الشعب ضد الديمقراطية
شكلت الديمقراطية في الأعوام الأخيرة مبحثا تداول عليه عدة مفكرين لا سيما في الولايات المتحدة، أمثال ستيفن ليفيتسكي، ودانيال زيبلاط، ووليم غالتسون، وآخرهم ياشا مونك أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد، الذي نشر كتابا بعنوان “الشعب ضد الديمقراطية” مع عنوان فرعي “لماذا حريتنا في خطر وكيف السبيل لإنقاذها”، حاز اهتمام المتخصصين في العالم، وأثارت طبعته الفرنسية الصادرة حديثا (دون العنوان الفرعي) جدلا طويلا في أوساط المفكرين والمحللين، تركز حول صعود الشعبوية في البلدان الغربية واستئثار أقليات نخبوية بالسلطة، وتحميل المؤلف الشعب مسؤولية تآكل الديمقراطية.
على غرار فرنسيس فوكوياما، عند تحليله الاتجاهات السياسية والتاريخية على الصعيد العالمي في كتابه “نهاية التاريخ”، عمد ياشا مونك (وهو في الواقع بولندي ولد في ألمانيا عام 1983 واعتنق الجنسية الأميركية) إلى جعل حديثه عن وهَن الديمقراطية شاملا، يمتد من أميركا ترامب إلى تركيا أردوغان، وكذلك انتشار المد الشعبوي المناهض للهجرة والمهاجرين في معظم البلدان الأوروبية، من بولندا إلى إيطاليا، مرورا بالنمسا والمجر، لمعرفة الأسباب التي جعلت الديمقراطية مهددة من كل صوب، تهزها قوى معادية بعضها فاشستي معلن، وبعضها الآخر رومانسي يحلم بالثورات.
من أهم تلك الأسباب أن المنظومة السياسية الديمقراطية تقوم على غايتين أساسيتين: الأولى هي الدفاع عن الحقوق الفردية كحرية التعبير، وحرية المعتقد، وضمان الفصل بين السلطات؛ والثانية هي سيادة الشعب، أي أن الشعب يريد أن تترجَم إرادته في السياسات المتبعة. إلا أن ما نشهده منذ عدة عشريات هو الالتزام بالغاية الأولى، ومخالفة الغاية الثانية. لأن قوى المال في تلك البلدان صار لها نفوذ لم تعرفه من قبل، ولأن الواقع الاقتصادي العالمي صار أشد تعقيدا بسبب العولمة والتكنولوجيا الحديثة ما جعل الحكام يحتاجون إلى التكنوقراط والبنوك والوكالات المستقلة في اتخاذ قراراتهم، وهو ما ولد إحساسا لدى الشعوب بأنها استبعدت من تقرير مصائرها، وفقدت بذلك سيادتها التي تنص عليها عبارة “ديمقراطية” نفسها، أي حكم الشعب.
يلاحظ مونك أن الظرف الغربي الراهن يتسم بظاهرتين: الأولى شعور عام بأن الديمقراطية انتزعتها منظمات خبراء لا تنفك تستولي على عدد متزايد من السياسات العامة دون إخضاعها للمصادقة الشعبية؛ والثانية صعود قوي للأحزاب الشعبوية أدى إلى ظهور ديمقراطيات “غير ليبرالية” بتعبير الهندي فريد زكريا، حال وصولها إلى السلطة، على غرار ما حدث خاصة في المجر مع فيكتور أوربان وإيطاليا مع ماتيو سالفيني. ما أوجد تعارضا بين ديمقراطية تتراجع إلى حدودها الدنيا كـ”ترجمة للإرادة الشعبية في السياسات العامة”، وبين دولة القانون القائمة على قيم الليبرالية السياسية وفلسفة الأنوار.
بيد أن القيم الليبرالية للتعدد، وضمان الحقوق، وحماية الحريات الأساسية التي قامت عليها الديمقراطية الحديثة أقصيت منها لتحل محلها أنظمة الوفاق التام غير الليبرالية، فيما المؤسسات التكنوقراطية الحريصة على الحفاظ على الحريات الإنسانية والاقتصادية تزداد قناعة بأنها ليست ملزمة بالرجوع إلى الشعب ورموزه السيادية.
يركز مونك على هذا التعارض، ويعرض مقترحات لمواجهة القوى المعادية التي تهدد الديمقراطية الليبرالية. وبخلاف أندرياس شيدلر، وسكوت مينوارنغ اللذين أثنيا على مفهوم “التعزيز الديمقراطي”، يقترح مونك مقاربة أخرى تقوم على “عدم التعزيز الديمقراطي”، لأنه لاحظ أن عددا من الديمقراطيات الغربية لم يعد يملك الخصائص المنتظرة من ديمقراطيات معززة، ساد الظن أن الديمقراطية فيها أزلية لمجرد أنها مزدهرة يقوم نظام الحكم فيها على التداول على السلطة عبر انتخابات حرة وشفافة، وأن شعوبها ترفض البديل الاستبدادي، والحال أن الإحصائيات في عدد من بلدان أميركا الشمالية وأوروبا الغربية تشير إلى قبول جانب هام من مواطنيها بوضع قار قوامه حكم متسلط. من ذلك مثلا أن ثلث السكان في الولايات المتحدة يفضلون رجلا قويا يتخلص من إرغامات البرلمان والانتخابات، فيما تصل هذه النسبة في فرنسا إلى النصف، بعد أن كانت ربعا في نهاية التسعينات، وهي نسب تضم من ولدوا بعد عام 1980، أي من لم يخبروا كأسلافهم الأنظمة الاستبدادية كالنازية والفاشية والشيوعية.
ومن الطبيعي أن تؤدي تلك التغيرات إلى تحولات في الممارسة الانتخابية، انعكست في صعود أحزاب شعبوية، لا تخفي عداءها للقواعد الديمقراطية، فاقت استحقاقاتها الانتخابية 25 بالمئة بعد أن كان معدلها لا يتجاوز الـ7 بالمئة في أوروبا كلها.
وقد استعمل مونك في بحثه صيغة بثلاثة عوامل لمعرفة موقع الديمقراطية في البلدان الغربية بالتعاون مع زميله روبرتو ستيفان فوا من جامعة ملبورن: الأول معرفة مدى مساندة الشعب، أي إلى أي درجة يعتقد المواطنون أن بلادهم ينبغي أن تظل ديمقراطية.
والثاني استعداد الناس لقبول أشكال الحكم غير الديمقراطية، كالنظام العسكري. والثالث معرفة ما إذا كانت الأحزاب السياسية والحركات المناهضة للمنظومة، أي تلك التي تعتبر المنظومة الحالية غير شرعية، تلقى المساندة.
من بين الحلول المقترحة أيضا، مفهوم الوطنية، وهي قضية لا تزال تشغل الديمقراطيات الغربية حتى اليوم، حيث يسعى اليمين الهووي إلى إلغاء كل تمييز بين الجنسية والإثنية، واعتبار أن المتحدرين من المجموعة المهيمنة هم وحدهم الأصلاء وما عداهم أغراب وأجانب لا حق لهم في المواطنة؛ بينما يكاد اليسار يتخلى تماما عن فكرة الأمة، بل إن وعيه بالعذاب الذي يسببه الغلو والتطرف يجعله يفضل التخلي عن كل إحساس بالوطنية. وهذا في رأي مونك خيار سيء، لأن القومية تحتفظ بقوة سياسية كبرى، ينبغي النضال للتحكم فيها خير من ترك المتطرفين يقررون دلالتها. ومن ثَمّ ينصح بإيجاد ما يسميه “الوطني الشامل” الذي يلح على ما يوحّد لا ما يفرق، كالإثنية والمعتقد، مع الاعتراف بما تتعرض له بعض الجاليات من ميز عنصري ومظالم. ومبعث القلق عند مونك أن المعايير التي كانت تضمن استقرار الديمقراطيات سواء في “القارة العجوز″ أو في “العالم الجديد” باتت هشة، في وقت لا ينفك الشعبويون، الذين يمقتون الشروط الأساسية للديمقراطية الليبرالية، يبسطون نفوذهم السياسي والأيديولوجي في كل مكان تقريبا، بفضل خطاب تحريضي ضد البنى التكنوقراطية (الهيئات الإدارية المستقلة، البنوك المركزية، المفوضية الأوروبية…) التي تتآمر في رأيهم لانتزاع السلطة من الشعب، مشفوع بخطاب قومي عنصري ضد الأجانب والمهاجرين.
وهو إذ يدافع عن الديمقراطية الليبرالية، يذكر بأن الديمقراطيات ليست كلها ليبرالية بطبيعتها، إذ ثمة ديمقراطية تراتبية تسمح للحكام المنتخبين عبر صناديق الاقتراع بتجسيد الإرادة الشعبية بالطريقة التي يتأولونها، دون اعتبار لحقوق الأقليات الفاعلة ومصالحها.
هذا الكتاب الذي راج رواج “نهاية التاريخ” لفوكوياما، وعُقدت لصاحبه لقاءات صحافية وتلفزيونية، ونُظمت ملتقيات وندوات، ليس فتحا مبينا، فقد سبقه إليه المؤرخ وعالم الاجتماع الفرنسي غي هيرمي المدير الأسبق لمعهد الدراسات والبحوث الدولية، والأستاذ بجامعتي باريس ولوزانا، وكان قد أصدر منذ نحو عشرين عاما كتابا بالعنوان نفسه “الشعب ضد الديمقراطية” عن دار فايار بباريس، بيّن فيه أن الأنظمة الديمقراطية تمثل امتيازا لدى عدد قليل من الدول في العالم، ولكن ذلك لم يمنع انتقادها في الفضاء نفسه الذي خلقت فيه، فغالبا ما يُدان نفاق “الديمقراطيات الفعلية” المتهمة بكونها ليست سوى إعادة ترتيب لهيمنة الحكام على المحكومين. في هذا الكتاب، يطرح هو أيضا قراءة مغايرة للمشهد السياسي الغربي، ويتساءل ما إذا لم تكن عيوب الديمقراطية في هرم السلطة بل في قاعدتها الشعبية، التي لا تملك الحس الديمقراطي، إذ غالبا ما وقفت ولا تزال تقف ضد الديمقراطية والتسامح والحرية وروح المسؤولية، بل وتنادي بحكم قويّ، أي تسلطي استبدادي.
وكان هيرمي أول من انتهك التابو حول هذا التساؤل الجوهري، بعد أن عاين بعين الخبير تهافت ما أسماه “السياسة الفرجوية”، والميول النضالية للعمل النقابي، وقارنها بانتفاضات البناء الديمقراطي القديمة، ليؤكد أن سلوك المواطنين العاديين في مجمل المجتمعات الغربية ليس أفضل من سلوك القادة الذين يختارونهم على سدة الحكم.
في تعليقه على المشهد السياسي الغربي الراهن كتب غي هيرمي مؤخرا يقول “الفزع يخيم على السفينة السياسية، سواء لدى الذين تتمثل حرفتهم في أن يُنتَخبوا، أو لدى المدعوين إلى انتخابهم، أولئك الذين لم يعودوا البتة راغبين في ذلك”، ففي رأيه أن ما يحدث في أوروبا وأميركا الشمالية هو إعادة نظر جادة في الديمقراطية، يتوقع ألا تكون عرضية، بل يخشى أن تستمر. فقد بلغ الأمر حدا تجاوز شبكات التحليل المعتادة، ذلك أن المحللين يتحدثون عن الخطر الشعبوي كما كانوا يفعلون قبل عشرين عاما، مع نتائج تسوء باطراد.
وإذا كان مونك قد أرجع وهن الديمقراطية الليبرالية إلى عدة عوامل كالانحراف التشريعي والتكنوقراطي للسياسة التي باتت تعكس آراء الأغلبية بشكل يتناقص تدريجيا، وتأثير المواقع الاجتماعية التي صارت تزاحم وسائل الإعلام التقليدية وتشكك في صدقية موادها، والهجرة المكثفة التي تهز الانسجام القومي، والركود الاقتصادي الذي يلغي آفاق التقدم، ورأى أنها أزمة، فإن غي هيرمي يعتبر أن الحديث عن أزمة لوصف الوضع غيرُ مناسب، لأنه يوهم بأنها مرحلة عابرة يمكن تجاوزها، والحال أن الوضع خطير جدا، إذ تحول بصفة جذرية، نفّرت الشعوب من الديمقراطية.