندة، الفرقة الأولى، حرب كيميائية
زوجي الحبيب جمال
أتمنى أن تكون على ما يرام، احتفلت الأسبوع الماضي بعيد ميلادك الرابع والثلاثين وأنا في مهجع الجرحى، أعرف أن هذه المناسبات لا تروق لك، وأنك تعتبرها نوع من الابتذال، وأعرف أنك تراني امرأة عابثة بعض الشيء، لكني متأكد أنك ستضحك أخيرا على سخافاتي كما كنت تفعل دائماً، سامحني لأني لم أشعل لك شموعاً كافية، فالجو هنا بارد جداً كما تعرف وإدارة الجيش لا تسمح لنا بتبذير الشموع، لكن لا تقلق فقد وجدت بعض منها في جعبة أحد القتلى، وقمت بسرقة الباقي من خيمة الملازم لوي.
الرسالة الخامسة
جندي رقم “603566”، الفرقة الأولى، إدارة المعتقلات
إلى من نجوا من هذا العبث
صديقي الغريب، واعذرني على مناداتك بهذا الاسم، فلا أعرف لك اسماً غيره، أما أنا فاسمي هو الرقم المبيّن أعلاه، هذه رسالتي الثالثة قد عنونتها بلا عنوان بعد أن فقدت عائلتي وأصدقائي وقالوا لي بعد أن احتجزوني في هذا المبنى الأسمنتي بأني فقدت عقلي أيضاً، وقد أفهموني أن كل من اختار الحياة هو أيضاً مجنون مثلي، على كل حال فالمبنى هنا يكاد يخلو من أي حركة تدل على الحياة غير صراخ البعض في الغرف المجاورة، أما أنا فكل ما أفعله أني أحدق بوجهي الباهت المرتسم على نافذتي المدماة.