تحرير الذاكرة من الأعباء
جارية في العصر العباسي تحفظ من السماع الأول قصيدة تبلغ مئة بيت، وغلام يحفظها من السماع الثاني، أما الوالي الذي يدير هذا المشهد المبهر فيحفظ من السماع الثالث. لا يهم تفاصيل القصة، فهي أقرب للأساطير، لكن حمولتها الثقافية مهمة في سياق الحديث عن الموبايل.
لعقود طويلة قامت ثقافات العالم على عقليات شفوية تنتج معارفها وتتداولها وتحفظها اعتمادا على آليات المشافهة، حيث الأذن أهم من العين، والذاكرة هي المخزن الذي يحفظ المعارف، أي يحفظ الوجود. العقل الشفوي يخلق شيفرات محددة للإنتاج والحفظ والتداول، فالصيغ الثابتة المتكررة، والجمل القصيرة المتوازنة، والتنغيم وألاعيب البلاغة، والوزن الشعري والقافية جميعا من آليات إنتاج المعارف وتداولها وحفظها لمساعدة الذاكرة بالأساس، إلى جانب وظائف أخرى لا تنفصل عن التفضيلات الجمالية للعقلية الشفوية.
في تلك الثقافات تصبح اللغة وما ينتج عنها من نطق سبب دهشة لا تنقضي، وتطلب تفسيرا أعجز العقل ساعتها. اقترحت الثقافة العربية القديمة الجن ككائن وسيط بين العالم كما خبروه وبين ما لا يمكنهم تفسيره، فأصبح للشاعر ذي النص المدهش قرين من الجن يملي عليه، وأصبح الكاهن ذو النص المدهش أيضا متسلطا على الجن قادرا على تسخيرها خدما مطيعين. ولكن تبقى الطاقة التي شعروها خلف فعل الكلام مدهشة تفوق ما وصفوه، فقدسوا اللغة نفسها، وألصقوا بها قدرات سحرية، اللغة في الثقافات الشفوية فاعل في العالم يمكنه أن يفلق الحجر (أليس الحسد يتم عبر اللغة) وهي من يمكنه أن يحمي من الشر (أليست البسملة وما شاء الله تقي من الحسد).
لم يكن التحول الكتابي في عمقه مجرد اختلاف أداة أو انتقال لمخزن المعرفة/الوجود من الذاكرة إلى الكتاب، بل هو تحول في العقلية من أساس أسطوري يغيب عنه العالم إلا قليلا، إلى جانب علمي معرفي اكتشف العالم إلا قليلا. الذاكرة لا تبقي محتواها كما هو، بل تتلاعب به لصالح الجمالي الذوقي، والكتاب ينهك الجمالي الشفوي ويثبته على غير طبيعته في صورة واحدة تدّعي الانتساب لمؤلف لم يكن له وجود حقيقي في الثقافات الشفوية: من يكون هوميروس أو امرؤ القيس حقا؟
جدل نشط لأكثر من عنصر صنع الوعي الإنساني المعاصر في صورته الأكثر تعقيدا: ابتعاد عن الأسطورة، اعتماد للعلم، ثم توسيع لحدود ذلك العلم ليخرج عن جموده المعملي المرتبط بعصر التنوير.
هل تم تحييد الذاكرة البشرية بنقلها إلى ذواكر خارجية: الحواسيب بمختلف مستوياتها والهواتف النقالة بالأساس؟ أم ترى تم تحرير الذاكرة لتبدع؟ هل ضعف العلاقات الإنسانية متصل بخواء الذاكرة وخروج العينين من محجريهما باتجاه مخازن معرفة أخرى، بحيث لم يعد للحضور الإنساني المشترك دور في الشعور بالوجود، أو بإنتاج المعرفة أو باختبار أفهامنا للعالم؟ صحيح أن البشر هرولوا باتجاه الذواكر الخارجية مدفوعين بحلم التواصل الجنوني الذي يجعل الآلاف يفقدون حيواتهم في الشرق العربي بسبب النظر في شاشات هواتفهم أثناء القيادة، لكنّ شيئا استلبهم دون أن يشعروا فأصبحوا جزرا منعزلة، أو ربما أصبح الاتصال مستهدفا الداخل في حالة من الانتشاء الذاتي المرضي. نقل فعل الذاكرة المدهش إلى الحواسيب والهواتف نقل معه السحر الأسطوري إلى الآلة ونزعه دون هوادة من حول الكائن الإنساني.
في الفاترينات والإعلانات تتألق صور الآلات بسحر آسر، ويبدو الإنسان أداة مصاحبة تكمل الصورة الأسطورية لأدوات التواصل تحديدا. هل حقا لم يأت الزمن الذي تتحكم فيه الآلة في البشر كما بشرنا فيلم تيرميناتور terminator؟ أم ترانا تخيلنا شكلا للتحكم أعمانا عما يحدث من تحكم حقيقي وحاسم للآلة في الكائن البشري وفي كل ما أنجزه عبر تاريخه؟ تاريخنا المعاصر والقديم كله تحفظه آلات.
في الثقافات العربية، ومعظمها على هامش الوجود الإنساني بصورة مخجلة وأحيانا مقززة، تحولت آلات التواصل، والهاتف النقال خاصة، إلى كيانات قاهرة متحكمة في أصحابها. صحيح يبدو الهاتف مسيطرا في الغرب أيضا، لكن الغرب يصر على وضع قوانين استخدام للهاتف النقال، ونتخفف في ثقافاتنا العربية من تلك الضوابط كلها، بل ونمارس سخرية عاجزة قبيحة ممن يطالبنا بها. في الغرب لا يبالغ البشر في اقتناء الأحدث أو الأكبر ذاكرة، وفي الشرق صار الهاتف النقال رمزا للطبقية المادية، كما تتكرر الشكوى من صغر ذاكرته كإعلان صارخ على امتلاء الآلة وخواء الإنسان. في الغرب لا يمكن للإنسان أن يتواجد إلا في ظل امتلاء معرفي ما في مجال ما سواء تم تخزين المعارف في الآلة أو في ذاكرة البشر، وفي الثقافة العربية صار الامتلاء المعرفي سببا مباشرا لشن حروب إبادة من قبل الجهلة المتحكمين في مصير المؤسسات وعلى رأسها الجامعات معظمها، وأصبح الشحن مرتبطا بالآلة (الهاتف النقال) دون سواها.
لكن هناك وجه يبدو إيجابيا، فلم تزل البقايا الشفوية قوية في الشرق، ما حول الهواتف إلى قينات محمولة تعزف كما عزفت سلامة القس. صار الهاتف مخزنا للفنون المسموعة، كما أبدع العرب في نغمات الهاتف، حتى أصبحت سوقا يدر الملايين على أصحابها. هل يوجد في الغرب عبارة: لنسخ النغمة اضغط علامة الشباك، أو: إذا أردت شراء هذا الدعاء وجعله نغمة هاتفك اضغط علامة النجمة؟ بتلقائية مبدعة تمكنا في الشرق من تحويل المنتج الكتابي العقلاني إلى أداة شفوية جمالية، يتم التلاعب بها كما تلاعب الرواة العباسيون بالنصوص الجاهلية وضعا وتعديلا، المهمّ هي القيمة الجمالية المسموعة.
وبدلا من ذاكرة الجارية المدهشة التي تحفظ القصيدة مهما طالت من السماع الأول، أصبح لدينا الجوال الذي يحفظ من الضغطة الأولى معارفنا، صورنا وموسيقانا، تاركا ذواكرنا العربية خاوية بلهاء.