العيش في غلاف معلوماتي
تُعد الأسئلة بشأن الهوية الشخصية، والتصور عن الذوات الاجتماعية أسئلة قديمة قِدم السؤال الفلسفي «من أنا؟»، ربما يستغرب الكثيرون من العودة اليوم لإثارة هذا السؤال المؤسس في مسار الوعي الإنساني بشكل عام؛ إذ لا يُعقل -من منظورهم- أن يحمل هذا السؤال جديدا بشأن موضوع لا يُستعاد عادة إلا عند الحديث عن التأريخ الفلسفي.
لكن أصحاب هذا الحكم سرعان ما سيراجعون مواقفهم متى انتبهوا إلى حجم التغيرات، التي يعيش على وقعها الفرد؛ بدءا من الربع الأخير من القرن الماضي إلى اليوم. وقد تكشَّفت بوضوح مع ظهور سلوكيات، تؤسس لنمط حياتي جديد لدى الأفراد والجماعات على حدّ سواء، يختلف عمّا دأبت البشرية عليه في العصور السالفة.
تنقض عوالم الافتراضي يوما بعد آخر على مساحات الواقعي، وتلتهم تدريجيا أنشطة إنسانية، كان مجرد التفكير في دخولها لهذه العوالم -حتى الأمس القريب- ضربا من الخيال. وباتت أذرع الافتراضي تتجاوز الاقتصاد والثقافة والفنون والتواصل… لتترامى إلى نطاقات ذات طابع خاص من قبيل الأحاسيس والمشاعر؛ فبتنا نسمع عن الشخصية الافتراضية، والحب الافتراضي، والصداقة الافتراضية…
تحولات ترخي بظلالها على مستقبل الحياة على الكوكب الأرضي، ففي غضون الخمسين عاما من الآن، قد تنظر الأجيال القادمة إلينا على أننا آخر الأجيال التاريخية التي نظمتها الدولة. ليس باختلاف كبير عن الطريقة التي ننظر بها نحن إلى قبائل الأمازون باعتبارها آخر مجتمعات ما قبل التاريخ عديمة الدولة.
كما ستؤثر هذه التحولات؛ إن لم تكن شرعت في ذلك فعليا، في بناء وتشكيل هوية الأفراد والمجتمعات المعاصرة. لقد رأينا مثلا كيف انقلبت حياة الإنسان سريعا بعدما جرَّب مسألة الحياة المتصلة دائما (أون لايف)، التي أعادت تشكيل القيود والمحددات وأتاحت قدرات جديدة لتطوير هويتنا، واكتساب وعي جديد. باختصار، إنها تعيد تشكيل فهمنا الشخصي والجمعي للذات.
صحيح أن العيش في هذه العوالم يتيح هامشا كبيرا من الحرية للأفراد، وينطّ على فكرة الحدود بين الأوطان، ويلغي الحواجز بين الشعوب، ويفتح الأبواب في ما بين الثقافات واللغات الإنسانية. غير أن هذا الوضع يجعلنا “بالفعل نجتمع كلنا غير أننا وحيدون”؛ كما جاء في كتاب “عزلة جماعية”. إنها بداية تشكل ذوات جديدة مستقلة عن الأخيرين لا تهتم إلا بنفسها. فكل واحد يسبح داخل فقاعته. إنها أمام الفردانية في صورتها البشعة، وهي ترقص وحيدة في العالم الافتراضي.
بذلك نجد أنفسنا مجبرين على العودة الآن إلى الأسئلة الأصلية من قبيل: من نحن؟ وماذا سنصبح؟ ومن الذي يمكن أن نكونه عندما تتزايد مستويات عيشنا في الغلاف المعلوماتي؛ أي حين ينحصر العيش في الحياة الواقعية وتتمطط الحياة في الفضاء الافتراضي؟
أسئلة تلاحقنا كلما استغرقنا في دوامات العوالم الافتراضية اللامتناهية، إلى درجة بات فيها حالنا أقرب ما يكون إلى أحد تأملات الفيلسوف الألماني غونتر أندرس مع بعض التصرف، يقول فيه «عندما يصبح الافتراضي حقيقيا، يصبح الحقيقي افتراضيا».
أي هوية نتوقع أن تكون عند أجيال ألِفت إغواءات كمال الحياة في العالم الافتراضي، وكل شيء فيها قابل للتعديل والتوظيف، ولِمَ لا للتشطيب إن دعت الضرورة إلى ذلك؟ ما يدفعها إلى رفض العالم الحقيقي المثقل بالتعقيدات والتداخل والغرائب، وأحيانا بمصادفات لا متوقعة.
كيف سيكون مستقبل جيل يصارع قصد قتل الزمن، ويسعى للخلود من خلال توثيق وأرشفة كل صغيرة وكبيرة في حياته (صور، فيديوهات…)، حتى باتت حدود الفصل والتمييز بين الخاص والعام في حياته تكاد تنعدم. وبالموازاة مع ذلك، يصرّ على تحويل واقع حقيقي معيش متعدد الأبعاد إلى واقع ثنائي أو ثلاثي الأبعاد.
ما قيمة الإحساس والشعور بالرضا الداخلي لدى أجيال النت، حين تتحول كل لحظة عامة أو خاصة، وكل مغامرة يعيشها الفرد أو حتى الجماعة إلى فرصة ذهبية للتباهي، تقدم في صيغة محمول أو كائن إلكتروني، يقذف به في الفضاء الافتراضي، ليغزو الأرض في مشارقها ومغاربها.
الهوس بهذه العوالم الافتراضية تعززه لغة الأرقام، فبحسب تقرير يعود إلى سنة 2010، أنفقت الإنسانية 498 مليار دولار أميركي على الإعلانات. كما أنفقنا على وسائل الترويح عن أنفسنا، وربما للمرة الأولى، أكثر مما أنفقنا على وسائل قتل بعضنا البعض.
في العام ذاته، كان الإنفاق العسكري 74.1 تريليون دولار أميركي، أما الإنفاق على وسائل الترفيه ووسائط الإعلام فقد تعدى حدّ 2 تريليون دولار أميركي، مع نمو الترفيه الرقمي، وتشارك الوسائط ليصل إلى 34 في المئة من مجموع الإنفاق سنة 2015، بعد أن كان 26 في المئة في العام 2011.
تتوالى تباعا الكتب والمؤلفات في الساحة الأكاديمية الغربية التي تعتمد مداخيل ومقاربات متنوعة قصد لفت الانتباه إلى حجم المخاطر التي تتهدد البشرية، جراء الانزلاق المتسارع للإنسانية في دوامات حياة الإنفوسفير، لكنها تجابه بالتعتيم والحصار من جهتين إحداهما تتعلق بالمكاسب والعائدات التي يجنيها الاقتصاد من هذه التكنولوجيا، والأخرى بانتشاء الأفراد بفورة التكنولوجيا والمعلومات والحياة الجديدة.
لكن الأكيد أن السؤال عن الهوية المستقبلية، سوف يتكرر وبشدة في قادم السنوات، حين تجد المجتمعات أنفسها أمام شرخ هوياتي كبير بين مكوناتها؛ فأجيال النت القادمة سوف تنظر إلينا كمتخلفين وبدائيين وعاجزين عن مواكبة تطورات العصر، وفي المقابل سوف يتطلع الآخرون إلى هذه الهوية بنوع من الازدراء والاستهجان.
كاتب من المغرب