نهاية عصر الفضائيات؟
نهاية الثمانينات وبداية التسعينات تبدوان ماضيا بعيدا. في بريطانيا، الدولة المتقدمة، كانت هناك أربع قنوات تلفزيونية. اثنتان منها تتوقفان عن البث عند منتصف الليل. في أرجاء العالم كان البث الأرضي عبارة عن قنوات منفردة لا يراها المشاهد إلا مساء. فكرة البث التلفزيوني على مدى 24 ساعة كانت أشبه بالأحلام. فكرة أنك تستطيع التقليب بين عشر قنوات تلفزيونية كانت تبدو من الخيال العلمي. البث التفاضلي الذي سبق العصر الرقمي كان يجبر شركة تريد الدخول إلى السوق على إرسال تقنيين في التسعينات إلى كل منزل بريطاني. كانوا يعيدون ضبط ترتيب القنوات لكي يكون بوسع أجهزة التلفزيون التقاط قناة خامسة.
الصحون اللاقطة في الغرب بدأت كشيء من الترف. إطلاق قنوات سكاي كان أشبه بالمغامرة. ركزت القنوات الأولى على الأخبار والأفلام، باعتبار أن الخبر والترفيه صنفان من الغذاء العقلي لا يمكن الاستغناء عنهما. مرت بعض القنوات من خلال خدمات بدائية للكيبل. لا أزال أذكر دهشتي في عام 1989 عندما زرنا صديقا في حي وسط لندن لنكتشف أنه يتفرج على قناة دبي. قناة تبث بالعربية في لندن؟ إنها معجزة. سرعان ما لاحظت أن الأخبار قديمة بعض الشيء. اكتشفت أن أشرطة البث المسجلة لكامل بث القناة ترسل يوميا على الطائرة إلى شركة الكيبل لتبثها متأخرة. ما العيب في هذا طالما أننا نشاهد قناة عربية.
ثم تزاحمت القنوات منتصف التسعينات. ومع الاستغناء عن البث التفاضلي المكلف والمحدود، ودخول العصر الرقمي، كانت القنوات تنبت مثل الفطر في غابة رطبة. تراجع الكلفة وسهولة العمل باستخدام التقنيات الرقمية والمنافسة السياسية كانت أسبابا لزيادة عدد القنوات وتنوع برامجها. صار الريموت كونترول قطعة أثاث لا بد منها في أي منزل، وبسبب الازدحام صارت أجهزة الالتقاط تسمح لك بإعادة برمجة تسلسل القنوات ووضع البعض منها في المقدمة أو كقنوات مفضلة أكثر من غيرها.
ثورة الاتصالات بلغت مجدها في العالم، وفي عالمنا العربي أيضا، مع تفجر المزيد من الحروب والأزمات، ومع انفتاح شهية القنوات على شراء الإنتاج الدرامي.
في كل هذه الوفرة كانت ثمة إشكالية بالنسبة للمشاهد. لو تأخرت خمس دقائق في زحمة المرور مثلا أو سهوت عن موعد الأخبار أو بث المسلسل أو الفيلم، فعليك انتظار ساعة أو نصف يوم أو حتى أيام للإعادة، هذا إن كانت هناك إعادة. الوفرة لم تعالج قضية التوقيت. وقد ابتدعت شركات التكنولوجيا حلولا مختلفة، مثل تلك الأجهزة التي تسجل كل البرامج على مدى 24 ساعة وتسمح لك باستعادة ما فاتك. ولكن كم برنامجا وكم قناة يمكن تسجيلها؟ كان الحل متعثرا من البداية ولم يجد صدى حقيقيا لدى المشاهد/المستهلك.
في رمضان، لا يفوتنا المسلسل العربي. هو مباع لعشرات من القنوات. وما فاتك هنا، تلتقطه هناك. ولكن ما تزال تضبط ساعتك لكي لا يفوتك الموعد، خصوصا وأنت تمارس لعبة تقليب القنوات عبر الريموت كونترول.
كان عدد لا بأس فيه من المستثمرين يفكر بالبث التدفقي. لماذا انتظار أي شيء طالما بالإمكان استعادة أي برنامج في أي لحظة نريد. التكنولوجيا كانت متاحة، ولكنها لم تكن بالقوة الكافية، خصوصا في ما يتعلق بخطوط الإنترنت. لكي تشاهد فيلما أو مسلسلا أو استعادة لنشرة الأخبار، كان عليك أن تقبل بصورة ذات نوعية أقل لأن ملفها أصغر ويمكن أن يمر بسهولة أكبر عبر الإنترنت البطيئة نسبيا.
زادت سعة خطوط الإنترنت وزادت شهية الناس للبث التدفقي. دخلت الشركات مجازفة الاستبدال. شاهدنا نتفليكس وأمازون تقدم البدائل وتستقطب الاهتمام. زاد اهتمام المستخدمين بالتقنية وصارت تعامل كحقيقة. يوتيوب زاد من الإحساس بأن بوسعك استدعاء أي ملف فيديو في أي وقت. وإذا كان يوتيوب يعمل الأمر ببلاش وبطريقة بدائية نسبيا، لماذا لا تتوجه الناس إلى المحترفين في نتفليكس؟ مبلغ شهري قليل وتبدأ بمشاهدة الكثير من الأفلام والوثائقيات والمسلسلات.
النقلة الأخطر كانت تحول نتفليكس وأمازون من موزع للبرامج إلى منتج لها. هوليوود تدفقية على شاشة الكمبيوتر وتلفزيون البيت؟ ماذا تكره من هذه الخاصية؟ قنوات سكاي الجبارة لم تخط مثل هذه الخطوة واكتفت بشراء الحقوق وإعادة توزيعها عبر البث الفضائي. إنتاج المحتوى صار ملكا متوجا على صناعة الترفيه.
النقلة الأكثر خطورة بالمطلق هي أن تذهب القنوات التلفزيونية التقليدية، الأرضية والفضائية، إلى منصات أمازون مثلا وتطلب منها أن تبث من خلال شبكة مشتركيها. الأقمار الصناعية بدأت تخسر زبائنها. شبكات التوزيع عبر الكيبل في الولايات المتحدة وحول العالم تنزف مشتركيها بمئات الآلاف كل شهر.
مرة أخرى نقول إنه عصر جديد. قلناها قبل سنوات قليلة ماضية حين وصفنا عصر الفضائيات، لكن عصر الفضائيات على وشك الرحيل وها نحن نعود إلى الأرض.