الكتابة النسوية في السودان: إطار معرفي
في العام 1946 صدرت أول مجلة نسائية متخصصة في السودان تحمل اسم “بنت الوادي” في إشارة إلى وادي النيل، وقد أصدرتها السودانية تكوى سركسيان، الأرمنية الأصل، حيث استكتبت فيها العديد من الأقلام المثقفة السودانية حول قضايا المرأة في وقت لم يكن ذلك التقليد مألوفا في المجتمع السوداني، بل إنه في النصف الأول من القرن العشرين تكاد قضايا كتعليم البنات وقبلها محاربة التقاليد الضارة كالختان وغيرها تسيطر على الواجهة.
بشكل عام، لا يمكن فصل قضية الإبداع النسوي في السودان عن مجمل حراك المرأة السودانية في سعيها نحو التحرر وتشكيل كينونة الذات، وهو موضوع ارتبط لحد كبير بالتحديث مع مطلع القرن العشرين بدخول الاستعمار الإنكليزي البلاد ومعه تغيّرت الكثير من القيم والأفكار وكان للجاليات الأجنبية المتعددة التي ساهمت في النهضة السودانية، دور في تشكيل المستقبل بخصوص الثقافة عموما والإبداع النسوي كما في نموذج سركسيان ومبادرتها المذكورة.
قبل التحديث
قبل العام 1900 كانت مسألة تعليم المرأة تكاد تكون صفرا على الشمال، بحيث لا يمكن العثور على إطار بنيوي واضح لها عدا ما يمكن أن تتلقاه المرأة السودانية التقليدية من تعليم ديني بحت في خلاوي القرآن الكريم، أو الكتاتيب، وبحيث ظلت المرأة مرتبطة بالعمل في البيت والقيام بدور روتيني لا يتعدى خدمة الزوج وإنجاب الأبناء، وهذا لا يعني أن هناك إشارات متناثرة لنساء كان لهن دور بطولي في الحروب مثل مهيرة بنت عبود التي اشتهرت بدورها في مقاومة دخول الجيش التركي في شمال السودان عام 1821 عبر إلهاب المقاتلين الوطنيين بأشعار الحماسة التي تؤلفها.
وفي الماضي السحيق، فإن الممالك الوثنية في شمال السودان عند الكوشيين والنوبيين كان للمرأة دور كبير في مجتمعاتها، حيث تولت موقع الملكة وبالتالي مثلت رأس وهرم السلطة الاجتماعية في ذلك التاريخ، وهو ما ارتبط وقتذاك بالسياقات المتعلقة بطبيعة التكوين الاجتماعي وأنساق تفهم من خلال دراسة الإطار الأمومي للمجتمعات البدائية وكذلك الأديان القديمة.
الإطار الحديث
يعود الفضل إلى بابكر بدري (1861-1954) في ابتدار تعليم المرأة بشكله الحديث في السودان، حيث كان أول من افتتح مدرسة لتعليم البنات في عام 1907 بمدينة رفاعة، وقد كانت البداية بمنزله، حيث أدخل بناته في مدرسته المنزلية، ليبدأ بهن رسم حقبة جديدة من التعليم النسوي، وهي خطوة لم تمر بسهولة، في مجتمع لا يزال ينظر للمرأة في الدور التقليدي لها، وكان ثمة توجس كبير من تعليم المرأة ودخولها في الحياة الاجتماعية الفاعلة.
مع مرور الزمن ورغم المقاومة الاجتماعية فقد صار تعليم المرأة منتشرا وبوصول عام 1920 كانت هناك خمس مدارس في البلاد، وتوالي التدرج ليصبح تعليم البنت عاديا مع الوقت بانتشار المدارس والجامعات.
هذه السياقات ضرورية في إدراك أن الإبداع النسوي لحد ما هو وليد حركة التعليم والتحديث، وما عداه كان الإطار التقليدي للتعليم الديني الذي يعود عمره إلى ثلاثة قرون إلى الوراء، حيث يرد ذكر لذلك في كتاب “الطبقات” لود ضيف الله من أن بنات الشيوخ وعلماء الدين كان لهن نصيب من التعليم والإدراك في شؤون الدين والفقه والحساب.
الصحافة والكتابة
برغم التحديات العديدة، فإن المرأة اليوم صارت موجودة على الصعيد الصحافي والكتابة بشكل عام ومشاركة في الإبداع عامة بشكل فاعل، لولا أن الإطار النوعي والجمالي لا يزال ينتظره الكثير من العمل.
وبالعودة إلى الأرقام فإنه وحتى العام 2010 فإن عدد الصحافيات في السودان اللائي اجتزن القيد الصحافي بلغ 1476 فيما كان عدد المسجلات بوصفهن عضوات بالاتحاد العام للصحافيين 476 صحفية. وقد ساهمت المرأة في هذا الإطار في حفز وتحريك قضايا المرأة ومسائل الحريات وتعرضت للمضايقات والاعتقال في الكثير من الأحيان لمواقفها؛ وهناك من حصلت على جوائز عالمية كالصحافية أمل هباني التي عرفت بقلمها الجسور، وقد نالت جائزة حرية الصحافة للعام 2018 التي تمنحها لجنة حماية الصحافيين في نيويورك، وقبلها في العام 2014، جائزة (قنيتا ساقان) المقدمة من منظمة العفو الدولية.
ترى بخيتة أمين وهي صحافية مخضرمة في كتابها “الصحافة النسائية في السودان” (2010) أن “العلاقة بين الصحافة النسائية وتعليم المرأة كانت علاقة تباديلة حيث شكّلت المتعلمات الأوليات نواة الصحافة النسائية في نمطيها اللذين ظهرت بهما، أي عندما كانت مجرد صفحات لشؤون المرأة في الصحف اليومية أو بعد أن صارت صحافة مستقلة بذاتها”.
ملكة الدار: التعليم والكتابة
مثلت الصحافة عموما مدخل المرأة السودانية للكتابة الإبداعية وذلك منذ الثلاثينات، وترادف ذلك مع اتجاه المرأة أيضا إلى حقل التعليم وعملها كمعلمة في المدارس. وهنا يشار إلى أول امرأة سودانية كتبت الرواية -ربما قبل الرجل- بحسب المتوفر إلى اليوم من المصادر، كانت تعمل في الحقل التعليمي. وهي ملكة الدار محمد التي كتبت رواية “الفراغ العريض” التي يعتبرها أغلب المؤرخين الأدبيين أول رواية سودانية، وقد كتبتها عام 1948 ولم تنشر إلا عام 1970.
بالنسبة إلى ملكة الدار فقد كانت متعددة المواهب من عازفة بيانو إلى قاصة وملحنة، وفي الإطار القصصي فقد سعت إلى المشاركة في المسابقات الإذاعية وفازت لها قصة في عام 1947 بالإذاعة السودانية وأخرى في عام 1968 بإذاعة “ركن السودان” من القاهرة. ولعل ذلك الفوز المبكر إشارة إلى تقدم النص النسوي؛ على الأقل موضعه الاجتماعي في المعالجات المطلوبة للقضايا النسوية.
اللحظة الراهنة
من جيل ملكة الدار إلى اليوم فقد أصبح في السودان عدد كبير من الكاتبات اللائي يكتبن القصص القصيرة والرواية بالإضافة إلى المئات من الصحافيات اللائي يسطرّن يوميا آراءهن حول مختلف القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الصحافة السودانية، بحيث صار قلم المرأة له دور لا يمكن الاستهانة به في حركة التغيير والتفكير في مستقبل البلاد وفي نسج أفق الحياة الأفضل.
ومع ما يثيره مصطلح “الأدب النسوي” أو الكتابة النسوية من تحفظ لدى البعض، فإن ثمة اتجاها نقديا لا يزال ينظر إلى كتابات المرأة السودانية وفق هذا الإطار، وهو ما حاول الناقد الفاتح ميكا تقليل الفجوة بشأنه في ورقة تتعلق بهذا الموضوع، إذ ذهب إلى أن “الكتابة عن الأدب النسائي ليست دعوة للتمرد على سلطة الرجل، وإنما السير جنبا إلى جنب من غير استلاب ودعوة للتقارب والتمازج والانصهار.. وليس دعوة للفصل”.
وسوف يواجه الباحث في الشأن الأدبي السوداني، بقصور كبير في تتبع حركة الكتابة النسوية، وهو جزء من إشكال عميق في التأريخ للأدب والفنون عامة في السودان، وغياب التوثيق والدراسات النقدية أو الجامعة.
الحركة الاستثناء
بالعودة إلى محاولة تتبع هذا الأثر، فسوف نجد أن مجلة “بنت الوادي” لسركسيان توقفت بعد عامين من صدورها بسبب غياب التمويل، حيث كانت ناشرتها تدفع عليها من مالها الخاص، ولم تبزغ بعضها إشراقة جديدة إلا في 1956-1957 عندما أصدرت حاجة كاشف بدري مجلة باسم “القافلة” ذات طابع ثقافي جاءت بمشاركة بين الأقلام الرجالة والنسوية معا وحققت انتشارا لا بأس به، وكانت مشعلا صغيرا في عتمة كبيرة، وجاء صدورها في فترة الاستقلال الذي تحقق في الأول من يناير 1956 وعنيت بالأدب الشعبي والأضواء السياسية وحقوق المرأة.
مع مرور السنين، فإن المجلات النسوية توالت في أوقات متفاوتة لتساهم في إبراز الكتابة النسوية لا سيما في إطارها الاجتماعي والاهتمام الأكبر بقضايا المرأة السودانية، هذا الملمح الذي سوف نجده يسيطر على كتابة المرأة السودانية إلى اليوم برغم أن هناك استثناءات قليلة خرجت عن هذا المسار في محاولة إبداع نصوص في موضوعات عامة تدور في مجمل التجربة الاجتماعية الحديثة، مثل رواية “ابن الشمس″ لرانيا مأمون التي تحكي عن طبقة المتشردين الذين يعرفون باسم “الشمّاسة” في السودان، وهي تعبر عن نقلة في تصور الرؤية الجمالية في إطار أدب المرأة في السودان.
حضور الشعر
على مستوى ثان فإن المرأة السودانية حاضرة في الشعر بدرجة كبيرة منذ فجر الجدات والحكّامات في التراث الشعبي، وبراعتهن في نسج الأشعار باللغة الدارجة التي تعبر عن الاحتفاء بالبطولة والأبناء والتحفيز على القيم الجميلة كالشهامة والكرم والرجولة، والغريب أن هذا النوع من الشعر تقوله المرأة لتصنع به رجلا وليس العكس، إذ لا يلعب دورا في قضايا المرأة نفسها.
وإلى اليوم فالمرأة لها الحضور الأوضح في الشعر المكتوب والمنطوق بالدارجة السودانية وهو ما يتضح في البرامج التلفزيونية الكثيفة في هذا الباب. لكن هناك شاعرات لهن حضور في القصيدة الفصحى برغم قلة الإنتاج الشعري النسوي هنا، قياسا مع الميل إلى كتابة النصوص القصصية والرواية اليوم.
مسيرة التحديات
ساهمت أقلام نسوية رائدة مثل نفيسة الشرقاوي وبثينة خضر مكي وزينب بليل في نسج الإبداع النسوي القصصي والروائي الحديث في السودان، وعملن رغم كافة الظروف العسيرة على الاستمرار في الإنتاج والعمل بكل إخلاص لمهمة الكتابة في ظل تحديات اجتماعية واقتصادية قاسية.
وقد أشارت الشرقاوي في مقابلة صحافية عام 2000 إلى أنها عاجزة عن النشر ولديها سبع مجموعات حبيسة الأدراج، ولهذا تكتفي بالنشر في الصحف، وقد يكون هذا الواقع تغير بعض الشيء اليوم، لكن الأفق لا يزال صعبا، فعمليات النشر بالإضافة إلى دور المرأة الاجتماعي تقف حاجزا دون انتشار الكتابة النسوية.
غير أن البدايات دائما ما تكون صعبة، لهذا فإن أغلب الإنتاج النسوي في طور الريادة لم يجمع في مجموعات قصصية مثلا وظل في الصحف غالبا وحيث يمكن الإشارة إلى أسماء مثل الصحافية آمال عباس التي كتبت قصصا مبكرة حول أزمات المرأة في المجتمع الذكوري، وكذلك القاصة آمنة أحمد يونس في الخمسينات التي دارت أيضا في فلك التحرر، وغيرهن.
اليوم لدينا جيل من الكاتبات في القصة القصيرة والرواية، على سبيل المثال: سارة الجاك، وسوزان كاشف، وإشراقة مصطفى، وآن الصافي، وليلي أبوالعلاء والأخيرة وجدت انتشارا أوسع باعتبار أنها تكتب بالإنكليزية وتعيش في لندن، لهذا عرفت في الأوساط الغربية بدرجة أوضح، وقد سبق لها أن فازت بجائزة كين للأدب الأفريقي، وهي تعالج موضوعات لم تخرج عن قضايا المرأة والانتقال بين مجتمعين شرقي وغربي.