سعدالله ونّوس.. رسالة وجواب
التقينا في أوائل السبعينات، في موسكو، حيث كنت أدرس موفدا من قبل حكومة نورالدين الأتاسي. كنت أعرف من هو.. وعرفني بعد سنوات، ربما بعد أن رأى شيئا من محاولاتي. لم أواكب، بسبب غيابي، تعاونه المبدع مع توأمي فواز الساجر، لكنني، بعد عودتي إلى سوريا، وعلى الرغم من انسداد أبواب النظام في وجهي، تحاملت مرغما وصرت في أواخر السبعينات مشاركا في تلك الحلقة العجيبة بطاقاتها الإبداعية، قد لا يجمعها انسجام مطلق بالأفكار، لكننا كنا نتشارك بالحلم، ذلك الذي كان ممنوعا إذ أقرّ العسكر أن من يحلم هو “القائد إلى الأبد” .
رحل الغالبية، قهرا، كان الشاعر رياض الصالح الحسين أولهم (26 سنة)، ثم تبعه فواز (40) ثم سعيد مراد (55) فسعيد حورانية (66) وسعدالله نفسه (55). تابع من بقي منا الحلم، ونشارك في ثورة شعبنا للإطاحة بالاستبداد، عدا اثنين أو ثلاثة.. تنازلوا عن الحلم من أجل مكاسب شخصية وآنية.
عندما قرّرت نفي ذاتي، بعد أن حاولت عبثا أن أجد لنفسي حيزا كنحّات، وبسبب ملاحقة أزلام “القائد” لي لإنجاز تماثيله. قليل من يعرف أن تلك الملاحقة صارت تحمل تهديدا مبطّنا نتيجة تهرّبي ومماطلتي. اضطررت إلى التظاهر بالرضوخ ريثما أرحّل عائلتي بسلام. كان ذلك سنة 1987.
لكنني قرّرت، كان لا بدّ، أن أترك ذكرى نحتية ما، فانعزلت ما يزيد عن شهرين في بقايا حوش كان في بيت الأهل بيبرود وأنجزت أعمال ما أسمّيه “معرض الوداع″.. على وزن الحجّة. أقيم في تموز 1987 في غاليري “أورنينا” بدمشق. زارني سعدالله بعد مشاهدته المعرض وقال لي ما أذكره للمرة الأولى “ليس معرضا، هو حدث”. يخجلني تذكّر هذا.
كان لا بدّ لي في منفاي الاختياري (إسبانيا) محاولة التواصل مع الأصدقاء وتسقّط أخبارهم. ما كانت الاتصالات الإلكترونية شائعة (على الأقلّ عندي) وكنت أعود غالبا من استطلاع صندوق البريد خائبا. تحدثنا هاتفيا مرات قليلة، بعدما علمت بمرضه. ولأن الكلمات لا تعينني تماما في نقل ما أعنيه قرّرت تصوير الرسالة بكاميرا فيديو عادية تديرها يد غير خبيرة (أنا). صوّرت له في المشغل والبيت. أردت أن يرى محاولاتي، فالكلمات لا تفيد في هذه الحال.
لعلّ فايزة وديمة تحتفظان بذلك الشريط الذي حرّّضه على كتابة “نحت الخواء” وهي رسالة أعتبرها قطعة أدبية. سيلحظ القارىء بجلاء حضور الموت في الرسالة، وكيف جعلته تلك الحال ينظر إلى أعمالي بمنظاره. لذا اعتبرتها رؤيا.
نحت الخواء
«الصديق العزيز عاصم الباشا،
تحية لك، صديقا ومبدعا”.
هزتني المشاهدة الأولى لشريط الفيديو الذي أرسلته، والذي يصور منحوتاتك الأخيرة، وكانت الانطباعات التي تشكلت لي ذاهلة ومشتتة، احتاج الأمر أن أشاهد الشريط مرة ومرة، كي ألم شتات انطباعاتي، وأنظمها في رؤية يتوفر فيها الحد الأدنى من التناسق.
والواقع أني لا أستطيع الحديث إلا عن انطباعات ورؤى شخصية. إذ أني لا أملك أي زاد أكاديمي أو نقدي، يؤهلني للكتابة عن النحت بمصطلحات النحت.
وما تحمله هذه الرسالة لا يعدو نوعا من البوح، الذي يتلعثم به تيار من الانفعالات والتخاطرات وشحطات الذاكرة.
تسمرت عيناي على المنحوتة الأولى. هذا الوجه الذي اعوج أنفه، واختلت ملامحه، غابت إحدى عينيه في انطفاء معدني بارد. هذا الوجه أكاد أتعرّفه، ثم ينأى بعيدا رافضا التصنيف أو التشابه. بعد هذا الوجه، ستتوالى رؤوس، وستكون جميعها مفككة الملامح، مزمومة على تعابير يكاد المرء أن يقرأها، لكنها سرعان ما تنحل في الفراغ، قبل أن يجد المرء الكلمة المناسبة، هذه الرؤوس، التي يمكن أن تكون قد استوحيتها من الندوات الثقافية المحشوة بالادعاء واللغو والصخب. ويمكن أيضا أن يكون ما حفزك على نحتها، وهو ميل ماكر إلى «الغروتسك» والسخرية الماجنة، ولكن ما تنضح به هذه الوجوه هو أعمق من السخرية وأشد مأساوية.
في المشاهدة الأولى، تركت نفسي أنساق مع الانطباع الذي أردت أن توحيه لنا، ولكن في المشاهدات اللاحقة، وجدت أن مثل هذا الانطباع ليس إلا مستوى أول، يكمن خلفه وعلى مسافة منه، مستوى أكثر عمقا، وأغنى دلالة. وسأكتشف في مشاهدة لاحقة، أن هذا المستوى بالذات هو خيط أريان، الذي يضيء هذه المرحلة الإبداعية الجديدة.
سأعود إلى هذه الوجوه، لم تثر فيّ أي ضحكة أو ابتسامة، ولم تحرّض في داخلي أي مزاج تهكمي لاذع. بل وعلى النقيض من ذلك، انتابتني وأنا أتأملها كآبة غامضة، كتلك التي تصيبني حين أتمشى في مقبرة، أو حين أزور بيتا كنت آلفه، فلا أجد إلاّ خلاء موحشا وأنقاضا مبعثرة. إن هذه الكتل الثقيلة التي تتشكّل رؤوسا، لا تنتهك الفراغ، بل تجسّمه. وبالنسبة لفنّان قدير، ليس مدهشا، أن يبتكر المفارقات، وأن يجعل الكتل الكثيفة والصمّاء، امتدادا للفراغ، وتعبيرا خشنا عن الخواء. الخواء الذي أعنيه هنا، هو مادي ومعنوي على حد السواء.
بعد أن كتبت الأسطر السابقة، عدت وشاهدت الشريط مرة أخرى.
كدت أشعر بإشفاق، وكدت أتخلّى عن هذا الانطباع. هناك تنوّع مدهش، وسأكون مشاهدا فقير الحساسية، لو حاولت أن أعلّب هذا التنوّع في فكرة واحدة، أو انطباع رئيسي، ولكن رغم إدراكي العميق لهذه الحقيقة، فإني لم أستطع أن أتخلّص، وخلال كل المشاهدات المتكرّرة، من وقر إحساس مزدوج بالكآبة. كآبة الكتل على تنوع تمثيلاتها، وجمال تكويناتها، وكآبتي الذاتية وأنا أتأمّل هذه المنحوتات. وهذا يعني أن هناك ما هو موجع مسّني، ونفذ إلى أعماقي. وأستطيع هنا أن أذكر خواتم أعمال أدبية هامة، قد تركت في نفسي مشاعر مشابهة، يتمازج فيها الأسى والدهشة. وتخطر لي الآن بصفة خاصة خاتمة قصة لتشيخوف عنوانها “اللعوب”. وأذكر أن الحزن الذي تكوّم في داخلي غيما ورمادا، لم يكن سببه موت الزوج “الدكتور أوسيب ضيموف”، بعد أن أُصيب بعدوى الدفتيريا، وهو يحاول إنقاذ طفل مصاب بهذا المرض، بل كان السبب الأعمق هو الفقر الروحي والعقم، اللذان تتصف بهما زوجته أولغا. إن مهارة تشيخوف الخالية من أي عاطفة فجّة، في تصوير الخواء الذي يمتص حياة أولغا، هي التي هزّتني في المقام الأول. وعلى كل فقد كان تشيخوف، وقبل دوستويفسكي، هو الذي علمني كيف يكون الألم والبشاعة والابتذال والعقم موضوعات لجمالية تمسّ الروح، وتقلق الوعي.
كان هذا الاستطراد ضروريا، كي أنتقل إلى خصوباتك، ولكن أهي حقا خصوبات!
يبدو أن أحدا لم ينجُ من العاصفة، والانهيارات التي وشمت نهايات قرننا المجيد والرثّ في الوقت نفسه، تداعت أنقاضها فوقنا وحولنا. لقد غدونا جميعا وكأننا في تيه. الأرض تحت أقدامنا رخوة، ورؤانا ممزّقة وشقية.
لقد تأمّلت خصوباتك جيدا، وهالني الجهد الإبداعي الذي بذلته كي تستنبت من الأنقاض، وبعيدا عن تيار السوق بطابعه السلعي الرخيص والمبتذل، خصوبة سخية تفعمنا بالرغبة والأمل، ولكن ما انكسر في داخلك أشمل وأعمق، من أن يلأمه مجرّد قرار متبصّر. إن لاوعي الفنان أنقذك من الافتعال والتفاؤل السطحي. ولهذا جاءت تكوينات الخصوبة لديك موسومة بما يقترحه هذا الزمان ويتلاءم معه. خصوبة شقية ومغصوبة، وفق هذا غير مؤكدة. لم أشعر أمام كتل الأثداء والبطون والأفخاذ أنّ هناك ما يتأهب للتفجير والفيض. لم أرَ أراضي محروثة تنتظر فرح البذار، ولم أسمع نغمات أطفال يشقون أجساد الأمهات، ويخرجون كانبلاجة الفجر. لم أحس على لساني طعم حليب يتدفّق، ولم أشعر في أوصالي شهوة تتفتح كأزهار الكرز والمشمش. إن ما أبصره هو خصوبة أزمنة حبلها كاذب، وبطنها يكوره الهواء والخواء. لقد أعطيتنا، وربما دون وعي، الخصوبة المعوقة التي هي علامة زماننا. وفي المنحوتة التي يتكور فيها ثديان هائلان أيقنت، وأنا ألمح الحلمتين مفتوحتين، أنه لا يوجد في هذين الضرعين الهائلين إلا خواء محزن وأغبر، وغمتني وحشة وكآبة.
منذ زمن بعيد، كتبت عملا قصيرا عنوانه “بعد ظهر دمشقي”، وهو يحكي عن موظف وزوجته يدخلان بعد الغداء، وفي نهار صيفي قائظ إلى غرفة النوم. الرجل والمرأة يميلان إلى البدانة.
“يجلس الرجل على حافة السرير، ويشعل سيجارة. بينما تتربّع المرأة فوق السرير، وتبدأ تنتف بالملقاط شعرات متناثرة على ساقيها البيضاوين. يتجشأ الرجل. يقول “أكلت إلى حد التخمة”. بعد صمت قصير، تعقب الزوجة، وكأنها تحدث نفسها “كل يوم تقول أكلت إلى حد التخمة”. يمج الرجل سيجارته، ويقول باندفاع “خَلَص.. غدا سأبدأ رجيما صارما”. بعد صمت قصير تعقب الزوجة، وكأنها تحدث نفسها “كل يوم تقول خلص.. غدا سأبدأ رجيما صارما”. يقول الرجل بضيق “وأنتِ.. هل تمسكين عليّ دفترا بما أقول طز″ بعد صمت قصير، تعقب الزوجة، وكأنها تحدث نفسها “كل يوم تقول وأنتِ هل تمسكين عليّ دفترا بما أقول”.
ينفخ الرجل مجّة الدخان الأخيرة وكأنه يتنهد. يطفىء السيجارة في المنفضة الكائنة على الكومدينة. يمد يده. يفتح الراديو. يتدفق صوت نسائي بالدلع والغناء “ما شربش الشاي. أشرب أزوزة أنا”. يهتز الهواء الحار في الغرفة، وتحوم ذبابة حُبست معهما. يدير الزر، ويخفض الصوت.. يحرك المؤشر مغيّرا المحطة. ينبعث صوت مذيع “دعا الأمين العام للجامعة العربية”. يغيّر الرجل المؤشر. تنداح في فضاء الغرفة دقات ساعة “بيغ بن”. تتطاول الدقات، وكأنها لن تنتهي. يغلق الرجل الراديو بحركة عصبية، ثم يمد يده، ودون أن يلتفت إلى فخذ امرأته. يتحسّس نعومة الفخذ بحركة آلية وفاترة. تقول الزوجة، وهي تنتف شعرة من ساقها الأخرى “أجّلها إلى الليل”. يجيب الرجل، ودون أن يلتفت “لا.. في الليل يسرقنا التلفزيون”. تضع المرأة الملقاط تحت المخدة. ترفع عجيزتها بحركة آلية، وتخلع سروالها. تتمدّد على ظهرها، وتفرج ساقيها. يخلع الرجل بنطلون البيجاما، وسرواله العريض الفردتين. يمسك ثدي امرأته، وينبطح فوقها. تغمغم الزوجة “ألا تعتقد أننا نكثر”. يدمدم الرجل من بين أسنانه “وماذا نفعل”. يعمّ صمت رخو لا يخدشه إلاّ أزيز ذبابة وحيدة. ترتفع إليتا الرجل، تهويان. ترتفع إليتا الرجل، تهويان. تغرز الذبابة خرطومها في ظهر الرجل المغطى بالعرق والدهن. ترتفع إليتا الرجل، تهويان. ترتفع إليتا الرجل، تهويان. تطير الذبابة، وتحط على المصباح الكهربائي المتدلي من السقف. تنظر من أعلى. ترتفع إليتا الرجل. تهويان. تشعر الذبابة بالتقزّز والحزن. تطير محوّمة وباحثة عن مخرج. ترتفع إليتا الرجل. تهويان. يحشرج بصوت مخنوق أه..أه..أه.. لا يند عن المرأة أي صوت. ويظل الصمت الرخو مخيما على الغرفة. ينهض الرجل عن المرأة. يرتدي سرواله وبنطلون بيجامته. يتجه نحو الباب. يخرج من الغرفة. تشعر الذبابة بالفرح، وهي تطير عبر الباب المفتوح. تنقلب المرأة على جنبها الأيسر، وتغمض عينيها. بعد قليل يتناهى من داخل البيت صوت اندفاع الماء، بعد فتح سيفون المرحاض. تعوم الضجة في صمت الغرفة وفراغها، كفقاعة صابونية كبيرة. يعود الرجل إلى الغرفة. يتحول صوت الماء الذي يملأ خزان المرحاض إلى خرير يتخافت. تصغر الفقاعة الصابونية حتى تتلاشى. يتجشأ الرجل عدة مرات. يتمدد على الطرف الثاني من السرير مديرا ظهره للمرأة. بعد قليل يخدش الصمت، وبشقوق متوازية، شخير منتظم ورتيب”.
حين كتبت هذا العمل الصغير، كنت أحاول القبض على الخواء ملموسا وعاريا، ولكن الكلمات تراوغ، وهي، مهما كانت جوفاء وركيكة، تحتفظ بإرث من البلاغة، وتقترح صراحة أو مواربة، سلسلة من الأوضاع والأفعال. إن الكلمات وبسبب رخاوتها الفطرية، لا تستطيع أن تكون كتلا ملموسة وتكوينات لا تمثّل معنى، أو تشي به، لأنها هي المعنى ذاته.
والآن أتذكّر أن ما أدهش جان جينيه، وهو يتأمّل منحوتات جياكوميتي، هو أنه تخيّل أن الفنّان لا يبدع منحوتاته، كي يتواصل معها معاصروه أو الأجيال اللاحقة، بل كي يُذهل الموتى، وجان جينيه يعتقد أن أي عمل فني لا يمكن أن يصل إلى الذرى العظيمة إلا إذا استطاع أن ينضمّ إلى الليل اللانهائي والمحتشد بالموتى الذين سيتعرفون على أنفسهم عبر هذا العمل الفني. وقد ذكرت رأي جينيه بعمل النحات جياكوميتي، لأني تلمست، وأنا أتأمل خصوباتك، رحلة عكسية إلى هذا البرزخ الغريب واللزج الذي يمضي ذهابا وإيابا بين عالم الأحياء وعالم الأموات.
أنت لم تصل إلى زهد وتقشّف جياكوميتي الذي ينحت كي يُذهل الأموات، على حد تعبير جينيه، ولكنك تعلم جيدا أن في ذلك العالم المحتشد بالموت والموتى، ثمة حقائق ثمينة، ولقى عجائبية، ولهذا فأنت، واعيا أو لاواعيا، تهرّب لنا من ذلك العالم صياغات جنائزية (وأعني بالجنائزي هنا معنى أعمق من المعنى الشائع). تدسها بيننا تحت لافتات تنكرية خادعة. أنت مازلت حسن الطوية، وتريد أن تتواصل معنا نحن معاصريك، وربما مع الأجيال التي تلينا، ولكن لأنك تعي أن الأزمان السعيدة غدت وراءنا، وأن التواصل حتى مع معاصريك، لا يمكن أن يتمّ بالسلاسة التي كان يتمّ بها، فإنك تلجأ إلى مخزون فطري من المكر والذكاء، لتدس تحت أعيننا منحوتة الموت مموهة باسم تنكّري مثقل بالمفارقة والسخرية، وإلا ما معنى أن تسمي منحوتة الموت خصوبة! والواقع أن كلمة موت غير دقيقة، لأن ما أعنيه بالضبط هو ذلك البرزخ الفاصل بين العالمين، وهو برزخ لا يمكن أن نجد له اسما أفضل من الخواء. أي هذا الزمان/المكان الرجراج، الذي يفارق المرء فيه الحياة دون أن يصل إلى سكينة الأموات. من هنا هرّبت منحوتاتك الأخيرة. ووزّعتها أمامنا كي نلاحظ خلف التمويهات الماكرة، أن الخواء غدا مدا مرعبا يهددنا، ويهدد العالم حولنا. سيكون على معاصريك، أن يتذوقوا صدمة الفضيحة. إنهم مجوفون بالعنّة والعقم والاستلاب. وإن العواطف والرغبات والعناقات قد تحولت إلى تخييلات مشهدية، كتلك التي تغصّ بها الحفلات التنكرية، أو التي تسوّقها الشاشات التلفزيونية. لا شيء فينا قادر على الإخصاب، أو قابل للإخصاب. وحين وضعت أمامنا تلك الأثداء الزائفة الامتلاء، وتلك البطون الشبيهة بالثمار المفوّتة، كنت تضع، بخبث أو دون خبث، موتنا تحت أبصارنا.
والمسحة الجنائزية التي توشّي الوجوه النافرة، التي أردت أن تستعيد بها تراث النحت التدمري على جدران قبورهم، عمّقت الإحساس بالموت، وغلّفته بطابع تأمّلي أسيان. لا يوجد أي تعبير فاجع، كذلك لا يوجد أي تمرّد أو احتجاج، بل إقرار داخلي مستسلم بأن هذا هو شرطنا ومصيرنا معا.
بعد قليل، سيهطل المطر، وستفتح باب المشغل الذي يطل على بستان حقيقي. وللحظات سأتنفس بعمق، وسيذهلني هذا المنظر الذي ينقض عملك، ويعاكسه. سأنظر إلى العشب الغض والمبلل بالمطر، وإلى الزهر الأبيض الذي يكسو غصون شجرة الكرز أو المشمش، لا يهم. وسأقول.. هي ذي خصوبة طبيعية وبسيطة، تنسكب من السماء، وتفيض من الأرض. للحظات سأفتتن بهذه الخصوبة، وكأنها دوار مسكر ولذيذ، ولكن سرعان ما تتبدد هذه الحالة، وأتذكر أن الفنان، الذي يبصر ما وراء الظواهر والمرئيات، والذي يتوغل في ظلمات الشقاء والخراب والموت بحثا عن ضوء وإلهام. هذا الفنان لا يمكن أن تغويه أو تبهره هذه الخصوبة المباشرة والمبسطة. لا… إن الفنان الحقيقي لا يمكن أن يستغرق بهرج الكرنفال رؤياه. فهو يتخطى بالبصيرة والرؤيا صخب الملابس والألوان والتزاويق، لينفذ إلى ظلمات الأعماق حيث الحقائق والظلال، وحيث الوجوه العارية والثياب الفعلية، وحيث لا يوجد أحيانا.. إلا الخواء. وعلى كل، ينبغي ألا ننسى أن ما شهدته، ليس هو المنحوتات بالذات، وإنما صور عنها. إن تجريد تلك المنحوتات من ثقل مادتها، وحضور التشكيل الإبداعي فيها، وتحويلها إلى صورة مسطحة على شريط تلفزيوني، ينطوي في حد ذاته على مفارقة وتضليل. ومن يدري! فقد يكون الانطباع الذي أفعمني نابعا من التخييل الذي يمثله شريط الفيديو، أكثر مما هو نابع من المنحوتات ذاتها.
أغناني الأسى الذي كسوت روحي به. وأبهجني أنك تتجدد دائما، وأنك تواصل رحلة البحث والتجريب دون كلل أو ملل.
أقترف أعمالي
المعلّم الصديق سعدالله ونّوس:
تحية من القلب وغرناطة
“حكايتنا مع الموت بدأت منذ ميلادنا لأنه كان شرط ذلك الميلاد.
ثمة من يتناساه وآخرون – أجدني بينهم – يحيون في حوار معه.. ونكاد ننسى حين نفرح.
ما من مصادفة في ذلك التواصل، وإذا ما تبدّى للمشاهد غيابا فعلّة في النظر.
لا أتغنّى بالموت، إنما هو في جسدي.
علّمتني البيولوجيا أننا جمع اثنين: حياة وموت، الحياة تعني أن خلايا تلد بينما تموت أخرى، ينعدم التوازن في الطفولة لصالح الحياة، يتوازن في الشباب ويبدأ الخلل في الكهولة.. إلى أن يختلّ تماما.
فما الغريب في كلّ هذا؟ أتساءل وألمس كم أكره غربتي.
منحتني الأندلس كثيرا، كأن أقدّر كم أفتقد الأصدقاء وخبز التنّور، لكنني، في خضمّ الضجيج الذي تحدثه سيوف ابن بلج وشهقات أبي عبدالله الصغير، سمعت، تناهى إليّ صوت أبي الفضل بن شرف الأندلسي:
لعمرك ما حصلت على خطير من الدنيا ولا أدركت شيّا
وها أنا خارج منها سليبا أقلّب نادما كلتا يديّا
وأبكي ثم أعلم أن مبكاي لا يجدي فأمسح مقلتيّا
ولم أجزع لهول الموت لكن بكيت لقلّة الباكي عليّا
وأن الدهر لم يعلم مكاني ولا عرفت بنوه ما لديّا
زمانٌ سوف أُنشر فيه نشرا إذا أنا بالحِمام طُويت طيّا
أُسرُّ بأنني سأعيش ميتا به ويسوؤني أن متّ حيّا.
أتساءل ما إذا كان من المجدي محاولة البوح عن قصة العجز هذه، اضطراب الأفكار والاستمرار في الشكّ في كلّ ما حاولته، أفعله، أو في ما قد يأتي.
أي غاية لهذه الترهات جميعها؟
إن كان لا بدّ من الغوص في الذات بحثا عن العلّة فثمة واقع لا يحيد عن تصالب محوريّ أنفي وعينيّ: إنني ‘أقترف’ أعمالي لأنه يحلو لي. فهل تصلح لبداية؟
أتساءل: أليس من الأسهل والأجدى (وأكثر سلامة) التطرّق لتلك التفاصيل التافهة التي نتحرّك بها وتحرّكنا؟ بكيف يشدّ الوحل شعيرات أصابعنا وأيدينا ما إن يجفّ، أو النقطة الواهية التي تفصل ما بين الضحك والبكاء، تلك التي تستدرج الدموع؟
أدركت عجزي هذا منذ سنوات مديدة، ربما منذ بدأت في ‘الكار’، اكتشفت أنني لا أفهم ولا أفقه شيئا وبدأت أسعى – على الرغم من مسح البصر والبصيرة – للتذوّق بصورة مغايرة لما جاء في الكتب (كم من مصيبة وُضعت ما بين دفّتين!). بتّ أكره متاحف التشكيل، تبدو لي كالمقابر (أستعيض عنها برؤية الآثار) وإن كنت أدخلها أحيانا استجابة للعرف أو بحثا عمّن دخلت أعماله خطأً. ويحدث أن أجد أحدهم، أمكث معه قليلا، أتماسك ثم أهرع خارجا.
في الحديقة المتاخمة للمتحف سوق للحرف اليدوية، أغيب في زحام الناس وألقى في التماثيل الخشبية المتكرّرة لزميل أفريقيّ شيئًا ممّا يعتورني ويذكّرني بأعمال صاحبي الذي دخل سهوا في المتاحف. يصبغها لتحاكي الأبنوس فأبتسم، لأننا نقلّد كلّ شيء. في خزفيات البيرو والخشبيات الهندية أتنسّم شيئا مشابها.
ألم يكن إرغام المصوّرين والنحّاتين على الدخول في البورصة لعبة تجارية بحتة أملتها صفاقة البرجوازية الوليدة في محاكاتها لأولي السلطة الدينية والدنيوية؟
ترى، أما كان النحّات السومري، الفينيقي، اليوناني أو المصري يعمل كأي مهنيّ آخر؟
كذا أميل إلى رؤية التشكيل اليوم.
أنا واثق من حسن اختياري لمعلّمي الأول، ذلك الذي أجهل اسمه، من كان ينتظر في حانوته، في السوق، أن يُطلب منه تمثالا لعشتار أو..
يخفّف هذا في نفسي من وطء انهيار الأحلام…
سأنتظر في حانوتي أن يُطلب منّي عمل ما.. وريثما، سأحاول كتابة مذكّراتي، بالصلصال والحجر والمعدن والبوليستر والورق .. فمن يدري؟ ثم إن في السوق كسادا…”.
يحدث – لماما – أنني أقوم بتسجيل نزوات تخطر في البال، معظمها أقرب إلى الهذيان منها إلى “رنّة الفولاذ” (كما وصف عبدالرحمن منيف أعمالك في زيارته الخاطفة إلى درجة أنه كان قد رحل عندما علّقت “دمشقيّ، فولاذ دمشقيّ”).
وجدت القصاصة السالفة بين فوضى الأوراق، بينما كنت أتخبّط متردّدا في الردّ على رسالة انطباعاتك التي فاقت “الأعمال – النعرة” التي حرّضتها.
ذكّرتني بأن النقد الحقّ إبداع بحدّ ذاته، لكن رسالتك كانت – في نظري – أكثر أهمية من رأي الناقد لأنها حملت رؤيا.
قد أخالف الآراء لكنني أصمت حيال الرؤى.
هذا لا يعني أن أعمالي بسوية رؤاك، يكفيها أنها كانت بمثابة المحرّض.
ذلك المبدأ اليوناني الذي اعتمده ماركس والقائل بضرورة البدء بالشك أمارسه منذ جبلت الجدلية كياني (ومازالت، بإصرار مدهش وممتع)، لكنني أنتهي بالشك إياه. لنقل إنه غدا أسلوبي في تناول الأمور. لا أتلمّس أي قيمة في ما أصنعه، اللهم سوى أنها كانت محاولة: أحاول أن أشهد، بفقر أدواتي وحدود الإمكانية. قد أتمسّك ببعض الأعمال لأسباب عاطفية أو لأنها تمخّضت في ظرف ما بعينه.
أقول أسلوبي لأنه يقضّ مضجعي ويدفعني إلى متابعة المحاولة.
جاءني بالأمس صديق برفقة طفل أوكل به لغياب أهله. تصفّح الطفل ما تسنّى من الأعمال وسأل: كيف يُفهم هذا؟
ارتبكت. سارع صديقي قائلا: قد تدرك.. مع الزمن..
لكن الطفل لم يقتنع. سحر سؤاله مازال يلاحقني.
تراه مازال بعيدا عن ممارسة الموت؟ لم يعه بعد؟
الشك برزخ بدوره ونحن، يا سعد، بتنا من سكّان البرازخ.
إنما نسعى كي لا نموت تماما. هذا أمر لا يحتمل النقاش. وربما كنا الموتى الذين عناهم جان جينيه.
والخواء هنا، في بلاد الفرنجة، وافر أيضا، إلاّ أنهم ينشغلون بتأمّل الصرّة والحفاظ عليها بما يمليه ذلك من إلغاء للغير. شعوب الشرق الأقصى لم تنقطع عن الرسم والنحت منذ آلاف السنين، فهل صادفت تأريخا للفنّ المعاصر يشير إليها؟
ونحن ننتمي إلى العالم المتجاهَل، عالم عاجز عن تفهّم ذاته وتابع بحكم جهله واعتماده في أحسن الحالات، على تأريخ زائف.
حيال هذا القدر من الموت لا بدّ لنا من المطالبة بالكثير من الحياة. الإشارة إلى العتمة للإيماء بالنور ما عادت كافية. أعتقد أنني استغرقت في الإشارة.
أنا بصدد البحث عن صياغة، ولأكون أمينا لأسلوبي: ما أظنني واجدها، فالوقت قصير والصدر لا يعبّ ما يكفي من الهواء.
عندما غادرتكم كنت أهرب ممّا سمَّيتَه خواء، ذلك الذي عانيناه معا وغيّب أحبّتنا باكرا باكرا. التجأت إلى منفاي الاختياري هذا، جبانا، في منأى عن المهانة (أقصد تلك الفجّة المباشرة التي تلقاها في الأرصفة)، لكن القهر والعجز والخواء الذي حملته تلك الصور باتت جميعا في نسيج كياني. واليوم، بعد تسع سنوات، أعاني من القهر ذاته، بالقدر إياه.
كثيرا ما أقضي في مشغلي ساعات مديدة وأياما لا تنتهي عاجزا عن الإتيان بحركة، تتقاذفني التساؤلات وتطيح بي الحيرة.
بعدي عن تيار السوق – كما أشرتَ – والغربة التي تواجهها رؤيتي للأمور وغلاء الإيجار وغياب الدخل الثابت وانزوائي ونباح كلب الجيران.. كلها شروط تكبّلني. لذلك، وتخفيفا للكدر الذي أعود به إلى البيت (اقرأ: خواء الصدر واليد) عمدت في أفريل الماضي إلى شراء دجاجات خمس، كأنما البيضات الثلاث أو الخمس التي أعود بها تبرّر انقضاء يوم آخر من العمر بلا طائل.
البيضة – بالمناسبة – في عرف النحت، أكثر الكتل انسجاما في الكون. تأمّلها مازال يغريني.
ليس من حقّنا التذمّر مما نجنيه بعد أن اخترنا بمطلق الحرية. أذكر طرفة بهذا الصدد: بعد أن ساءت أحوال أبي الاقتصادية عمد إلى ممارسة مهنة تعلّمها في طفولته وهي حياكة الشقق التي تتألف منها بيوت الشعر. زارني بهيج أيّوب، زميلي في كلية الفنون، المعيد في ما بعد والمهاجر إلى كندا في نهاية المطاف. عرجنا على “دكّان الحياكة” وكانت دردشة (والدي كان يريدني طبيبا، مهندسا، أي ذا نفع)، وبما أن يبرود تكاد تكون مرادفا للهجرة عبّر والدي عن دهشته “للثروات” التي يجنيها عمال البناء في السعودية والخليج في سنوات معدودة، وكان يقارن النتيجة بثمان وعشرين سنة متواصلة في نهاية العالم. كان يومئ بالطبع إلى خيارنا، وبما أنني كنت سئمت مناقشة الموضوع، بادره بهيج بالإمالة اليبرودية: هلّق يا بوعمر، أنا ولاّ عاصم، ما فينا نحطّ بلاطة جنب بلاطة جنب بلاطة تا تقوم الناقة؟ فينا! بس ما بدنا!
مازالت قهقهة الوالد ترنّ في الذاكرة.
لا تقرصني المعدة عندما أغلق باب المشغل، بل يعضّني الإحساس بأنه ما من جدوى.
لكنني مازلت أعبّ بعض الهواء، وفي الغد سأجرع قهوتي وسأمجّ دخان سيجاراتي هارعا إلى المشغل، وستكونون معي، كالعادة.
رسالتك أبكتني فرحا وتبكيني.
إلى لقاء قريب.
غرناطة، أيلول/سبتمبر 1996