صحوة قلب
في القرية الصغيرة التي نشأت فيها في ريف منطقة الجزيرة كانت الحياة بسيطة متواضعة أقرب إلى التقشف بعيدة عن رغد العيش، والدي يعمل مدرسا في المدرسة الثانوية ووالدتي في مدرسة تعليم أساسي، عشت مع إخوتي الذكور الثلاثة وأختي محاسن حياة محبة وقناعة وإن كان التمسك بقواعد الدين الإسلامي يمثل طابعا شديدا فيها.
أكملت دراستي الثانوية والتحقت بالجامعة في كلية الطب، كنت متفوقة في دراستي التي هي أملي في حياة أفضل ومستقبل أكثر رفاهية وأمنا لي ولأسرتي.
منذ السنة الثانية عرفت عماد وكان يسبقني بسنتين في الدراسة، وامتدت علاقتنا في سرّية وكتمان، فقد كان المجتمع من حولنا متشددا لدرجة قاسية في المواقف الأخلاقية.
نلتقي في ردهات الكلية وفي مكتبة الجامعة وعبر الهاتف حين يخلو لي الجو من مراقبة أسرتي.
في السنة قبل النهائية لتخرج عماد لاحظت الكثير من التغيرات على شخصيته وطريقة حديثه وملابسه وأفكاره. وأصبح شديد الحساسية ويرتفع صوته بعصبية في كل جدل أو نقاش حُرّ وأصبح عنيفا في ملاحظاته على صديقاتي في الكلية وعلى طريقة ارتدائي لملابسي رغم التزامي الديني؟
قبل نهاية عام التخرج اختفى عماد من الجامعة دون سابق إنذار وكانت طريقة غيابه محيّرة لزملائه في الكلية ولأفراد أسرته.. والده كان مزارعا في المشروع الزراعي ووالدته ربة منزل وهو أكبر إخوته الذكور والأسرة تعقد آمالا واسعة عليه لمساعدتها بعد تخرّجه طبيبا.
كان قد ترك منزل أسرته إلى الجامعة ولم يعد منها.. توالى البحث عنه بواسطة الأهل والجيران دون جدوى وقد أبلغوا أقسام الشرطة باختفائه، ظنوا في البداية أنه غرق في النيل ثم استبعدوا شكوكهم لأنه كان سبّاحا ماهرا.
ترك غياب عماد جرحا عميقا في أعماقي.. وكنت أفتقد وجوده في حياتي بشدة وتظللت حياتي بطابع حزين أسود.. وكنت بالكاد استطيع التركيز في المحاضرات في دراستي.
أختي محاسن كانت تعلم بعلاقتي بعماد وكانت تندهش من سلوكه في الفترة التي سبقت غيابه وحذّرتني من وجوده في حياتي وعند اختفائه قالت لي:
“احمدي ربنا أنه اختفى الآن، وليس بعد أن يتزوجك ويكون لك أبناء منه”. والتزمت الصمت دون تعليق. لقد خذلني عماد واختفى تماما دون أن يهتم بأخباري عن وجهته أو مكانه وكنا نخطط للزواج فور التخرج. أحيانا يجتاحني الخوف من أن مكروها ألمّ به ولكن سرعان ما أستمد يقيني بأنه قد اختفى في مكان ما بالسودان وقد شهد الكثيرون أنهم رأوه في المواصلات المتجهة إلى العاصمة الخرطوم. وربما يكون قد غادر السودان مثل ما فعل بعض الشباب الذين التحقوا بتنظيم داعش، وهو اسم محرّم علينا الحديث عنه أو ذكر أخباره في بيتنا، لأنه تنظيم ملاحق قانونيا من قبل الأجهزة الأمنية.
شهور طويلة مرّت على غياب عماد الموجع وتبقت لي سنة واحدة للتخرج. كان العمل مرهقا داخل الكلية في ذلك اليوم وحين حضوري للمنزل وجدت ضيوفا لأبي وانشغلت مع أمي في تحضير الطعام وإكرام الضيوف. هجعت إلى فراشي بعد العاشرة مساء وأنا في أشد حالات التعب.
صحوت فجأة بعد منتصف الليل على صوت رسالة في هاتفي الجوال. وكانت المفاجأة (السلام عليكم.. في غاية الشوق عماد) قفزت من سريري وركلت الغطاء واستويت جالسة. ثم رقدتُ أتصنع النوم خوفا من استيقاظ إخوتي، ظللت ألهث لدقائق طويلة. ثم كتبت (وعليكم السلام.. حمدا لله إنك بخير.. أين أنت؟).
“أنا في مكان آمن، كامل الإسلام في المجتمع والبيئة، مما يوفر لي الجو الذي يساعدني على خدمة الدين الإسلامي القويم. أنا تحت رعاية التنظيم الإسلامي داعش وأريدك معي على سنّة الله ورسوله وسأدلك على الطريقة التي توصلك إلي).
تنظيم داعش.. يا الله تنظيم داعش، يا الله. إذن فقد تحققت الظنون والشكوك التي دارت حوله فور اختفائه، طنين حارق رفَّ على أذنيَّ، وسياط كالمطارق تضرب عقلي وفكري.
كنت خائفة من أن يصل أحد إخوتي، وخصوصا أختي محاسن، إلى موبايلي ويرى الرسالة. ولكني لم يطاوعني قلبي على مسحها.
هي كلمات عماد الذي أحببته وتمنيته شريكا للعمر ولكن هل أستطيع اللحاق به. وماذا عن الحزن والألم اللذين سيكسران قلب أمي وكيف سيكون حال أبي، والحسرة والحزن يملآن قلبه بعد هروب ابنته. كيف سيواجه المجتمع منكسرا وقد أرادني سندا له وطبيبة ترفع رأسه أمام كل الذين كانوا يعترضون على دفع المصروفات الضخمة التي أثقل بها كاهله في سبيل دراستي للطب.
ذرفت دموعا كثيرة، وعافت نفسي الطعام وتجرّعت دواء الملاريا الذي أحضره لي أبي خوفا من أن يكون ما أصابني هو حمى الملاريا. كان قلقا شديد الخوف على صحتي. أمي تلازمني تمسح جسدي بزيت السمسم والخل وتنقع مشروب العرديب البارد وتجبرني على الشراب منه لأنه كما تقول سيخرج جرثومة الملاريا من المعدة.
كلما ازداد قلقهما ومحبتهما اشتد جزعي وحزني وقد تورمت عيناي من كثرة البكاء. لا يمكن أن أكون سببا في تعاسة أمي وأبي حتى لو فقدت حبيبي وأمنية حياتي في الزواج به إلى الأبد.
فكّرت كثيرا تلك الليلة. ثم نهضت في ضعف من سريري. نزعت جهاز هاتفي الجوال من الشاحن. قلبته، وانتزعت الشريحة. تأملتها في باطن يدي لحظات ثم تناولت المقص وقمت بتقطيعها. لحظات فقط، وكانت بعدها قطعا منثورة. ألقيتها من النافذة إلى الشارع وأنا أراقبها تتطاير في الهواء، ثم نظرت إلى جهاز الموبايل. ترددت قليلا، استجمعت إرادتي ثم قذفت به خارجا بكل ما أمتلك من قوة. وأغلقت النافذة وعدت إلى سريري وصوتي يرتفع بالبكاء، رغم اقتناعي الكامل بالقرار الذي اتخذته.
كاتبة من السودان