الإنسان الرومنطيقي يتكلم بلسان عربي
صدرت في المدة الأخيرة عن معهد تونس للترجمة، الترجمة العربية لكتاب “الإنسان الرومنطيقي” (L’Homme romantique) للفيلسوف والأديب الفرنسي جورج غوسدورف (1912-2000)، وقد أنجز الترجمة الروائي والأكاديمي والمترجم التونسي محمد آيت ميهوب، وجاءت في إخراج أنيق وحجم ضخم فجاوزت صفحات الكتاب 570 صفحة من المقاس الكبير. وقد ذكر المترجم أن ترجمة هذا الكتاب المرجعي كانت حلمه منذ أن قرأه أول مرة قبل سنوات طويلة وأدرك قيمته المعرفية الكبيرة جدا في الدراسات الرومنطيقية، وحاجة الدراسات العربية المهتمة بالرومنطيقية إليه على وجه الخصوص. ذلك أنّ الغالبية الساحقة من الدراسات الرومنطيقية العربية ذات منزع أدبي أساسي تنطلق في التعريف بالرومنطيقية من مستواها الأخير الطافح فوق سطح الكتابات الرومنطيقية الأدبية وقد أضحت عناصر تعبيرية وفنية، وتهمل في المقابل أساس الرومنطيقية الفلسفي العميق. أما هذا الكتاب فيدرس الرومنطيقية في مشاربها الفلسفية والأنتروبولوجية والإبستيمولوجية البعيدة جذورها في الزمن، والمتشابكة في أديم الثقافة الإنسانية.
يبين هذا العمل الفريد من نوعه أن للرومنطيقية التي ظهرت رسميا في ألمانيا في أواخر القرن الثامن عشر على أيدي الأخوين شليغل ونوفاليس وجان باول، امتدادات قديمة جدا تعود إلى تساؤلات الفلاسفة القدماء عن الإنسان وصلته بالكون والخالق، وإلى المتصوفة العرب والفلسفات الشرقية ومفهوم وحدة الوجود، وصولا إلى ضيق فلاسفة القرن الثامن عشر من تعاليم الفلسفة العقلانية التجريبية ونزعتها الذهنوية الصارمة التي سقطت مع هيوم ولوك وكوندياك وكوندورسي، في تأليه العقل والإعلاء من شأن الوعي الواضح في مقابل قمع الروح والعاطفة والخيال.
وهكذا فالإنسان الرومنطيقي هو المقابل للإنسان العقلاني كما نحته فلاسفة عصر الأنوار، إنسان يضيق بالبعد الذهنوي الواحد ويسعى إلى أن يستعيد الاتصال بالطبيعة والماوراء والخيال واللاوعي في ظل كينونة كلية يكون فيها الإنسان صورة للعالم، والعالم صورة للإنسان. ولعل من أهم الأفكار التي ألح عليها جورج غوسدورف طيلة فصول الكتاب أنّ الرومنطيقية هي مشروع فلسفي إبستيمولوجي فكري ضخم مفتوح في الزمان والمكان ولا يرتبط بنوع مخصوص من التعبير الإنساني، ولا بحقل محدد من حقول المعرفة البشرية. ولذلك رفض الكاتب في خاتمة الكتاب القول بموت الإنسان الرومنطيقي واعتبر أنه مازال حيا بيننا طالما كان في الإنسان حب للخيال، وملاذ في اللاوعي، وشوق إلى الخروج من غربته الأنطولوجية الأولى واستعادة وحدة الكيان، وحلم بالفوز بأجوبة مطمئنة عن أسئلته الميتافيزيقية القديمة.
ويعد جورج غوسدورف، مؤلف الكتاب الفرنسي ذو الأصول الألمانية، من أبرز المفكرين الفرنسيين في القرن العشرين وأغزرهم كتابة وتأليفا وأوسعهم اهتماما بحقول معرفية متنوعة. فقد ترك ما يزيد عن خمسين كتابا في الفلسفة والإبستيمولوجيا وتاريخ الأفكار وتطور العلوم وعلم اجتماع الثورات والأجناس الأدبية، تعد جميعها مراجع أساسية لا غنى للباحث عنها. ابتدأ مسيرته العلمية مدرّسا للفلسفة في جامعة سترازبورغ بعد أن ناقش أطروحة بعنوان “اكتشاف الذات” دشن بها حقلا جديدا في الدرس الفلسفي جمع فيه بين التفكير الفلسفي الظاهراتي في الذات من جهة، والدرس الأدبي الأجناسي لأدب السيرة الذاتية من جهة أخرى.
وقد تدعم منهجه هذا في مؤلف آخر عظيم له أصدره بعد أربعين سنة حمل عنوان “خيوط حياة” وجاء في مجلدين: “كتابات الأنا” و”سيرة ذاتية”. ولعل مشروعه الفكري الضخم الذي ظل يؤلفه طيلة خمس وعشرين سنة وحمل عنوانا كبيرا هو “العلوم الإنسانية والفكر الغربي” هو جماع فلسفة جورج غوسدورف ولبّ تصوراته في الفكر الغربي في علاقته بمفهوم الذات الفردية في الثقافة الغربية عبر مختلف أطوارها وفي حقولها الأساسية: الأسطورة والفلسفة والعلم والفن. وقد تكوّن هذا المشروع من مدونة ضخمة اشتملت على ثلاثة عشر مجلدا كان كتاب “الإنسان الرومنطيقي” أحدها إضافة إلى أربعة مجلدات أخرى صرف فيها غوسدورف عنايته إلى دراسة الرومنطيقية.
هذه الترجمة التي أنجزها محمد آيت ميهوب هي أول ترجمة عربية تنجز لمؤلف من مؤلفات جورج غوسدورف، رغم اطلاع الباحثين العرب لا سيما في تونس والمغرب على أعماله واستفادتهم منها. وهذا ما قام به المترجم نفسه في أطروحته “الرواية السيرذاتية في الأدب العربي المعاصر”، وقبله عادت الباحثة جليلة الطريطر إلى غوسدورف في أطروحتها “مقومات السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث”، ومثلهما فعل قبل عشرين سنة محمد قوبعة عندما أنجز أطروحته “الرومنطيقية ومنابع الحداثة في الشعر العربي”. ورغم أنّ هذه الترجمة قد تأخرت بعض الشيء فالكتاب صدر أول مرة بالفرنسية سنة 1984، فإنها مع ذلك قد جاءت في الوقت المناسب نظرا لازدياد الاهتمام النقدي والأكاديمي بالرومنطيقية في الأدب العربي، ولحاجة الباحثين العرب إلى تعميق معارفهم الفكرية والفلسفية بهذا المذهب الأدبي الذي أثر في كل المدارس الأدبية والفنية في القرن العشرين، ولحتمية تجاوز المقولات النقدية التبسيطية التي سادت النقد العربي في النصف الثاني من القرن العشرين.
اقرأ أيضا:
يحتوي الكتاب على ثلاثة أجزاء كبرى هي: قيم وحالات نفسية، والكائن متجسدا، وهومو رومنتيكوس (الإنسان الرومنطيقي). وقد اشتمل كل جزء من هذه الأجزاء الثلاثة على مجموعة من الفصول رتبت ترتيبا منهجيا متكاملا ينطلق من الرومنطيقية وهي تولد في الفكر الغربي وتحديدا الفلسفة الألمانية بوصفها تمردا على الفلسفة العقلانية التجريبية، ثم يتوسع في تحليل المقولات الفلسفية الكبرى للرومنطيقية وأهم تجلياتها في الأدب والفن والعلم، وينتهي في الجزء الأخير إلى تحليل امتدادات الرومنطيقية في فلسفات القرن العشرين وتأثيرها في تطور الأفكار المعاصرة.
في الفصل الأول من الجزء الأول “السوابق” توسع المؤلف في تحليل انحلال الأنا وطمس الفردانية مع الفلسفة العقلانية وتنامي المنزع المادي التجريبي في عصر الأنوار وتعالي الطموح إلى خلق “المواطن العالمي” المنمط الامتثالي. أما في الفصل الثاني “الهوية الرومنطيقية” فقد تابع غوسدورف البذور الأولى لولادة الوعي الرومنطيقي في القرن الثامن عشر من الفيلسوف شفتيسبوري إلى ظهور حركة “العاصفة والاندفاع″ الألمانية التي أعلنها مجموعة من الشباب الألمان على رأسهم الأخوان شليغل وجان باول ونوفاليس، وكانت البداية الحقيقية للرومنطيقية.
وقد كان “الأنا” هو البرعم الذي منه انفتحت زهرة الرومنطيقية، وانطلق الوعي بالأنا من صرخة بيران:”ما الأنا؟” وحديث روسو عن الأنا بوصفه حضورا في العالم. وبذلك انطلقت الرحلة لاستكشاف الفضاء الباطني بعد أن أطردته الذهنوية العقلانية ونصبت الفضاء الخارجي مصدرا أوحد للمعرفة واليقين الوجودي. ومن ثم انتقل الفكر الغربي من الأنا الترانسندنتالي إلى الأنا الأنطولوجي عبر الحدس الذهني، ووجدت هذه الفكرة أحسن تعبير لها في قولة فريدريش شليغل: ” الفنّان هو من كان مركزه في ذاته”. وبذلك تمت إعادة التمركز الأنطولوجي للأنا والعالم، المركز والدائرة في تبادليّة الوجود، وتعالى مبدأ صوفي قديم يقول بوحدة الجوهر، واتصال الأنا واللا أنا، وأصبح ينظر إلى الفرد بوصفه موطن إشعاع العالم.
ويضم الجزء الثاني “الكائن متجسدا” خمسة فصول أبحر فيها جورج غوسدورف في تحليل أهم المقولات الفلسفية الكبرى انطلاقا من كتابات نوفاليس وأوكن وكاروس ونرفال وهيغو. وقد رأى أنّ هذه المقولات تستقطبها مقولة كبرى اعتبرها أهم اكتشاف معرفي ساهم في تبلور النظرية الرومنطيقية هي مقولة المتعضية الكونية الكلية (Totalorganismus) والتي يعتبر الكون وفقها جسدا واحدا كبيرا متعاضد الأطراف والأجزاء لا انفصام فيه بين الإنسان والطبيعة، وبين الوعي واللاوعي، والجسد والروح.
ومن هنا اعتبر الوعي الإنساني جماع المعنى المتشتت في أطراف العالم. وعلى أساس من ذلك عدّ الإنسان الرومنطيقي هو الذات المهاجرة دوما بحثا عن المعنى بغية استعادة الطور الفردوسي الأول حيث كانت تملك كل المعاني والأسماء.
هذا المبدأ هو الذي يفسر كل أنشطة الفرد من عمل وحب وخلق فني. ويعدّ الفصل الثاني من هذا القسم “الموت- الحلم- البقاء” من أجمل ما يمكن للمرء أن يقرأه عن رؤية الرومنطيقيين الغريبة والثرية للموت والحياة، حيث تنمحي الحدود تماما بين هذين الطورين الوجوديين في كينونة الفرد إذ لا يعتبر الرومنطيقيون الموت نهاية للوجود، وفي الصفحات الطويلة التي خصصها الكاتب لعلاقة نوفاليس بحبيبته المتوفاة صورٌ بديعة حقا من هذه الرؤية الفريدة.
الفصل الخامس الموسوم بـ”الطب الرومنطيقي” جمع بين الدقة والتقصي الصبور، والطرافة والإبهار. فقد عاد المؤلف إلى القرن الخامس عشر ليتابع في كتابات صوفية وغنوصية مهجورة الخيوط الرفيعة الأولى لبداية تشكل نمط من “الطب الروحي البديل” طوّره الرومنطيقيون، وكان من بينهم أطباء كثيرون، لينتقل بالطب المعروف من علم الأمراض إلى “الصحّة العظمى”، ومن طب الأعضاء إلى طبّ الدلالات. ففي سياق المبدأ الأكبر الذي قامت عليه الفلسفة الرومنطيقية، مبدأ المتعضية الكونية الكلية، نُظر إلى المرض على أنه تجربة ذاتية وجودية واتصال حيوي بين الإنسان والطبيعة. وبذلك رسخ الرومنطيقيون مفهوم طبّ الشخص بعد أن كان الطبيب يعتبر ميكانيكي آلة الجسد، وكانوا هم الأوائل إلى اكتشاف التعالق بين الجسدي والنفسي، واعتبار الجنون تجربة وجودية لا تخلو من الصواب. وبذلك كان لهم الفضل في تمهيد السبيل أمام ظهور علم النفس الطبي.
وانصبّ اهتمام المؤلف في القسم الثالث “هومو رومنتيكوس″ على الاحتجاج لأطروحته القائلة بأن الإنسان الرومنطيقي ما زال يعيش بيننا رغم اتفاق مؤرخي الأدب والفلسفة على أن الحركة الرومنطيقية قد غبرت في ثلاثينات القرن التاسع عشر. فقد بيّن في الفصلين اللذين اشتمل عليهما هذا الجزء الأخير امتدادات الرومنطيقية في الفلسفة المعاصرة (الظاهراتية مع هوسرل، وفلسفة الحياة مع نيتشه وبرغسون، والوجودية مع هيدغير)، وفي الحداثة الأدبية (بودلير وفلوبير ودوستويفسكي)، وفي الفن التشكيلي (السوريالية).
وفسر غوسدورف ذلك بالمنزلة الرفيعة التي تحلّها الرومنطيقية لقيمتي الحرية والخيال. فالحرية تجعلها الرومنطيقية مرجع كل الحركات الساعية إلى التحرر والرافضة لتدجين الإنسان، والخيال هو المحرك النشط لكل نزعات التجديد في الأدب والفن والفكر والتمرد على ما استقر من طرائق في القول والتفكير والإنشاء الفني.
وعلى هذا النحو اعتبر ثورة الطلاب في فرنسا سنة 1968، تجليا تاريخيا من تجليات الرومنطيقية إذ جعلوا من بين شعاراتهم شعارا رفعه نوفاليس من قبلهم بقرن ونصف: “السلطة للخيال”. يقول غوسدورف في ذلك “إنّ الاستلهام الرومنطيقي يظل حاضرا حيثما وجدت فلسفة طبيعية أو فلسفة ثقافية تحترمان الماقبل التجسد الحياتي وتسعيان إلى استعادة تشكلات الظاهرة الإنسانية دون التطلع إلى اختزالها في المعايير المتعالية لحقيقة وقع تحديدها مرة واحدة إلى الأبد”.
وإنّ الناظر في الصفحات الأخيرة من الكتاب لا سيما في الخاتمة، يكتشف بيسر أنّ المؤلف قد نضا عنه جبّة الفيلسوف وكشف عن شاعر مختبئ داخله لم يصرف كلّ ما صرف من جهد جبار في الإحاطة بدقائق الفكر الرومنطيقي وخلفياته العميقة مما يسمّيه “الأنتروبولوجيا الرومنطيقية”، إلا ليعبّر عن ولع قوي بعيد الغور بالرومنطيقية وتراثها الثري النافذ الحي، وإجلال كبير للإنسان الرومنطيقي الذي كلما اشتدت سطوة التشييء ومطاردة الأنا إلا وظهر وأكد انتماءه إلى الراهن وحضوره في العالم.