فايزة شاويش عن سعد الله ونوس: ذلك الهمس المؤلم
صباح خريفيّ يذكّر بصباحات دمشق الخريفيّة، شمس حيّية تتخلّل نسمات باردة، التقيت في ضاحية جيزيك اللندنية الهادئة بالسيّدة فائزة شاويش؛ حرم الكاتب الراحل سعدالله ونّوس، التي انتقلت مؤخّراً للإقامة في لندن، وتحمل معها ذكرياتها كقلاع أخيرة تحتمي بها لتتمكّن من مقارعة الغربة ومغالبتها بقوّة الحبّ والأمل.
الأمل الذي لطالما أكّد عليه الراحل سعدالله ونوس وحكم علينا به، هو الذي يبقي السيّدة فائزة قويّة متماسكة أمام محن الحياة التي تداهمها، وتجرح قلبها على أحبّائها الذين يرحلون فجأة ويتركون فراغاً كبيراً في عالمها.
أجمل أوقاتي حين أتحدّث عن سعدالله. أشعر بالانطلاق والحبّ والجمال حين أستعيد تفاصيل حياتي معه. هكذا تقول السيّدة فائزة وهي تنطق بعذوبة وحبّ اسم زوجها الراحل وكأنّها تناجيه وتخبره عن حبّها الذي يكبر يوماً بيوم له.
تقول الفنّانة المسرحيّة فائزة التي كان عشقها للمسرح رابطاً تاريخياً جمعها بالراحل سعدالله “أكثر من عقدين من الزمن وما يزال حضوره طاغياً ووجوده كثيفاً من حولي. أشعر به معي في حلّي وترحالي، في صحوي ومنامي، في كلّ التفاصيل، أحياناً أقول لنفسي إنّه سيأتي بعد قليل ليكمل حواراً أو موضوعاً كنّا نناقشه، وظلّ معلّقاً، وأحياناً أخرى أتحسّس مكانه باحثاً عن تجلّيه المأمول لي.
غربتي الحقيقيّة بدأت بعد رحيلي عن دمشق، حين كنت في بيتي لم يكن وقع الفقد عميقاً لهذه الدرجة، لأنّني كنت في المكان الذي أثثّناه معاً، سعدالله وأنا، مكان يعبق بحضوره الطاغي في كلّ الزوايا، أبقيت التفاصيل كما هي كأنّي أنتظر رجوعه، أشعر به نابضاً في الأشياء كلّها من حولي، وأقول لنفسي سيعود بعد قليل”.
حديث فائزة عن رفيق حياتها الراحل بوّابة لاستعادة الذكريات ومفتاح للولوج إلى دنيا الذكريات من خلال أدراج الذاكرة، ولا يخلو الأمر من نكء جروح الماضي التي يخلّفها الرحيل والاغتراب.
صدمات متتالية كان وقعها شديداً على السيّدة فائزة.. الغربة التي تعاظمت بعد رحيلها عن بيتها ومدينتها المعشوقة دمشق، ثمّ غربتها التي كبرت لأنّ شعور الفقد بدأ يستوطن روحها. أحسّت بمرارة رحيل سعدالله أكثر فأكثر بعد أن غادرت عشّهما الأثير في دمشق، هناك كانت الأشياء والتفاصيل محتفظة بعبقه وأنفاسه، وكانت تستعذب تقديس كلّ ما يمتّ إليه بصلة.
تصف سعدالله ونّوس بأنّه كان شخصيّة قلقة، وكان ميّالاً للاكتئاب، وأنّه كان مستشرفاً للمستقبل بمواقفه النقدية الداعية إلى التغيير والتمرّد على الحاضر الذي كنا معيشه.
إذا ذكرت النبل فإنّ سعدالله لي هو النموذج والمثال بالنسبة للنبيل. وإذا ذكرت الطيبة، النزاهة، الجمال، الحب، فهو دوماً المثال والكمال لي. أجمل الحروف بالنسبة لي هي تلك التي تركّب اسم سعدالله. كان ساخراً لمّاحاً بذكاء منقطع النظير. كان الإنسان الكامل بالنسبة لي. هكذا تصفهعنه فائزة التي تقول إنها تحتفظ له بالقداسة المتجدّدة دائماً.
وتضيف السيّدة فائزة إنّها تحزن حين تصادف أشخاصاً طيّبين مميّزين صادقين لم يتعرّفوا إلى سعدالله في حياته، لأنّها تعتبر ذلك خسارة، ولأنّه كان مثالاً للنبل والعطاء، وكان من الرائع الوجود معه والتعرّف إليه.
أعود بالسيّدة فائزة إلى لقائها الأوّل مع الراحل سعدالله، فتبتسم بعذوبة وهي تستحضر تفاصيل اللقاء، حين كانت في العشرينات من عمرها، وكانت تتمرّن على أداء إحدى المسرحيات في مسرح أبي خليل القباني، وجاء سعدالله بأناقته اللافتة، ثمّ بادر بالتعرّف إليها، وقال “خسارة.. أنا مسافر غداً إلى باريس″.
تبتسم فائزة، يضخّ الحنين مزيداً من الأشواق في كيانها وحديثها عن سعدالله. تقول إنّه لفتها بشخصيته الأنيقة المميزة، وظلّ عالقاً بذاكرتها، وحين سألت عنه لاحقاً بعض المحيطين بها قالوا لها إنه كاتب. وكان ذلك شرارة لحياة مشتركة امتدّت لخمسة وأربعين عاماً.
كان أنيقاً في روحه، وفكره، وحضوره. الأناقة كانت سمة مميّزة لشخصيّته. هكذا تؤكّد فائزة.
وتكمل بحديثها عن لقائها به، وكيف تطوّر الأمر بعد أن عاد سعد من رحلته الباريسية، والتقاها أثناء استراحة قصيرة تخلّلت ساعات عملها الطويلة في المسرح، وكان ذلك إيذاناً بحكاية عشق حفرت عميقاً في وجدانها وروحها ورسمت صورة ماضيها وحاضرها ومستقبلها.
مثّلت فائزة في عدد من مسرحيات زوجها الراحل، ومنها: “الملك هو الملك”، “رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة”، “رأس المملوك جابر”، وغيرها.. وتشعر بالفخر أنّها لعبت أدواراً في أعماله، وكانت إلى جانبه، أوّل مَن يقرأ أعماله، ودوماً تقول له بحبّ إنّه يكتب بشكل خرافيّ ساحر.
ومن اللقاء الأوّل ترتحل فائزة بالذاكرة والذكريات إلى الوداع الأخير. إلى أروقة المستشفى، حيث سعدالله على سرير المرض، يستلقي بهدوء، ينتظر تسليم الأمانة، وكانت الفنّانة الراحلة مي سكاف؛ ابنة أخت السيّدة فائزة شاويش إلى جانبه، ممسكة بيده، وهي التي نشأت وترعرعت كابنة لفائزة وسعدالله.
“رحيل مي كسرني.. ليس لديّ إحساس كبير برحيل سعدالله لأنّه يعيش معي لحظة بلحظة، أشياؤه حولي، وجوده يملأ وجودي، لكنّ رحيل مي حطّمني.. لم ألتقها منذ حوالي خمس سنوات.. رحلت فجأة. صدمة لن أشفى منها أبداً. أمّها رحلت ولم أكن إلى جانبها، أختها لمى كذلك، وهي..”. تسبقها الدموع وهي تقول ذلك.
تحكي أنّ سعدالله كان قد رفض أن يُعالج بالأدوية الكيمياوية من مرض السرطان، كان يخشى أن يفتك الكيمياوي به أكثر من السرطان نفسه، ولم يقتنع إلّا بعد أن وعدته بأنّها ستكون إلى جانبه وستساعده على التخلّص من أعباء المرض والحياة إذا شعرت بأنّ النهاية لا بدّ منها. وكان أن اقتنع بوعدها الذي قطعته له.
تذكر أنّه بعد أن بدأ العلاج بالكيمياوي قبل رحيله بأربع سنوات، انكبّ على كتابة أعماله الأخيرة، وكأنّه كان يشعر بأنّ الوقت يداهمه، وأنّ الزمن يسبقه، وأنّ عليه أن ينهي مشاريعه المعلّقة والمؤجّلة.. فكتب “منمنمات تاريخية”، “طقوس الإشارات والتحولات”، “أحلام شقية”، “يوم من زماننا”، “ملحمة السراب”، “بلاد أضيق من الحبّ”، رحلة في مجاهل موت عابر”، “الأيام المخمورة”.
تقول إنّه حين أدخل إلى المستشفى في المرة الأخيرة، وكانت حالته تزداد سوءاً، شعرت بأنّ عليها أن تفي بوعدها له، وتطلب منه المغادرة، وتساعده على ذلك بطريقتها الخاصة، كما كانت قد وعدته. وحين ذهبت إليه وكانت مي جالسة إلى جانب سريره، طلبت من مي أن تخرج قليلاً وتتركها مع سعد. تقول إنّها قرّبت فمها من أذنه، ووشوشت له بضرورة المغادرة. دوي سيّارة إسعاف تسرع في الشارع الرئيسي لجيزيك يقاطع بوح السيّدة فائزة، ويمنحني لحظة لأمسح دمعي الصامت المنحدر بدوري.
تضيف فائزة بأنّ تلك اللحظة التي كانت مفصلية، حيث استفاق سعدالله من رقاده المديد على السرير، نظر إليها نظرة عميقة، كأنّه يشكرها على إيفائها بوعدها له، ثمّ زفر زفرة بدت كأنّها الوداع، وأنّها زفرة الرحيل، لكن الروح لم تغادر الجسد خلالها. فانثنت على أذنه مرة أخرى وطلبت منه بحبّ ووجع الرحيل، فزفر مرّة أخرى ورحل. حينها كان الدكتور يجسّ نبضه، أخبرها أنّه رحل.
بين اللقاء الأوّل والوداع الأخير حياة مفعمة بالتفاصيل، بالمشقّات التي ذلّلها العاشقان سعدالله وفائزة بالحبّ والشغف والتفاهم والصبر، حياة تحمل ملامح حقبة مهمّة في تاريخ سوريا والمنطقة بما شهدته من تغيّرات. رحلة عمر وأدب وفنّ.
تتحدّث فائزة عن احترامها لرغباته، وأنّه لم يكن يرغب بإنجاب الأطفال، وأنها كانت تلتزم بقراره، لكنّها ذات يوم طلبت منه بحبّ وعشق أن ينجبا طفلاً، وكان أن وافق على إلحاحها وطلبها، واشترط أن تكون بنتاً وليس ولداً، وهي بحبّها المعهود له توافقه.
تقول إنّها بعد أن أنجبت ابنتها ديمة كرّس سعدالله حياته كلّها من أجلها، كان يقضي معها أوقاتاً طويلة، يحكي لها حكايات كثيرة، ملأت حياتهما بالجمال، وكان سعدالله مفعماً بمشاعر الأبوّة العظيمة تجاهها.
ديمة ونّوس؛ ابنة الراحل سعدالله؛ كانت تستمع إلى حكايات أمّها عنها، ديمة الروائيّة الحكّاءة والإعلاميّة التي حقّقت إنجازات على الصعيد الإعلامي والكتابي، وكانت روايتها “الخائفون” مدرجة ضمن اللائحة القصيرة لجائزة البوكر للرواية العربية، تستمع إلى رواية أمها عن طفولتها، ذكرياتها الباقية معها، حبّها الذي يكبر مع الزمن.. تراها أمّها استمراراً لإبداع أبيها وجماله.
وبالحديث عن أوراق سعدالله ونّوس غير المنشورة بعد، ومذكّراته ويوميّاته التي تحتفظ بها زوجته وابنته ديمة، تقول فائزة إنّهما؛ هي وديمة، ارتأتا عدم نشرها في الوقت الحالي.
تكون لهما مبرّراتهما، ولا سيّما أنّ الأوراق مسوّدات لن يستطيع صاحبها مراجعتها، ولا تنقيحها، ولا تغيير بعض الأشياء فيها، بحيث قد يفهم أو يكون أي تغيير أو شطب أو حذف من قبلهما تلاعباً أو عبثاً بالأوراق ومضامينها، وهما لا تودّان ذلك.. وتفضّلان الإبقاء عليها بصيغتها غير المنشورة.
فائزة شاويش التي تعدّ شاهدة على مرحلة مهمّة في تاريخ الفنّ والأدب والمسرح السوري الحديث، كانت جزءاً من هذا التاريخ، حاضرة إلى جانب شخصيات فاعلة فيه، كانت تدور في فلك سعدالله ونّوس أو تتقاطع معه في الهموم والانتصار للقضايا الإنسانية التي نذر نفسه لها.
تستعيد فائزة قلق سعدالله حين كان ينهي نصّاً مسرحيّاً له، وكانت هي بمثابة مديرة أعماله، تؤدّي له الخدمات بحبّ ومتعة، تشعر ببهجة العطاء معه، تكون مدفوعة بمشاعر الحبّ والأمومة والمسؤولية تجاهه في الوقت نفسه. نذرت نفسها له، وكانت حاضرة من أجله.
تقول إنّ دورها كزوجة وأمّ في رعاية المبدعين أعظم دور، وهي سعيدة جدّاً به، فكما كانت أوّل مَن يقرأ مخطوطات سعدالله ها هي أوّل مَن تقرأ مخطوطات ابنتها القاصّة والروائيّة ديمة، وهي محظوظة بأنّها تظلّ مسحورة دوماً بإبداعهما.
تبتسم فائزة وهي تقول إنّ ديمة كشفت قبل أيّام أنّها جلبت معها بعض كسرات خبز سعدالله، وأنّها تحتفظ بها كأعظم كنوز في العالم لديها. تقول إنّ كلّ أشياء سعدالله هي كنوزها التي لا تنضب.
حديث الذكريات والبوح مع فائزة يبدأ من دمشق ويعود إليها، فالغربة الحقيقيّة هي الغربة عن دمشق، والرحيل الكبير المؤثّر هو الرحيل عنها، حيث يبلغ مداه لأنّه يبرز فداحة الفقد وجسامة الخسارة.
ولعلّ أبلغ كلمة يمكن أن يبدأ أو يختم بها حديث عن صاحب أعمال مسرحية ساحرة كسعدالله ونّوس هو قوله الشهير في رسالة يوم المسرح العالمي لعام 1996″إننا محكومون بالأمل. وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ..”.