في معنى أن تكون شبحا
“كان يتخيّل أن يتطوّر الأمر، بمعنى أن تأتي لحظة يتمكّن فيها من هجر الخزانة فيختلط بالآخرين دون أن يكون مرئيا، أن يلتقي بهم في المطبخ، في الصالة، في الممرّ، لكن دون أن يروه. أن يكونوا أربعة غير أنهم سيبدون ثلاثة”. من الظلّ – خوان خوسيه ميّاس
“بإمكاننا اعتبار فيلم “حكايةُ شبح A ghost story للمخرج دافييد لورين عملا فنيّا خاصا إذ لا يتّجه كسائر الأفلام الأخرى التي تتناول “فكرة” الأشباح لتقدّم من خلالها محتوى إثارة أو رعب. بل يتّجه إلى تقديم تساؤلات كبرى وتأملات محفّزة من خلال قصّة مميّزة لشبح عالق في عالم الأحياء، باحثا عن إجابات لمكوثه بين فضاءي الحياة والموت. وقد جسدّ لورين هذه الفكرة أي فكرة الشبح في صورة كائن بشري يرتدي ملاءة بيضاء تخرجه (لضرورة سينمائية) من حيّز اللامرئي الذي ينتمي إليه الشبح كطيف مندس في طبقات الأثير إلى الحيّز المرئي الذي ننتمي إليه نحن. ويمكننا أن نذكر أنّ هذا البديل البصري ناجح إلى حدّ ما في مهمّته إذ أنّ “الأبيض” الذي تم استخدامه ينتمي إلى درجات التظليل وبالتالي يتماشى مجازا مع فكرة الإنسيابية والتخفّي والإقصاء البصري.
هذه المحاولة التي ذكرناها في تقريب اللامرئي وجعله جزءا من عالم ندّعي أنّه ينتمي إلينا فقط، نحن البشر، لم نجد لها صدى في العمل الأدبي الذي نروم تفحّصه، رغم أنّه يحكي قصّة شبح أيضا. وهو ما جعله نصّا فريدا ومبتكرا. إذ قدّم لنا الكاتب الإسباني خوان خوسي ميّاس من خلال روايته “من الظلّ” الصادرة سنة 2016 والمترجمة عن دار المتوسّط سنة 2017 في عدد من الصفحات لا يتجاوز المئة واثنتين وثمانين، قصّة غريبة عمّا سمّاه “شبحا واقعيا” (ص106)، شبح لا يحتاج ملاءات بيضاء ولا أصواتا غريبة ترافق حركاته لنستدلّ عليه، لأنّه واقعيّ و”حيّ” إلى درجة لا تصدّق.
الرواية في أسطر
دميان لوبو رجل في الأربعينات طرد لتوّه من عمله في الصيانة، يجد نفسه لأسباب عديدة داخل خزانة غريبة في بيت غريب، يراقب أفراده ويحدس عوالمهم الداخلية ويغيّر عوالمهم الخارجيّة. حينها وفي انتقاله الدائم بين الأصوات التي تتكاثر في ذهنه والأصوات التي تأتي إليه من أرجاء المنزل، قرّر أن يكون شبحا. “شبحا واقعيا”.
هذا الحضور الشبحيّ المفرط في واقعيته نبّهنا حقيقة إلى قضيتين أساسيتين، تتعلّق الأولى بتشاكل موضع الرواي في القصّ بموضع الشبح في عالمنا إذ ألمعت خصائص مفهوم الشبح في أذهاننا صورة قريبة لما عهدناه من تعريفات تقدّم الراوي وهو ما سنحاول التعرّض إليه بمزيد من التحليل في العنصر الأوّل من المقال، أمّا القضيّة الثانية فتتناول دلالات هذه النظرة التي يراقب بها الراوي (دميان) الشخصيات، (سنتبيّن لاحقا أنّ دميان راو كذلك من درجة ثانية، فهو بذلك تجسيد مثالي لمفهوم الراوي الشبح) أهي نظرة علويّة نابعة من قدراته اللامرئية على التخفّي وبالتالي على العبث بالشخصيات ومصائرها دون أن تدرك ذلك أم أنّها نظرة حيادية لا هدف لها سوى إشباع فضولها؟ هذا ما سنحاول تبيّنه في ما يلي.
الرّاوي الشبح
إنّ الإفلات من حقيقة أنّ الشبح طيف للموت لا غير، هو ما جعل بطل رواية “من الظل” منفردا “بكونه شبحا مرئيا أو طيفا من أطياف الحياة بكلّ ما يرمز إليه الطيف من تلاش وقرب من الاختفاء التام. فبطل الرواية السيّد دميان لوبو يعيش على هامش الواقع ولا يربطه به سوى جسده. لقد فقد تواصله بعائلته التي لم يشعر يوما أنّه فرد منها ولا يستطيع أن يتذكّر صديقا واحدا لزم صداقته ثم ها هو حين بلغ سنّ الأربعين طرد من عمله.
غير أنّه رغم انتسابه إلى هوامش الأشياء التي تعني عادة التواري عن الأنظار والأسماع، نجده يضجّ بطاقة عجيبة على الحكي. إنّ صوته لا يكاد يخفت في القصّ حتى يعلو من جديد بأحداث ينقلها لنا بدقّة. الأمر الذي يوقد في العقل جملة من التأويلات. تضعنا إحداها أمام افتراض إلماع الروائي خوان خوسي ميّاس إلى إشكالية الراوي.
إذ تتعدّد الأصوات في الرواية فالأحداث لا ينقلها لنا مباشرة راو واحد. بل هي تنقل على لسان الشخصية البطلة بدرجة ثانية أيضا وذلك من خلال ممارسة فعل الحكي. فهما أي الراوي ودميان، يتناوبان بشكل منتظم على القصّ. ومن خلال هذا التناوب يمكننا أن نربط كليهما بمهمّة واحدة وهي مهمّة الرّاوي وهما بذلك يتقاسمان خصائصه بل يؤشّر أحدهما لسمات جديدة فيه وهي سمة الشبحيّة.
فالراوي الأصلي في هذه الرواية (نظرا إلى أن دميان هو الراوي الثاني)، هذا الذي يعهد إليه المؤلّف الواقعي بسرد الحكاية هو ذات حاضرة من خلال فعل القصّ. إنّه يختفي وراء الأحداث وتواترها. ولا يمكن لأحدنا أن يدرك وجوده اللامرئي في النصّ إلّا إذا تساءل: من يتكلّم؟
إنّ حضوره مرتبط بما يخلّفه من آثار في الخطاب القصصيّ. وتظهر هذه الإشارات المبعثرة هنا وهناك كشبح يعبث بفضاء المنزل في عديد المستويات نذكر منها ضمير السرد. ففي رواية “من الظلّ” يتكلّم الراوي قائلا “لم يكن لسرخيو أوكان أي وجود، إنّه محض صورة متخيلة ابتدعها دميان لوبو ليكلّم نفسه من خلاله..” (ص11) يظهر ممّا سبق أنّ هذا الرواي الذي يقصّ قصّة دميان لا يتحدّث بضمير المتكلّم بالتالي هو خارج الحكاية وهو أيضا راو عليم إذ يقدّم لنا عرضا لحالة دميان الذهنيّة.
هذا الراوي الشبح هو عنصر قصصي بامتياز، إنه كائن ورقيّ لا مرئي. هو الصانع الحقيقيّ لكلّ ما في الأثر القصصيّ .إنّه يمارس لعبة الأشباح. إنّه ينظر إلينا، نحن جمهوره الكبير، ويحدّثنا بما حصل لكنّنا عاجزون عن رؤيته.
ودميان وهو يتسلّم القصّ يحاكي بدرجة كبيرة هذا الراوي، لا بل إنّه دليلنا على شبحيّته. فدميان الراوي يختفي لا بين السطور والأحداث بل في خزانة في منزل غريب. يراقب عالمهم، أي الزوجة والزوج والابنة من خلال ثقب صغير في خشب الخزانة وينقل ما يجري لجمهوره الخاص ولنا وللراوي نفسه. لقد اختار دميان لنفسه موضعا في الخفاء يكون فيه مسيطرا على القصّ. وهو لا يكتفي بالمراقبة والرصد بل إنّه يصنع عالمه القصصيّ الخاص به. يحدّد متلقيا ويبثّ له كل المعلومات التي كانت تصله مستعيدا الأحداث والأقوال كما شاء. ويظهر فعل الخلق هذا من خلال تخيّل دميان لجمهور واسع قابع وسط عقله يحدّثه بما حصل ويحصل عن طريق برنامج تلفزيّ يحاوره فيه مقدّم غريب الأطوار: “- نعم، أجاب، لكنّ العلاقة مع الخزانة تسبّبت في حدث آخر تراجيدي. / – نحن على أحرّ من الجمر، أضاف أوكان فاتحا ذراعيه ليحيط بجمهور البلاتوه الذي يحبس أنفاسه في انتظار التجليات الجديدة” (ص112).
واللافت للانتباه أنّ دميان في رحلته كشبح واقعيّ طوّر شيئا فشيئا من موضعه كراو. إذ انتقل من كونه راويا مصاحبا لا يعلم أكثر ممّا يصله إلى كونه راويا عليما قادرا على التنّقل بخفّة وسلاسة في الأماكن وعلى متابعة الشخصيات ورصد ما تحسّ به. “وفيما كان يتنصّت على حركاتها، كان يترجمها لشكل الرؤية الداخلية الجديدة التي طوّرها عقله بتلقائية. رآها إذن تجلس عند قدمي السرير أمام باب الخزانة الرئيس واستمرت هناك مستكينة لعدّة دقائق تنظر لنفسها في مرآته التي خلّفت فيها أكسدة الزئبق بقعات سوداء. ثم رآها تتّجه إلى الحمام ورأى كيف أغلق بابه ورآها تقعد على المرحاض بنظرة تائهة في نقطة ما من الأفق..” (ص181). إذن لقد صار دميان قادرا على سرد حركات الشخصية بحريّة لا بل إنّه قادر على سبر عوالمها الداخلية ومعرفة نفسيّتها.
إنّ كل ما سبق يؤكد لنا من خلال التمثيل الذي قدّمه خوان خوسي ميّاس لشخصية دميان، أنّ الراوي شبح يختفي في مكان ما في العالم القصصي يراقب الشخصيات وحركاتها، قد يعلم أحيانا عوالمها النفسية وقد لا يفعل. يسجّل كل ذلك بعين حريصة وينقلها لنا نحن جمهوره الواسع. إنّه شبح قصصيّ.
هل تراني؟
لطالما حاول الإنسان بطريقة أو بأخرى أن ينفصل عن العالم، هذا الذي يبدو هائما في التجريد فهو الكلّ ولا شيء في الآن نفسه. وحاول أن يُنظر إليه لا كشيء من أشيائه وإنما كحضور مواز لحضوره. هذا الجهد الدائم للانفصال والاعتراف جعل الإنسان يخطو خطوات صوب ابتكار وسائل تزيح عنه آثار الواقع حتى لا يطاله. فكان ابتكار القناع مطيّة للانفلات من هذا العالم على حد تعبير جاك دريدا في كتابه “أطياف ماركس″، فبه ينفض الإنسان عنه نظرة الآخر بل إنّه يهبه غيابا مغريا عن كلّ شيء حتى عن نفسه. إذ سرعان ما تنسى هذه الذات التي ارتدت القناع حقيقة ذاتها وتتماهى بشكل دائم مع خصائص القناع الجديدة. وإذ ذاك فقط تصير كائنا بينيّا. فلا هي هذا ولا ذاك. إنّها شبح ما.
ودميان في رواية “من الظلّ” اختار أن يرتدي قناعا يحجبه عن العالم ويفرده عنه. تمثّل هذا القناع في “الخزانة” التي ساعدته في اكتساب صفته الجديدة “الشبح الواقعي”. ولئن بدا هذا القناع غريبا في استعماله إلّا أنّه يرمز إلى حاجيات الشخصية البطلة الباحثة عن ولادة جديدة، عن الاحتواء. فشبحنا الواقعي يشبه إلى حدّ بعيد الطفل الصغير في بطن أمّه. إنّه هنا لكنّه ليس حاضرا في العالم بعد. إلّا أنّ دميان ولفرط تعلقه بهذا القناع الجديد الذي أراده وسيلة للهروب من العالم نسيَ ذاته الأصلية ولم يعد يعبأ بحياته التي عاشها سابقا، لقد تحوّل رويدا رويدا إلى قناع/ شبح. “الملفت أنّ هذه الوسائل كانت تتضاعف كلّما استحال بالفعل شبحا حقيقيا، إذ أنّه في الحقيقة كان يتخلّى عن ماديّته مع الوقت أو هكذا بدا له الأمر” (ص97).
لقد أشار دريدا في كتابه أشباح ماركس إثر حديثه عن ظهور شبح الأب في مسرحيّة هاملت إلى تعريف للشبح يعتمد بدرجة أولى على العيان. فالشبح هو ذاك الذي يرانا ولا نراه. ذاك الذي يختبئ وراء قناع ما. تأثير هذا القناع هو الذي قدّمه دريدا بتسمية تأثير الخوذة Effet de visière. فالفارس الذي يرتدي خوذة تحميه في ساحة المعركة يمكنه أن يرى من خلال كوّتها الآخرين لكنهم عاجزون في المقابل عن رؤيته. إنّ أهمّ ما يميّز الشبح إذن هو تعطّل تبادل النظرات بينه وبين الآخرين. إنّه قابع في مكان ما خلف قناعه. وهذا الموضع الذي هو فيه يعطيه أفضليّة بل سلطة معيّنة في التحكّم بمجرى الأمور. أوّلها أنّنا نسلّم بحقيقة كونه شبحا دون مساءلة “فلا نستطيع إلّا أن نصدّقه بغير دليل” حسب دريدا. الأمر الذي ينعكس بوضوح في علاقة الأم بالشبح دميان إذ أنّها ذهبت مباشرة إلى فكرة أنّه شبح ولم يراودها أيّ شكّ في ذلك حتى وهو يراسلها عبر الحاسوب. ثانيا نجد أنّ الشبح دميان قد تدخّل في حياة هذه العائلة وحمل على عاتقه مسؤولية ترتيب المنزل بما يناسبه، ونجده إضافة إلى ذلك يتّخذ القرارات عوضا عن الزوجة ويحدّد الأفضل لها اعتمادا على حدسه. هنا يبدو الشبح متمتعا بسلطة المراقِب. إنّ هذه التحديقة التي يرسلها صوب الأشياء هي تحديقة تعيين وسلطة. إنّه يرى في الآخر ما يريده هو. وقد اعتنى فوكو في كتابه المراقبة والعقاب بهذه النظرة السلطوية من خلال ما يسمّى التحديقة البانوبتيّة. والبانوبتيك أو المشتمل حسب ميشال فوكو في كتابه “المراقبة والعقاب وولادة السجن”، “هو بناء مصنوع بشكل يمكن اشتمال داخله بنظرة واحدة” (ص206).
وما يهمّنا من هذه التحديقة أنّها تعمل على خلق تأثير بالمراقبة الدائمة حتى إن لم يكن فعل الرؤية متحققا فعلا. ولتقريب وجهة النظر هذه نعود إلى رواية خوان خوسيه ميّاس. فالزوجة كانت تعتبر الخزانة برج مراقبة يطلّ على كافة المنزل رغم أنّ الخزانة كانت جزءا من غرفة النوم. وقد خلق ذلك لديها إحساسا بالمراقبة الدائمة. “كانت تردّ بعبارات مدروسة إلى حدّ ما (…) كان لديها أدلّة على أنّ وجودي في البيت حقيقة وكانت تتعامل برسميّة ..” (ص121). من هنا يبدو لنا أنّ تحديقة الشبح هي تحديقة سلطة تشبه تلك القوى الخفيّة التي نعرف بأنّها تحرّكنا وتحرّك عالمنا لكن ليس باستطاعتنا بلوغها.
ومع تقدّم السرد في الرواية، نلاحظ أنّ شبح دميان يقدّم نوعا آخر من التحديقات. نوع يترجم رغبة هذا الشبح في أن تتقاطع نظراته مع الآخر. إذ ينتقل دميان من إنكار العالم “ومن حالته الجديدة البعيدة عن الحالة الأرضية، كان يستحضر أحيانا وجوه الماضي وبدا له مدهشا أن بقي لسنوات طويلة مقيّدا بحريّة العالم الخارجي الوهميّة” (ص98)، إلى رغبته في الانخراط فيه. ليس هذا العالم بشكل عام ولكن عالم هذه العائلة. وحينها فقط شرع دميان الشبح بشكل لاشعوريّ في ممارسة رغبته في تبادل النظرات. فحقّقها أولا من خلال النظر إلى صور أفراد العائلة في المنزل. وقد لفتت انتباهه صور الزوجة. “إحدى الصور التقطت بتقنية تجعل عيني المرأة تنظران إليّ مهما اختلف مكاني (..) سواء كنت على يمين الصورة أو كنت على يسارها سواء انحنيت أو وقفت فوق الكرسيّ..” ( ص 62)، فهي -أي الأم- تصرّ على جعله مرئيا، طرفا من هذا العالم الحقيقيّ. إنّها تبادله نظرات الرغبة. الرغبة في الوجود. فأن تكون يعني أن تُستحضر إلى الوجود في علاقة بالآخر أو بنظرته. فنظرته وحدها تجعلك مرئيا حاضرا في هذا العالم. وبناء على هذه الرغبة يطوّر الشبح مشاعره تجاه الزوجة ويسلك طريق تحقيق هذه الرغبة. فنجده في محاولات عديدة يحاول التحديق في زوجها لانتزاع حقّه في الوجود في البيت. فليس المهمّ أن تَرى بل أن تُرى. أن يعترف بك الآخر. فالرغبة في الاعتراف تهيمن على تحديقة دميان في الزوج. هي كذلك رغبة في أن يكون الآخر، أن يحلّ محلّه. كأنّ بدميان من خلال تحديقه بالزوج يرغب في زرع بذرة القلق وعدم الارتياح فيه. لأنّ نظراته لا تعني شيئا آخر عدا كونه يرغب في أن يكونه هو.
إنّ الإفلات من حقيقة أنّ الشبح طيف للموت لا غير، هو ما جعل بطل رواية “من الظل” منفردا “بكونه شبحا مرئيا أو طيفا من أطياف الحياة بكلّ ما يرمز إليه الطيف من تلاش وقرب من الاختفاء التام. فبطل الرواية السيّد دميان لوبو يعيش على هامش الواقع ولا يربطه به سوى جسده. لقد فقد تواصله بعائلته التي لم يشعر يوما أنّه فرد منها ولا يستطيع أن يتذكّر صديقا واحدا لزم صداقته ثم ها هو حين بلغ سنّ الأربعين طرد من عمله
وتستمر حركة السرد في التطوّر تدفعها هذه الرغبة التي ولدّتها تحديقة الشبح دميان في صور الأم. فها هو يقتل الزوج ويضطجع مكانه في الفراش. لكنّه لا يتبادل النظرات مع الزوجة، إنّه يتسلّل في الظلام، ويعانقها من الخلف (ص 182). لكن ممّ يخاف؟ لمَ لمْ يحقّق ظهوره المرئي؟ هل تذكّر دميان فجأة جحيم الآخر؟ ثقل نظرته والأحكام الصادرة عنها؟ هو الذي اعترف بعد سنوات “كنتُ أكثر حريّة من أيّ وقت مضى. كأنّ هذه الخزانة مركز الكون، كأنّ العالم يتمدد من خلالها..” (ص78).
إنّ الرغبة في تبادل النظرات تقابلها رغبة في تجنّبها. وهذا المشهد الذي اختتمت به الرواية لا يذكرنا بشيء آخر عدا غواية النظرة. فنظرات الزوجة ونداءاتها الخفيّة ليست بالنسبة إلى دميان الشبح سوى غواية تحديقة الميدوسا méduse. إنّها سجن ما! موت ما!