إنسان متواصل في زمن مفتوح
السؤال عن معنى الموبايل أو الهاتف الذكي المحمول، ودوره في حياة الإنسان العصري، يافعا كان أو ناضجا، يشبه سؤال الكتابة وما تمثّله بالنسبة إلى من يحترفها. فإن كانت الكتابة هي الحياة لمبدعها، فإنّ الهاتف المحمول تخطّى أن يكون وسيلة لإتقان فنّ العيش، ولم يبلغ حدود كونه غاية. غير أنّه، لحضوره الكثيف والمبالغ به، كاد يتملّكنا متجاوزا الحدّ الذي رسم له بأن يكون خادما، حين ابتكره العقل البشري وطوّره. قد يأخذنا هذا المشهد، في رؤية سوداويّة، إلى قصة انقلاب فرانكنشتاين على العالم الذي صنعه؛ فيمسي الصانع ضحيّة صنيعه. أو نذهب، في رؤية منفتحة، إلى مقولة الإمام علي بن أبي طالب: وتحسب أنّك جرم صغير / وفيك انطوى العالم الأكبر؛ فنستعيرها لنصف هذا الهاتف الذّكي الذي طوى العالم في صندوقه الصغير، وطوانا في حناياه، لنغدو جزءا من هذا الكلّ، والكلّ فينا ومعنا في آن.
غير أنّ السؤال لا يخلو من الإرباك؛ فماذا سيقدّم هذا المقال أكثر من توصيف لظاهرة؟ وماذا سيضيف من حقائق على واقع معلوم لدى كلّ فرد؟!
أوّل فكرة راودتني في استهلال كتابتي، حادثة طلبي من ابني الذي لم يبلغ عشرة أعوام، أن يضع الموبايل جانبا وينظر إلى العالم حوله، وأن يعيش واقعه ويستمتع بجماله؛ وقد استيقظ صباحا، ذاهبا للتّو إليه كي يشاهد حلقة مسجّلة من الرسوم المحرّكة “الأنيميشان”. الأمر يتكرّر في الإجازة الصيفيّة، إمّا اندماجا مع لعبة إلكترونيّة، وإمّا مشاهدة فيديوهات متنوّعة. دار بيننا حوار أفضى به إلى التأثّر الشديد؛ إذ كان ردّه سؤالا أراد به إفحامي، عن براءة، قائلا: هل صديقي ريّان هنا مثلا، كي ألعب معه؟ ماذا أفعل؟ دلالة كلام هذا الطفل أنّه تصاحب مع هاتفه الذكي؛ فبات من أدواته النفسية والمعرفيّة، وقد استحوذ على تفكيره بغياب أصدقاء في محيطه الواقعي. في بيت يعجّ بالهواتف المحمولة في كلّ يد، لِمَ يحرم هو من حمله واستخدامه؟
وليس أصدق من طرح السؤال على فتى نشأ في جو التكنولوجيا، عن معنى الهاتف الذكيّ في حياته. ينظر باستغراب لتوحّش المصطلح. وبإعادة السؤال نفسه مع استبدال مصطلح “موبايل”؛ يستسيغ التعبير، ويهزّ كتفيه بعينين زائغتين ولا يجيب. أنكفئ نحو ذاتي متسائلة عن جواب عصيّ، ليأتيني الجواب من مراهق آخر معلنا أنّ الموبايل “كل شيء في حياته”. فهذا الجهاز الذي يملأ حياة شاب وعقله، ويتملّك أحاسيسه ويشغله باستخدامه، ليصير الوسيلة والغاية، وضع الفتى الأوّل في مأزق الإجابة عن معناه، ليس لأنه بغير معنى، بل لأنّ الدلالات شديدة الوضوح، فانحجب الجواب، وربما يكون النّفي علامة على سخف السؤال.
تنبّأ بيل غيتس Bill Gates منذ ما ينوف عن العشرين عاما في كتابه “المعلوماتيّة بعد الإنترنت- طريق المستقبل”، بطريق المعلومات فائق السرعة، وبالنمو السريع لشبكة التليفونات بعيدة المدى، الأمر الذي يتطلّب تطوير منصّات البرمجيّات. كما تفاءل بشيوع استخدام تطبيقات طريق المعلومات السريع، وبكلفة متدنّية، مشبّها الإنترنت بـ”ممرّ أوريجون”، وهو الطريق الذي سلكته على دفعات، قوافل من أصحاب العزيمة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بين ولايتي ميسوري وأوريجون للوصول إلى مناجم الذهب في ولاية كاليفورنيا. والقصة تحكي خطورة الرحلة بطول مئتي ميل عبر البرّية، تعرّض خلالها الكثير منهم إمّا للنهب، وإما للكوليرا، وإما للجوع، وإما لعوامل مناخيّة قاسية.. فهذا الممرّ المحفوف بالمخاطر كان بمنزلة البداية لنظام الطرق السريعة الذي وفّر مسار مرور ذا اتّجاهين للعابرين. هي تحدّيات الطبيعة ولّدت استجابة ذكيّة من الإنسان، بتوصيف أرنولد توينبي.
لعلّ تسمية الهاتف المحمول “بالخليويّ” Cellulaire، نسبة إلى الخليّة cellule، في الفرنسيّة، تعود إلى الشبه بين الحمض النووي DNA الذي يحمل المعلومات الوراثيّة داخل نوى الخلايا، وبين خارطة البيانات المخزّنة في برامج أجهزة الهواتف المحمولة، لا سيما الذكيّة منها؛ فباستطاعتها الاحتفاظ بالمعلومات بقدر ما تحويه خزانة للملفّات، بحيث نتمكّن من استعادتها وقت نشاء، وفق “نمط النقل غير المتزامن”. غير أن تطبيقات تكنولوجيّة أخرى تتيح، عبر شبكة الاتصالات، نقلا متزامنا للبيانات والصوت والصورة؛ ويطلق على هذه التكنولوجيا “البيانات الرقمية الصوتية المتزامنة”.
تجاور التزمين واللا تزمين فعّل القدرات البشريّة بالسّير في مسارات التلقّي والإنتاج، والتشارك في صنع المعلومات عبر شبكة اتصالات، والمشاركة والتفاعل مع مجتمع افتراضي، ولسنا ندري إن كانت هذه التسمية لا تزال صالحة في هذا “الزمن المفتوح” بوصفه مختبرا من عمليّات التحاور المفتوحة أمام الجميع؛ إذ تمّحي الحدود الفاصلة بين أن يكون المستخدم ذاتا أو موضوعا، مؤثّرا أو متأثّرا، منتجا أو مستخدما. هو كلّ هذا في آن معا، بما يحمل من تعقيد وتطلّب؛ يشعر الإنسان بأنه لم يعد أسير الجغرافيا، بل أمسى منفتحا على أمزجة وأذواق ومعتقدات مختلفة، ما حدا بالبعض إلى تسمية إنسان العصر بـ”الإنسان المتواصل”.
من الصعب أن نطلق صفة “الجدّة” على شيء بالغ الديناميّة. وإذا كان العصر الماضي “عصر الكهرباء” بوجود معجزة المصباح الكهربائي في سقف كلّ بيت، فإنّ هذا العصر هبة الوسائط المعلوماتيّة التي تحدّث عن دورها وحضورها في كلّ مكان وزمان، فرانك كولش Frank Koelsch في كتابه “ثورة الإنفوميديا”؛ إذ أتاحت تواصلا بلا حدود، وكيف أنّها غيّرت عالمنا وحياتنا؟ منبئا منذ أكثر من عشرين عاما بعالم يصاغ من جديد، في ظلّ هذا الصعود المطّرد لها، وداعيا إلى إسقاط جدران مكاتب العمل؛ حيث أنّها غدت كيانات تخييليّة أكثر منها وحدات مكانيّة ثابتة. ومع الهواتف المحمولة، وكمبيوترات الجيب، خطا أصحاب العمل نحو عالم “موقع العمل المتنقّل” “Mobile Work Place”.
عود على بدء؛ ماذا عن انشغالنا نحن، الآباء والأمّهات، عن أبنائنا نتيجة انخراطنا في عالم الهاتف الذّكي؟ خير تعبير عن هذا الواقع فيلم قصير يصوّر حوارا بين مدرّسة تصحّح أوراق التعبير الكتابي لتلامذتها، مساء، وبين زوجها الذي استوضح منها سبب ضيقها وتوقفها المفاجئ عن التصحيح؛ فأردفت مبينة أنّ أحد التلامذة تمنّى، في معرض توسيع الموضوع المطروح، أن يكون هاتفا ذكيا في الحياة؛ ذلك لانشغال أمّه وأبيه والمحيطين به جميعهم بهذا الجهاز، معرضين عنه، غير مكترثين به وباستفساراته.. كان هذا التلميذ ابنهما. لا يخفى على أحد هذا الوجه السلبي في الإغراق في استخدام الهواتف الذكيّة، وليست العلّة فيها بحدّ ذاتها؛ ما يدفعني إلى العودة إلى مقولة الإمام عليّ بذكر البيت السابق لما ذكرته أعلاه، لأربط الخيط الذي مددته:
داؤك منك وما تبصر / دواؤك فيك وما تشعر.
إذا ما استشففنا شعور إنسان هذا الزّمان إزاء الحضور الدّائم للهواتف الذكيّة والوسائط المعلوماتيّة وشبكة الاتصالات، لا يعود غريبا هذان الانبهار والدهشة بما توفّره له من عناصر أمان، وراحة بال، ومرونة؛ فعبرها يكتشف العالم من حوله، يبحث عن عمل، وعن صداقات وحبّ، يدوّن، يقرأ تدوينات، يزجي وقته باللعب، يعزّز نرجسيته… ذلك، لميله الفطري إلى التفاعليّة والاندماج، والاستمتاع باستثارة رد الفعل من الآخر، ولأنّه لا يرضى بأن يبقى بمنأى عن المستجدّات المتلاحقة؛ غايته القصوى التكيّف.
فللحديث عن ظاهرة تغشى أيّامنا يحتاج منّا إلى ترك مسافة زمنيّة كي نفهم الدوافع الكامنة خلف الحدوث. وهو ليس بالأمر اليسير في زمن لا مجال فيه للتفكّر المتأنّي. فنحن في قلب الحدث، ولا يزال يكتسحنا نبضه بسرعة مطّردة تفوق الذاكرة على تمثل الظاهرة والإحاطة بها من جوانبها كافّة، وفهمها في عمقها السوسيونفسي.