عالم سحري: استطلاع قاهري
في عام 1999 نشر الكاتب المصري جلال أمين مؤلَفه “العولمة”، كان ذلك قبل أعوام من ظهور الهواتف الذكية وتطبيقاتها والتوسع في استخدام الهواتف المحمولة بين كل أطياف المجتمعات ومختلف الفئات. كان الكِتاب بمثابة الوقوف في وجه التيار الذي اعتبره أمين جارفا لكل جذر مصري أصيل ويوشك أن يقضي على جماليات تلك الحياة البسيطة والهانئة التي ظللنا نعيشها عقودا بعيدا عن صخب الهواتف والإنترنت ومن قبلهما الفضائيات المتعددة والمتناطحة.
كان أمين في كتابه يُعلن راحته وسعادته في الابتعاد عن هذا السيل من المعلومات المتدفقة عبر الإنترنت، وعزمه ألا يمتلك هاتفا محمولا أبدا أو بريدا إلكترونيا. وقف أمين في وجه التيار رافضا الثورة المعلوماتية ومتحديا إياها، قبل سنوات من تحولها إلى ثقافة تسم المجتمع وتحدد خياراته وتؤطر حياته، وقبل أن تتحول إلى جزء أصيل من يوم كل شخص مهما كان عمره.
في السنوات الأخيرة، وتحديدا في الفترة التالية للثورات العربية صار استخدام الموبايل المُتصل بالإنترنت والمُزود بتطبيقات مواقع التواصل الاجتماعي جارفا بل إن هذا الجيل القديم الذي كان لسنوات عدة بعيدا عن الإنترنت وما أتاحه من برامج وتطبيقات، صار من خلال الموبايل أكثر قدرة على الولوج إلى مختلف التطبيقات وخصوصا مواقع التواصل الاجتماعي.
رغم ما يمثله الموقف الرافض لطغيان أهمية الموبايل وثقافته التي فرضها على الأجيال كافة، خصوصا الشابة منها، إلا أن ثمة مثالب يحملها هذا الموقف تتمثل في أن يصير الفرد الرافض هو وأولوياته وحياته خارج هذا العصر، غير قادر على التواصل معه أو الاستفادة منه، بل وغير قادر على تلافي مثالبه، ببساطة، لأنه لا يعرفه بل إنه يُصر على رفض معرفته، ومن ثم يصير في مواجهته إنسانا بدائيا في مواجهة مدنيّة كاملة لا يعرف عنها شيئا.
قد يكون الموبايل حوّلنا بالفعل إلى مجموعة من الأشباح في الحياة الواقعية، لكن ثمة واقعا افتراضيا يفرض نفسه بقوة، وعلينا أن نختار؛ إما أن نصير جزءا منه أو نتحول إلى متفرجين ساذجين ستتحول سذاجتهم إلى أغلال تُقيّدهم وتعيق تواصلهم وتقدمهم.
أنتمي إلى هذا الجيل الذي شهد صعود نجم الهواتف النقالة بدءا من تطور الهواتف العادية، ثم إلى تلك المزودة بكاميرا وإمكانية حفظ الصور والأغاني والنغمات المختلفة، ثم الانتقال الأكبر إلى الهواتف الذكية. لم يكن الأمر مغريا بالنسبة لي في بدايته، كان التقليد يزعجني دائما، هذا التهافت وراء كل جديد بغض النظر عن أهميته الخاصة لي. بقيت لسنوات لا أهتم بهذا الماراثون المستمر، وأراقبه بلامبالاة. سنوات من المشاهدة الحيادية الباردة إلى أن صار الحصول على هاتف نقال ضرورة للتواصل مع الأصدقاء والأهل والأساتذة، ضرورة لم تعد تلبيها الهواتف العادية المنزلية مع ظروف التنقلات والسفر والاعتماد الكامل للآخرين على الهواتف النقالة.
حينما ظهرت الهواتف الذكية كانت المعاينة الباردة أيضا التي تطورت إلى رفض. سنوات أرفض التخلي عن الموبايل القديم ذي الكاميرا الجيدة والذي يوفر لي ما أحتاجه من اتصالات. كانت للرفض أسبابه؛ المحيطون من الأصدقاء ممن يمتلكون هواتف ذكية بدوا لي مشدوهين أمام شاشاتهم في كل مكان ووقت، أجالسهم ونتحدث وكأن ثمة أشباحا لا تنطق ولا تعبر، كان حضورهم جسديا لكنهم غائبون فكريا وروحيا. أردت ألا أتحول مثلهم إلى شبح يغادر واقعه ويعيش في آخر افتراضي، وألا يصاحبني هذا الواقع الافتراضي وأصاحبه طيلة يومي.
لكن حدة الرفض أخذت تخفت تدريجيا. الحاجة إلى التواصل في العمل ومع الأصدقاء من خلال ما يوفره الهاتف الذكي من وسائل اتصالات داخل البلاد وخارجها بسهولة ودون تكلفة تذكر، الكتب الدراسية التي كانت تتاح على مواقع التواصل للتحميل والطباعة، التواصل مع الأساتذة على مواقع التواصل، وغير ذلك من الأشياء التي شكّلت عتبة أولى في سلم الصعود إلى هذه الثقافة، ثقافة الموبايل.
حقيقة الأمر، أن المسألة تحولت شيئا فشيئا إلى أن صار هذا الجهاز الصغير مُسيّرا لحياتنا، بالكامل. ربما هو انجراف مع التيار أكثر منه اختيار واع. ضرورات مهنية وأخرى اجتماعية وثقافية ويومية باتت غير ممكنة دون الموبايل. تلف بسيط في هذا الجهاز كفيل بأن يعرقل الحياة بأكملها لأسابيع.
السؤال مقلوبا
تغير السؤال الآن من؛ لماذا ألجأ إلى هذا الجهاز أو أعتمد عليه؟ إلى كيف أتخلى عنه؟ بات الأمر شبه مستحيل سواء كان لضرورة حقيقية أو لاحتياج نفسي شكلته العادة. بل صار الأمر أكثر تعقيدا بالنسبة للأجيال الجديدة التي اعتادت الاستخدام المستمر والمتكرر لكل ما تتيحه هذه التطبيقات من ألعاب أو فيديوهات أو أنماط لتنظيم الوقت، أو لأنماط التواصل التي يوفرها ويتيحها. تتعقد العلاقة مع الأجيال الجديدة بشكل أكبر ويصبح التخلي أكثر استحالة بل يصير الحديث عن تقنين الاستخدام أو تحديد الأولويات والاهتمامات ضربا من الخيال يصعب تطبيقه على الواقع.
نظرة موضوعية على طبيعة الحياة في ظل هيمنة أنماط وثقافة الموبايل تضعنا أمام مجموعة من الإيجابيات يصعب التخلي عنها أو رفضها، وجانب كبير من السلبيات يصعب تجنبه، لكن المؤكد هنا أن كل شيء في الحياة بات موسوما بطابع هذا الجهاز وما يُقدمه ويتيحه، من ثقافة سريعة تظل هي المُهيمنة والمُتصدرة حتى لو كانت هناك طبقات معرفية وثقافية أعمق تحت هذه القشرة. وحتى لو كان العكس أيضا متاحا تحت هذا السطح، ومن استهلاك لساعات وأيام طويلة فيما هو أقل فائدة من أن يستغرق كل هذا العُمر. هنا وقفة مع تجارب عدد من الشباب في طرق استخدامهم لهواتفهم الذكية، وما أتاحته لهم من إيجابيات وما يلاحظونه من سلبيات تتسلل إليهم جراء الاعتماد عليها.
عالم سحري
ياسمين سامي فتاة ثلاثينية تعمل محاسبة بإحدى الجامعات المصرية الخاصة. بدأ استخدامها للموبايل منذ المرحلة الجامعية وصارت الصلة بينهما تتوثق عاما بعد الآخر. كان عالم المنتديات ونقاشاته المستمرة وموضوعاته المتجددة سحريا بالنسبة لها؛ جذبها إلى شبكة من العلاقات والاهتمامات. لم تعد تقتصر في متابعتها للمنتدى على أجهزة الكمبيوتر، أضحى الموبايل رفيقا لها يساعدها في أن تلج عالمها السحري بسهولة وفي أي وقت.
من ساحة المنتديات إلى “الفيسبوك” الذي كان في البداية لتوثيق وترويج المنتدى حتى صار بالنسبة لها بديلا عنه. شبكة من الصداقات القديمة التي تجددت والجديدة التي توثقت، كان موقع التواصل شاهدا عليها ومعززا لها، ومتسببا في توثيق الصلة أكثر بعالم هذا الجهاز الصغير الذي تغير مرارا بمرور الأعوام، حتى وصلت إلى جهازها الحالي الذي يضمن لها أداء سريعا في الاتصال بالإنترنت ومساحة كافية لتحميل ما تشاء من تطبيقات.
قالت لي: صار الموبايل حياة كاملة نمارسها بموازاة حياتنا الواقعية؛ حياة نعيشها تتضمن أبسط الأشياء وأعقدها، حتى أن حياتنا الواقعية ضمنّاها فيه؛ صرت أتواصل مع أصدقائي من خلاله، أكتب لهم على “الواتساب” أو “الفيسبوك” دون أن أسمع صوتهم أو ألتقيهم لأسابيع وربما لشهور. صرت أتابع أخبارهم من خلال مواقع التواصل وأشاهدهم من خلال صورهم على “إنستغرام”.
كانت لهذا التواصل المستمر الذي أتاحه الموبايل مثالبه بالنسبة لي، يمكن القول إنه وضع قواعد جديدة على علاقاتنا باتت محكومة بعدد “اللايك” و”الكومنت” الذي يحدد حجم الاهتمام والمحبة. صار التجاهل مرادفا للتواجد “أون لاين” دون أن تتحدث معي. صرت لا أجيد الحديث في لقاء واقعي مع الأصدقاء فأظل صامتة بينما في التواصل عبر الموبايل لا تنقطع الرسائل لساعات.
من جهة أخرى، بت أشعر أنني سجينة هذا العالم وأسيرة لهذا الجهاز الذي عزلني عن الأهل والعائلة، أجلس معهم ولكنني لا أسمعهم. ولكن، لهذا الأسر فوائده، من خلاله وجدت ساحة للتعبير عن أفكاري ومشاعري، صرت أحصل على الكتب التي لا أجدها بسهولة وأكتب انطباعاتي عنها وأناقشها مع الأصدقاء، تواصلت مع كُتّابي المُفضلين وتعرفت عليهم عن كثب.
ربما بدا وكأن هذا الجهاز صار جزءا مني وليس من حياتي فقط. حدث لي التهاب في يدي بسبب إمساكي الدائم به. صار مرآتي التي من خلالها أعكس صورتي أمام الناس وأحيانا أمام نفسي. أستخدمه في الوصول لما أحتاجه؛ تسلية كانت أو وصفات طعام أو أحاديث جادة أو نشرات إخبارية.. كل شيء.
مقاومة الاستلاب
بالنسبة لمهندسة الاتصالات سارة جمال، البالغة من العمر ثمانية وعشرين عاما، تكمن أهمية الموبايل في ما يتيحه لها من اتصال مستمر بأدوات البحث التي تستخدمها بشكل أكبر من أي تطبيق أو موقع آخر، فهو وسيلتها للوصول إلى معلومات بخصوص أي شيء جديد تريد أن تعرف المزيد عنه.
تعتبر سارة الموبايل فرصة لاستغلال الوقت المُستهلك في المواصلات، لا سيما في الاطلاع على مواقع وقراءة مقالات في مجالات اهتمامها وأبرزها العلوم وما يستجد فيها، وطبعا ”google maps” الذي يساعدها دوما في الوصول لما تريده من أماكن. لكنها لا تستخدمه في ما يتعلق بعملها الذي يحتاج إلى برامج وإمكانيات كبيرة غير متاحة فيه، باستثناء التواصل المستمر مع البريد الإلكتروني الذي يُبقيها على اطلاع دائم على مستجدات العمل.
تحاول سارة مقاومة استلاب هذا الجهاز لحياتها، تستخدمه في مواقع التواصل المُختلفة، لكنها تحاول ألا يلتهم وقتها لذا تتعمد إغلاقه في الكثير من الأحيان. تسعى لأن تكون متواجدة بشكل أكبر على ما يُمثل لها فائدة، مثل موقع “جودريدز″ الذي يُتيح لها تسجيل ما قرأته من كتب والتعرف على الكتب الجديدة في المجالات التي تهتم بالقراءة عنها.
لم تعد محاولات التراجع ممكنة، ترى سارة أن علاقتنا بالموبايل ستتطور شئنا أم أبينا، ومن سيتخلف عن ملاحقة هذا التطور سيكون خارجا عن العصر. فالعالم يتجه بسرعة نحو تطبيق “إنترنت الأشياء” على كل شيء في حياتنا ومن ثم يقل التدخل البشري ويصير الاعتماد أكثر على الإنترنت في تسيير كل شيء، وهذا كله سيتم ربطه بالهواتف الذكية.
أدوات جديدة
محمد أبوزيد، البالغ من العمر تسعة وعشرين عاما، والذي يعمل محررا صحافيا يرى أنه في أوقات كثيرة نتنافس –كل على حسب قدرته الشرائية- لاقتناء “تكنولوجيا” قد لا نكون عمليا في حاجة إليها، ثم ما تلبث تلك “التكنولوجيا” أن تفرض علينا نفسها كجزء من ممارساتنا اليومية، نطوّعها في العمل وخارجه، ويصبح تخيل الحياة من دونها –وهي التي لم تكن حتى قبيل اقتنائها ذات أهمية- أمرا أشبه بالمستحيل.
كانت البداية كذلك مع محمد. يقول: كنت أسيّر ما يوفره “الهاتف الذكي” من إمكانات لخدمة متطلباتي المهنية، حتى صار الآن يُسيرني هو ويتحكم في طبيعة عملي، ذلك أنني في الكثير من الأحايين أجد نفسي مدفوعا بالرغبة في التجريب واختبار الأدوات الجديدة التي توفرها المنصّات العالمية عبر الهواتف الذكية –مثل أدوات غوغل- لاختبارها في موادي الصحافية، ثم أعتمد عليها اعتمادا كليا بعد ذلك.
بدأت علاقتي بالـ”سمارت فون” متوترة، بداية من شكوك حول مدى جدواه واحتياجي إليه، بخاصة أنني كنت مدركا تمام الإدراك أننا –كشباب- كثيرا ما نلهث خلف جديد التكنولوجيا حتى لو لم نكن في حاجة فعلية إليها، لكن مع ظهور وانتشار برامج التواصل –خاصة الواتساب وفايبر- وجدت في اقتناء هاتف ذكي أمرا ضروريا على مستويات عِدة، منها ما هو شخصي مرتبط بطبيعة عملي ورغبتي في تطوير أدائي المهني؛ فقد وجدت فيه معينا على التواصل مع مصادر الأخبار والتحليل الخارجية في الشؤون العربية والدولية، من غير المقيمين في بلدي “مصر”، ومنها ما هو عام يرتبط بكون تلك الوسائل منفذ لتشارك الآراء والمبادرات حول الشأن العام قبل اعتمال الثورة في النفوس وقبل انطلاقتها.
من هذا التداخل بين ما هو خاص وما هو عام، بدأت علاقة محمد مع الهاتف الذكي، فقد استخدم في البداية تطبيقي “الواتساب والفايبر”، اللذين مثّلا بالنسبة له نافذة للانفتاح على مصادر لم يكن ليصل إليها إلا من خلال تلك البرامج، مما عزز من مهاراته الصحافية. ثم توسع في ما بعد ليصير أكثر اعتمادا على غير ذلك من الأدوات التي تتيح له التأكد من المعلومة والصور، وأدوات لإنتاج مواد بصرية مختلفة. فأداة بسيطة مثل خرائط غوغل عبر الهاتف، أو تطبيق مثل تطبيق جمع الصور وترتيبها، وتطبيق حفظ روابط الأخبار والملفات وتجميعها لمطالعتها في وقت آخر، وكذا تطبيق ترتيب المواعيد والفعاليات المختلفة والتنبيه بها، جميعها خلقت فرصا لتطوير شكل ومضمون المحتوى الذي يقدّمه، رغم أنه لم يكن يهتم كثيرا بتلك الأدوات إلا بما هو متاح منها عبر أجهزة الكمبيوتر.
رفيق الغُربة
بدأت علاقة أحمد جمعة، الشاب المصري الثلاثيني الذي يعمل محاسبا في دولة خليجية، تتطور شيئا فشيئا بهدوء وثبات. في مرحلة التعليم الثانوي، أي منذ حوالي ثلاثة عشر عاما كان الموبايل قد بدأ في الانتشار بين زملائه، كانت أكبر الإمكانيات وأفضل الأجهزة محددين بنوع الكاميرا وجودة الصوت. لم يأبه أحمد في البداية بذلك اللهاث والتفاخر لاقتناء هذا الجهاز مثلما فعل زملاؤه إلا أنه بعد سنوات وفي مرحلة التعليم الجامعي تغيرت المعادلة.
يقول أحمد: مُذ المرحلة الجامعية أدركت أهمية “الموبايلات” من أجل التواصل بيننا كزملاء، كنا نعتمد على الـ”رنّة” أو ما يُعرف بـ”Missed Call” كلغة تواصل بيننا، فرنّة واحد صباحا لأحد الزملاء تعني أنني استيقظت الآن، ثم رنّة أخرى تعني أنني أستعد للنزول، وثالثة تعني أنني ها قد وصلت إلى المترو لنلتقي سويا ونذهب إلى الجامعة معا، وفي أوقات ما كان يتطلب الأمر استخدام رسالة مجانية “كلمني شكرا” حالما ترد الرنّة برنّة مماثلة من الطرف الآخر.
بداية من موبايل “نوكيا” وحتى “الآيفون” رحلة طويلة في عالم التلفونات المحمولة، استخدمت فيها –تقريبا- جميع أنواع الموبايلات من مختلف الشركات، حتى استقرت سفينتي عند واحة “الآيفون” الهادئة والآمنة تماما. وفي غمار تلك الرحلة تغيّر كل شيء تقريبا، فالرنّة لم تعد هي نفسها، بل تحولت في مرحلة تالية إلى رسالة مباشرة عبر تطبيقات التراسل الفوري أو عبر “الفيسبوك”، وصار هناك ما يشغلنا في الموبايل أكثر من مجرد لعبة “الثعبان” التي كانت أشد ما يجذبنا إلى الموبايل لدى نعومة أظافرنا في عالم “الموبايلات” المتسع.
يتابع أحمد: تسرّب الموبايل إلى عالمي حتى أضحى جزءا لا يتجزأ من تفاصيل حياتي، في التواصل مع الزملاء وفي العمل وفي كل شيء، عزز ذلك اغترابي وعملي في إحدى دول الخليج فصار الاعتماد على “الموبايل” كليا في التواصل مع أهلي وزملائي في القاهرة، إضافة إلى استخدام تطبيقات مختلفة في عملي كمحاسب، إذ وفّرت لي الثورة الهائلة في عالم التكنولوجيا الكثير من التطبيقات التي أستخدمها يوميا، والتي دونها لكنت قد أنفقت الكثير من الوقت انتظارا لإنجاز مهمة ما. كل فترة أكتشف تطبيقا، وكل فترة يزداد شغفي بالموبايلات التي صارت أكثر من كونها ثقافة، صارت جزءا من الحياة، كماء وهواء وشمس وقمر، هل تلك الأشياء ثقافة؟ هي جزء من تكوين الطبيعة، وقد فرضت التكنولوجيا الحديثة نفسها علينا بهذا الشكل.
الأمر يتعدى حدود مجرد التواصل. هناك “كورسات” كاملة حصلت عليها عبر “تطبيقات الموبايل” في مجالات مختلفة، في اللغة والمحاسبة والتنمية البشرية.. وهناك برامج جد مُهمة لجهة التعليم والتثقيف ما كنت لأحصل عليها إلا من خلال “الموبايل”، باعتباره وسيلة سهلة ومعي في أي مكان.. صار الموبايل رفيقي في الغربة، أو لا أدري ما إن كان قد غرّبنا هو عن أنفسنا وفرض نفسه كرفيق.
ثقافة قشرية
بدأ محمد عبدالعزيز، البالغ من العمر خمسة وأربعين عاما، في استخدام الهواتف الذكية منذ ما يقرب من ثمانية أعوام، بدأ الأمر مغريا له في البداية لا سيما أنه أيسر وأسهل في الولوج إلى الشبكة العنكبوتية من أجهزة الكمبيوتر التقليدية، وكذلك بالنسبة للتوقيت والمكان، كان الجوال يوفر ميزة الإبحار في الفضاء الأزرق في أي لحظة وأي مكان تتوفر فيه الشبكة.
في البداية كان الأمر يتسم بالشغف والانبهار، والثقة والتسليم إلى حد كبير في مضمون ومصداقية المحتوى، وشيئا فشيئا بات الأمر بحاجة إلى تقييم. كان لاستخدام الموبايل أثر كبير في الإلمام بالأحداث الجارية في الداخل والخارج، وفي شتى المجالات وإحداث حالة من الثقافة العامة إلا أنها تظل ثقافة قشرية تحتاج إلى تأصيل بالرجوع إلى المصادر الأصيلة للمعرفة.
يعتمد عبدالعزيز على أكثر من تطبيق بشكل يومي، في المطلق يعتبر تطبيق “نبض” من أكثر التطبيقات المستخدمة للاطلاع، بالإضافة إلى تطبيقات متخصصة مثل “قلم” وأخرى للمعلومات العامة مثل “وصلة” وتطبيق “ياقوت” الذي يوفر كتبا عربية وإنكليزية جاهزة للتحميل ومزود بالعديد من الخصائص كالقاموس ووضع الملاحظات وتظليل النصوص.. وكذلك تطبيق “اقرأ لي”.
ثمة سلبيات نجمت من كثرة الاعتماد على الموبايل، أبرزها كما يرى عبدالعزيز: الميل إلى الذاتية والانعزالية، الفكر الأحادي، التحيز للرأي وعدم التوثق من المعلومات بدقة، لكنه في المقابل أتاح سهولة التواصل وجعل المعرفة متاحة للجميع. إلا أن السلبيات تكثر أو تقل وفق الطبيعة الفردية لكل شخص ورغبته وقدرته في الإبحار في عوالم الفكر والثقافة، أو الانحباس والتقوقع في أطر محدودة.
يقول عبدالعزيز: الموبايل الذكي مثله مثل أي جهاز، من المهم أن تتوفر لدى المستخدم مجموعة من القيم الأساسية تحصنه من أي استخدامات مسيئة لهذا الجهاز؛ الناشئة على سبيل المثال يجب أن تكون لديهم حماية من الولوج إلى المواقع المشبوهة، من المهم أيضا أن يكون لدى المستخدم أيا كان عمره قدر من الاستقرار النفسي، بحيث لا يتسبب الإغراق في استخدام الجهاز في عزلته ومن ثم اكتئابه والتأثير سلبا على علاقاته الاجتماعية والأسرية. من غير الإنصاف القول إن استعمال الجهاز لم يترك أثرا، خاصة على المستوى الاجتماعي، فبات البعض يكتفون باتصال هاتفي أو مرئي مع والديهم أو أقربائهم بدلا من الزيارة على أرض الواقع. بينما استفاد المغتربون من هذه الميزة ذاتها في التواصل مع أهلهم كما لو كانوا وجها لوجه. الأمر يحتاج إلى موازنة.
يرى عبدالعزيز أنه لم يعد من الممكن مقاومة وجود الموبايل أو رفضه، لكن من المفيد تقنين استخدامه، وتوقيتات ذلك خاصة بالنسبة للأبناء في سن الدراسة، وحتى أيضا بين الأزواج. ينبغي ألا يتحول الموبايل إلى منافس للزوج أو الزوجة. الموبايل بما يتضمنه من تطبيقات وعالم مختصر بين أطراف الأصابع شديد الإغراء على الاقتناء والاستخدام. ومن ثم يجب أن يتحكم المستخدم في توقيتات وطبيعة استخدامه. فلا يمكن السيطرة بنسبة تامة على سلوكيات الناشئة في التعامل مع هذا الجهاز. لذا من المهم توفير غطاء أخلاقي لهم بالإضافة إلى متابعة متواصلة، ليس فقط لمنع الدخول إلى مواقع مسيئة، ولكن حتى لمنع الإغراق أكثر مما ينبغي في المواقع المفيدة.
مصدر معلومات
محمد المدني، طالب جامعي سوري، بدأ استخدام الموبايل لأغراض غير الاتصال في بداية عام 2010 خلال الدراسة الثانوية والجامعية لاحقا. مع بداية الثورة السورية عام 2011 أخذ استخدام الموبايل منحى جديدا فكان له دور كبير في إرسال الأخبار والمقاطع المرئية والصور للأحداث الجارية في المنطقة، وترافق ذلك مع انتشار الكثير من المواقع و صفحات مراكز الأبحاث والدراسات، مما جعل الموبايل وسيلة سريعة الحصول على المعلومات إضافة إلى انتشار المجموعات والغرف التي يتم فيها تبادل المعلومات والثقافات مع شعوب أخرى.
يقول المدني: عملت خلال سنوات الحصار الماضية في الغوطة الشرقية كمواطن صحافي، صرت أعتمد على الموبايل في حصولي على معلومات وآخر أخبار العالم، في ظل الحصار الذي كنا نعيشه خلال ست سنوات متتالية. استخدم الموبايل في منطقتنا في الكثير من التجارب كوسيلة لنشر الأفكار السياسية، والدعوات للعمل المجتمعي، وكوسيلة للدعاية والإعلان، وذلك من خلال تطبيقات ومقاطع مرئية وصوتية انتشرت بشكل داخلي عن طريق شبكات محلية صغيرة وبشكل عام عن طريق الإنترنت.
كان للموبايل ولا يزال دور كبير في تغيير ثقافة و نمط تلقي المعلومة للمجتمع حيث أنه اعتمد كمرجع أساسي للحصول على المعلومة من عدة مصادر، وإعطاء القارئ الحرية في تبني المصدر الذي يصدقه، لكنه صار يفتقد للمصداقية لأن المعلومات والأخبار تنتشر دون ضوابط مما ساهم في انتشار الشائعات.
وسيلة تعلُم
محمد البشير، الذي يعمل مهندسا بدولة خليجية، يروي علاقته بالموبايل بقوله: اشتريت الهاتف وكان سعره وقتها مرتفعا، اشتريته بالتقسيط (كل شهر 120 جنيها)، أبهرني أنه بكاميرا ومسجل صوت وعلاوة على ذلك به راديو، إمكانات عديدة في جهاز واحد، كان بالنسبة لي اختراعا، كمن لتوه اكتشف الكهرباء فأنارت حياته بعد ظلام.
اقتصر تعاملي ابتداء مع “الموبايل” على التصوير وتبادل الرسائل مع الأصدقاء والمكالمات النادرة وبعض الألعاب، فضلا عن الراديو.. كنت أنزوي ليل كل أحد وثلاثاء في غرفتي واضعا السماعات بأذني مستمعا لبرنامج رومانسي عن مشاكل الحب والعشاق عبر أثير الراديو. كان ذلك جريمة أرتكبها خلسة في بيتنا المحافظ نسبيا! جريمة تلو الأخرى، من مجرد الاستماع لبرنامج رومانسي حتى تبادل الرسائل الغرامية مع إحداهن ومكالمات منتصف الليل المسروقة.
يتابع البشير: من مجرد وسيلة للتواصل والترفيه إلى وسيلة للتعلم أيضا صار “الموبايل” بالنسبة لي في المرحلة التالية، بخاصة بعد انتشار مواقع التواصل الاجتماعي على نحو لافت فضلا عن توسع التطبيقات المختلفة، فكان وسيلتي لمُطالعة الكتب الإلكترونية فضلا عن بعض التطبيقات والبرامج الهادفة لتحسين لغتي الإنكليزية والفرنسية بعد ذلك، حتى البرامج التي لها علاقة بمجال دراستي ثم عملي لاحقا في “الهندسة” مثل برنامج الأوتوكاد أو MathPix Problem Solver وغيرهما من البرامج المتوافرة كتطبيقات على الهاتف، إلى جانب التطبيقات العادية التي صارت من بديهيات الـ”سمارت فون” كبرامج التواصل (واتساب وفايبر وغيرهما)، فضلا عن تطبيقات مواقع التواصل (فيسبوك وتويتر ويوتيوب وغيرها).
حاولت جاهدا تطويع تلك التكنولوجيا لخدمة مجالي العملي، وكذلك من أجل التواصل في المقام الأول مع آخرين، إضافة إلى القراءة، خصوصا في الطريق اليومي الطويل إلى مكان عملي، صرت أطوي الطريق رفقة كتاب إلكتروني، أو في برنامج تعليمي، أو في الحديث مع أحدهم. وغالبا ما أنظر إلى تلك التطبيقات في صورتها المجرّدة كـ”سوفت وير” وأبتكر البعض من تلك البرامج، وأوصي بها بعض المطورين من زملائي أو العاملين في تصميم تلك التطبيقات، ونتبادل الحديث بشأنها وبشأن تطويرها.