ثقافة الأقلية وثقافة الناس
ثقافة النخبة هي ثقافة الأقلية المتعلمة تعليماً عالياً أو المثقفة المطّلعة الدؤوبة في البحث والمتابعة داخل تخصصها وتشمل المثقفين والأكاديميين والمبدعين في قطاعات الثقافة والفنون والعلوم بشكلٍ خاص.
أما ثقافة الناس فهي ثقافة الأكثرية ذات التعليم العادي أو البسيط والمهن الحرفية والفلاحين والطبقات الشعبية والتي لا تداوم على المطالعة والبحث المعرفي واكتساب المعارف الجديدة، ومع وسائل الاتصال والإعلام الحديثة فهي تستهلك ما يصلها من الثقافة عن طريق الصدفة غالباً وبشكل سريعٍ ومتقطع.
ثقافة النخبة ضرورية لأنها تعتمد على التعليم العام أو الذاتي وتتصل بآخر مستجدات العلم والثقافة في العالم، فهي التي تربط المجتمع بعصره الحديث وتُشعره بما يجري في العالم من تطورات ثقافية وعلمية وحضارية، وهي ضرورية للمجتمع بحكم فاعليتها وقيادتها للرأي العام وتنويرها للمجتمع سواء في قنوات الإعلام أو التعليم أو العمل أو الحياة العامة، فضلاً عن أن ثقافة النخبة تمثل بنتاجها الثقافي والمعرفي والعلمي قدرة ذلك المجتمع على الخصوبة الفكرية والحضارية لذلك المجتمع عبر أفراد ومؤسسات مبدعةٍ ومتواصلة الإنتاج.
ثقافة الناس، هي الأخرى، ضرورية لأنها تعكس حاجات الناس والمجتمع وتطلعاتهم وهي المقياس الحسّاس لما يكون عليه المجتمع وما يحتاجه، فضلاً عن أن الثقافة الشعبية كانت، على مدى التاريخ، مصدر الإنتاج الفطري الطازج في الثقافات والفنون والذي يشكّل النضح العام الجمعي الواعي واللاواعي للمجتمع على لسان مبدعيه الشعبيين، هذا المعين الخصب والثريّ لا تستغني عنه أيّ ثقافة وطنية أو قومية فهو نهرها المتدفق المنساب بلا انقطاعٍ في كلّ العصور.
الثقافتان، إذن، لا بد منهما، وقد تحملان بعض التنافر بينهما، مثل أفكار التخلف والتقدم وغيرها، ولكن الجمع بينهما أمر صحيح ووارد ومفيد لثقافة أيّ بلد. الفجوة بينهما فجوة طبيعية تفرضها طبيعة كلٍّ منهما ولا أعتقد أن من الصحيح وصف ثقافة النخبة بالرفعة والعلوّ وثقافة الناس بالهبوط والانحطاط لأن الثقافتين مختلفتين في مجراهما ووظيفتهما.
ربما يُستخدمُ، هذا الوصف، في ظل مجتمعاتٍ منقسمةٍ طبقياً بحدةٍ، وفي الماضي بشكل خاص، لكن الأمر أصبح مختلفاً الآن فلم يعد الأمر كذلك لأن الوعي الاجتماعي أصبح يحرص على الثقافتين ويجمع بينهما لمصلحته الحضارية.
ثقافة النخبة لا يمكن أن توصف، بعد الآن، منعزلة ومغلقةً يمارسها عباقرةٌ متجهّمون. وثقافة الناس لا يمكن أن توصف، بعد الآن، بالهبوط والتدنّي يمارسها ناسٌ سذج وأميون، وذلك بسبب القفزة النوعية لوسائل الاتصال والإعلام والذي أصبح يرصد الجميع، من ناحية، ويفتح للجميع أبواباً مشرعة للظهور من ناحية أخرى.
ثقافة النخبة تنشّطُ ثقافة الناس وتزيد من سعة وعمق اهتماماتهم، وثقافة الناس تُخصّب ثقافة النخبة وتمنحهم حرارة الحياة وحاجاتها وقوتها وتمدّها بخامات عظيمةٍ لإنتاجٍ ثقافيّ مبدع.
لابد إذن من الاعتراف بوجود الثقافتين منفصلتين شكلياً ومتصلتين وظيفياً، ولذلك تبدو الفجوة التي نتحدث عنها، بينهما، “فجوة أميبية الحركة” لا يمكن رسمها وتحديد مناسيبها، فالنسغ الصاعد فيها يشتغل وكذلك النسغ النازل وهو ما يشير إلى حركة الحياة وظهور الثمار في نهاية المطاف.
وحدها النخب الدينية والسلفية هي التي عزفت على قيادة ما تراه قطيعاً جاهزاً، فرجال الدين والفقهاء والدعاة وأصحاب الرساميل الدينية يدركون أن الدين ثقافة شعبية جاهزة يمكن التحكم فيها وفي أهلها ولذلك لعبت هذه النخب الدينية دوراً خطيراً في تدمير الثقافة الشعبية وتشويهها ونشرت فيها العنف والكراهية والظلام، هذه النخب ليست ثقافية، بأيّ حالٍ من الأحوال، بل هي نخب ما صار يعرف بـ”الإسلام السياسي” حتى وإن لم تكن منتظمة سياسياً فيه، فقد ثوارثت السلطة الدينية سلالياً أو تعلّماً ودرجت على استعمال الدين بنوايا خبيثة وبدوافع السلطة والمال بالدرجة الأساس ولذلك لا يمكن عدّ هذه النخب ضمن النخب الثقافية التي يكمن جوهر مشروعها في التنوير والعلم والحرية، هذه النخب الدينية طوت صفحة الوعي الروحي في الأديان وانشغلت بالوعي التحريضي الذي يشتت الناس ويمزقهم.
رجال الدين والفقهاء والدعاة وأصحاب الرساميل الدينية يدركون أن الدين ثقافة شعبية جاهزة يمكن التحكم فيها وفي أهلها ولذلك لعبت هذه النخب الدينية دوراً خطيراً في تدمير الثقافة الشعبية وتشويهها
مادامت المجتمعات المتحضرة تضم ثقافتي النخبة والناس فكيف هو الحال مع المجتمعات المتخلفة والنامية؟ لا شك أن الهوة بينهما ستزداد، ولا أعتقد أن ردم الهوةِ أمرٌ واردٌ، ثم لماذا نردم الهوة قسراً في مثل هذه المجتمعات المتخلفة وكيف سنستطيع ذلك؟ الأمر مرتبطٌ بتقدم المجتمع كله وتحضره وهو ما لا نتوقع حصوله خلال قرونٍ قادمة.
لا أعتقد أن من صالح المجتمع ردم الهوة قسراً لأننا بفقداننا خصوصية ثقافة الناس الشعبية نكون قد خسرنا ثقافة عفوية ساخنة قادرة على الحركة والمرونة والإخصاب فضلاً عن كونها تشكل نضح الجماعة.
ثم إن الأمر ليس بهذه البساطة ولا بهذا الفصل الحاد ففي ثقافة النخبة هناك ما هو شعبيّ يتسرب لها من خلال الأصول الشعبية للعاملين فيها ومن خلال التواصل بين النخبة والمجتمع، وفي ثقافة الناس هناك ما هو نخبويّ يتسرب إليها من خلال التعليم والإعلام والتواصل. ولو استعنّا بمنهج جاك دريدا في التفكيك لوجدنا أن تفكيك هذه الثنائية “نخبة/ناس″ التي تخضع ،هي الأخرى، لفصل حاد في ذهن المتلقي، في حين أنها ليست كذلك ويمكن تفكيكها وتجاوز تعارضها والاعتراف يتواشج قطبيها.
الخطاب الثقافيّ لا بد له من التفاعل في جميع المستويات حتى الشعبية منها لأن أي انقطاعٍ عنها سيؤدي إلى عزلته ولا بد من تلافي ذلك عن طريق عدم تكريس التعارض الحاد والمطلق بينهما.
ربما كشف لنا الربيع العربيّ الحساسية المرهفة وعمق البصيرة في ثقافة الناس وقدرتها على التغيير، وهو أمرٌ نابعٌ من حاجتها الفطرية للحرية وضغط العصر الحديث عليها في سبيل التحرر وتداول السلطة سلمياً، وثقافة العصر الرقمي التي هدمت الكثير من الجدران والتابوهات في العالم كله.
لكن ذلك لم يكن يعني أن النخبة كانت تغزل في الهواء فلطالما بشرت بالحرية والتغيير لكن مشكلتها، في عالمنا العربي، هو عجزها وعدم استعدادها للتضحية وخوفها، ولكنها عندما أنجز الناس كسر حاجز الخوف بادرت فوراً للتضامن مع الناس ومع مطالبهم. ولا بد ،هنا، أن نلفت الانتباه إلى أن النخب الدينية مارست في سلوكها الانتهازي والمتردد من ثورات الناس ما شهدناه وعرفناه ثم شهدنا سرقتها لهذه الثورات وصولاً إلى السلطة والمال.
كانت الديمقراطية ومازالت حلاً للحياة الاجتماعية والسياسية في العالم الحديث ولكن هذه الديمقراطية ستبدو عرجاء دون الليبرالية ولذلك لا بد من الديمقراطية الليبرالية لكي تصان حقوق المجتمع والفرد معاً، وقد سادت في مجتمعاتنا المطالبة القوية بالديمقراطية فقط والتي كانت مطلب الناس والنخبة، لكن المطالبة بالليبرالية ظلت ضعيفة لأن الناس تناسوها ولم تؤكد عليها النخبة كثيرا، ونرى أن حضور الليبرالية مع الديمقراطية أمرٌ في غاية الأهمية لأنه يصون الديمقراطية من الكسر والتعثر ولأنه يحقق حقوق الأفراد سواء كانوا من النخبة أو الناس.