المكانس الدينية
ما تبقى في البصرة هو الذكريات، ها أنا غائب عنها أكثر من ربع قرن، زياراتي المتباعدة إليها تجعلني أتكلم من داخلي كما لو كنتُ سجين نفسي، وليس كما كنت أتكلم مظاهرة وصوتا نبئيا ولافتة، تعلمت فيها وتزوجت وأنجبت أولادي، وانتميت إلى الحزب الشيوعي، وسجنت، ولوحقت من أجهزة البعث مرارا وتكرارا حتى سجنت في مراكز شرطتها وحرسها القومي أكثر من سنة وشهرين، ومع ذلك لم أغادرها روحًا، كما لو كانت لي رحمًا التصق به. بقيت طوال ربع قرن وأنا في جوفها السري، استمع إلى أنين الأم وهي تضمني إليها، ما أشد حزني وأنا أرها الآن مكلومة، عاجزة، أن تدرّ حليبًا لأبنائها وهي التي أغنت كل عطشان وجوعان في العراق وفي الخليج، ما أشد بؤسنا نحن أبناؤها عندما لا نستطيع غير النداء المبحوح: أن انصروا البصرة يا طغاة، يا متخلفين، يا أميين يا إسلاميين جوف.
وفي كلمة عن حراك شباب البصرة، مقارنة بحراكنا يومذاك كتبت:
تعكس الحال التي وصلت إليها تظاهرات البصرة الطبيعة الفكرية التي عليها الأجيال الجديدة من الشباب، أجيال غابت عن فهم الوضع بطريقة علمية واقتصر وعيها على ما يتعلق بها من مطالب، لعل التقنية التي انتشرت خاصة في الأزياء والموبايل والاتصالات قد أتى فعلها بالعكس مما يراد لها من تأثير، والنتيجة هي الثقافة القشرية لهذه الأجيال التي لا تميّز بين ولائها الديني ومطالبها الحياتية، الأمر الذي يجعل الشباب في غيبوبة فكرية عن معنى المستقبل، لأنهم لم يتصورا غير أن يكونوا مجرد أدوات لا نفع فيها في آلية أحزاب حرمتهم بل وكفرتهم من أي تفكير منفتح وعلمي. المشكلة عميقة وليست مجرد تظاهرة لمطالبة بالحقوق، هذه الأجيال شعرت أنها غير موجودة، وأن المعممين والساسة الصدفة هم من يفكر عوضا عنهم، وأنهم ليس بمقدورهم الاستمرار لا بالتعليم ولا بالعيش الكريم، فما كان منهم إلا الخروج بعفوية وعشوائية للمطالبة بأبسط حقوقهم.
يأخذ البعض أن غياب القادة المنظمين للمظاهرات سببا في استغلالها من قبل جهات حزبية لتفشيلها أولا ولبيان خطأ المتظاهرين في دولة تحكمها أحزاب إسلامية ثانيا، وكانت النتيجة استثمار الخبث الرأسمالي في استغلال هذا الوضع لتمرير أجندات محلية لبقاء الهيمنة الدينية والسياسية على هذا الشعب، وأنّ أيّ تفكير بالتغيير سيصبّ في صالح العلمانيين والمثقفين وهو ما لا يرضاه حتى بعض المثقفين ممن لديهم رؤية إسلامية.
لا بد من دراسة هذه الظواهر التي فرزتها حركة الشباب في البصرة، لاستخلاص دروس مهمة منها، لعل أول الدروس هو غياب توجه الشباب لأي جهة علمانية تأخذ بمشروعهم التنويري من خلال تلبية احتياجاتهم كشباب يعتمد عليه المستقبل، فقد ثبت عمليّا أنّ الركض وراء المعمّمين لم يجلب لهم أيّ مستقبل، فكيف والسلطة الإسلامية مستولية على كل مقدرات العراق دون أن تفتح لهذه الأجيال أيّ نافذة للمستقبل، من هنا على الشباب كي يكونوا رجالا للمستقبل أن يتوجهوا إلى القوى العلمانية ودون هذا التوجه الإرادي ستتكرر مأساة البصرة وتضحياتها دون نتائج، إن لم تحسب نتائجها لصالح قوى الفساد.
النقطة الثانية، وهي ربما ستكون أشد ضررا على أجيال الشباب، وهي أن القوى والأفكار الدينية ليستا قوى وأفكارا مستقبلية، وعلى أجيال الشباب أن تعمل قطيعة مع توجهات هذه القوى، دون أن تقطع صلاتها بالعقائد الدينية، فليس بالتظاهر وحصر رؤاهم الفكرية ضمن مطالب وحقوق فقط، هو ما يجعلهم صوتا للمستقبل، إنما بالممارسة الديمقراطية الرافضة للأشكال التي تستبد بوعيهم وتصادر حريتهم، وتقف دون توسيع دائرة تعليمهم، وتقمع كل مظهر لا ينسجم ورغباتهم، بهذه الطريقة الواعية يمكننا بعد سنوات التأشير إلى نمو ظاهرة بدء الأجيال التفكير بمستقبل تتضافر فيه رؤاها الذاتية برؤية العراق المستقبلية.
النقطة الثالثة، أن الإسلاميين الذين يهيمنون على مقدرات العراق يتصوّرون أنهم باقون للأبد، وأن التاريخ قد منحهم فرصة الوجود حتى لو بالعنف على بلد لم يعرف السكون، لذلك لن يكون للإسلاميين المتشددين إلا الفشل، صحيح أن التاريخ قد منحهم فرصة مهد لها المستعمر والكولونيالية والحكم الجائر الذي حكم العراق سابقا، لكن التاريخ لا يغفل حركة الأجيال الجديدة حتى لو كانت غير واضحة الأيديولوجيا والأهداف، فمثل هذه الغشاوة التي يتستر بها سياسيو الصدفة الدينية لن تبقى طويلا، وإذا لم تتحرك الأجيال الجديدة باتجاه حداثة المجتمع وتعي أنها ضحية، وهم وخرافة السياسيين الذين لا يهمهم المستقبل ستكون هناك الآلاف من المكانس الدينية لتجرف الشباب عن كونهم شبابا لهم حق التغيير.