أخلاقيات الاعتراف
يتطلب أدب الاعتراف مسؤولية مشتركة بين الأنا والآخر، الأنا الساردة والآخر المتلقي، فبمجرد دخولي في علاقة مع الآخر من خلال قراءة اعترافه فإن ذلك يتطلب تأملا وطلبا وتعاطفا وأن أقنع بأنه بإمكاني فقط الاستجابة عبر التضحية بالأحكام المطلقة والأخلاقيات الجامدة في الحكم على الكاتب. فإذا كانت الذات الساردة تقدم التضحية بكل شيء مع تحمل المسؤولية من خلال لحظة صادقة في الكتابة فيجب على الأنا القارئة أن تكون أحكامها على الآخر ليست أحكاما تعسفية. ولكي يحدث ذلك لا بد من عدة مراحل من الأنشطة التفسيرية لفهم ذلك النوع من الأدب، سوف أقترحها هنا وأسوقها في هذا البحث.
أولاً، لا بد أن نلتقي مع السارد منذ البداية كما لو كنا على طريقنا لرسم خريطة ما على مكان مجهول، أي أننا نعلق أحكامنا الأخلاقية جزئياً في ظل إحساسنا التعاطفي مع الجو النفسي والانفعالي والاجتماعي والفيزيائي لتلك الذات الساردة.
ثانياً: السعي نحو الفهم، وذلك من خلال سد الفجوة بين ما يقصده الكاتب وبين ما تعنيه الكتابة أو النص. بمعنى أن الكتابة خلاف التحدث، فالكاتب بعد أن يكتب لا يمكنه التدخل أو التصحيح أو التعديل، فهو لا يستخدم الإيماءات أو تعديل طريقة توصيل المعنى، وبذلك فلا بد ألا تقفز إلى المعنى بشكل مفاجئ لأن ذلك سوف يظلم الكاتب، وكما يقول ريكور “إن ما يقوله النص قد يعني ما لا يقوله الكاتب” ولذلك لا بد أن نقف عند الأبعاد السيكولوجية المحددة لمحيط المعنى من قبل المؤلف.
ثالثاً: إننا نقاوم الاعترافات التي تعكر صفو إحساسنا وذلك ما يطلق عليه إليوت وبوند “ضد التسامي” Anti- Semitism، إلا أننا ننسى أن مثل هذه النصوص قد تطرح تساؤلات جديدة وقد تسمح بإعطاء معان جديدة لخبرتنا وأسلوبنا في الوجود في العالم. يقول أوسكار ويلد في اعترافاته “بالنسبة لهذا النوع من النصوص فهو يعبر عما هو واقع بالفعل وليس ما ينبغي أن يكون، ومن ثم فإن هناك معايير جديدة للحكم على ذلك النوع من الأدب”.
رابعاً: كذلك تثار قضية “الصدق” في أدب الاعتراف وذلك ما يطلق عليه ليفيناس “levinas” “دراما العقدة والتسامح” وهذا ما يظهر في كتابة نصوص الاعترافات والسير الذاتية، حيث تنشأ هذه الدراما من الصراع الذي يدور بين الذات الساردة والمؤلف، حيث يكون المؤلف هو موضوع الكتابة فيكتب عن نفسه وهنا تثار إشكالية “الصدق” لدى المؤلف بالنسبة للقارئ، فهل يكتب المؤلف ما هي عليه ذاته بالفعل أم يكتب ما يود أن تكون عليه ذاته؟
في الحقيقة أنه في كثير من الأحيان يكتب المؤلف ما يود أن يكون لا ما هو عليه، بمعنى أنه في بعض الأحيان يحاول أن يتجمل أو أن يجعل نفسه ضحية لحماقات الغير أو للقدر المحتوم سلفاً أو حتى لعدم المعرفة والإلمام بالأمور، وهنا يقف القارئ حائراً ومتردداً من الذات الساردة ومن المؤلف، فإلى أي طرف منهما ينحاز، خاصة أن القارئ في هذه الحالة لا يكون على بينة من الحقيقة؟
يقدم الكاتب الإيطالي إيتالو سفينو ItAlo Sveno الحل في كتابه “اعترافات زينو” “Con Fessions of Zeno” حيث لا توجد ذات واحدة وإنما هوية جمعية “الذات من الآخرين”. ومن هنا فإن سخرية زينو تنبع من عدم وجود ذات منفردة يمكن أن تنبثق من اعترافاته.
فالعلاقة بين ما يكتبه المؤلف وبين ما يكونه يمكن أن تأخذ شكل السخرية أو التعالي على الموقف، أو حتى تحقيق الحلم، أي استكمال النقص الذي يشوب الواقع، فالمؤلف هنا يمكن أن يحقق ذاته على الورق عن طريق الخيال، والكتابة هنا لا تعد وجوداً، وإنما صيرورة وهو ما عبر عنه ليفيناس قائلاً “اكتب فقط لكي أصير” I Write only to become.
والمسؤولية التي تقع على القارئ هنا هي مسؤولية استيعاب للموقف، وصفح عما بدر عن المؤلف من تجاوز، فالأخلاقية هنا تستوجب عدم البحث في أوجه القصور الذاتية التي حاول المؤلف إخفاءها، ولكن التسليم بما يورده وكأنه الحقيقة خاصة إذا كانت التجاوزات لا تمس حقائق علمية أو تاريخية أو دينية أو أشخاصا يتحدث المؤلف نيابة عنهم، لأن كتابة الأدب لا يمكن الحكم عليها بالصدق أو الكذب.
ولكي تتحقق هذه المسؤولية الأخلاقية ينبغي التخلص من عقدة “الخوف من الآخر”، إنها السبة التي تهدد العالم بصوت مداهن وغير واضح.
وهنا يمكن استدعاء قول سيلان الذي أطلقه في الثلاثينات من القرن الماضي “احتفظ بأصدقائك قريبين، وبأعدائك على نحو أكثر قرباً”.
إن البديل الوحيد لهذه العقدة تبني مقولة الاختلاف التي يؤدي الإيمان بها إلى قبول “الآخر”، قبوله على علاته سواء كان رجلاً أم امرأة، يحمل أيديولوجيا رأسمالية أو شيوعية، يدين بالإسلام أو بالمسيحية أو باليهودية، فقبول الآخر إنما يعني احترام إنسانيته في المقام الأول وبغض النظر عن نوعه أو أيديولوجيته أو دينه وطبقته الاجتماعية.
وبهذا المعنى ينبغي للعلاقة بين السارد والقارئ أن تتأسس على التعاطف لا على تصييد الأخطاء وأن يتخذ الاعتراف شكل الحوار الذي يطرح فيه القارئ تساؤلات دائمة ويقوم السارد بالرد عليها من خلال النص، وعلى ذلك يقف القارئ على قدم المساواة مع المؤلف مع التسليم بغياب الحقيقة المطلقة أو الأحكام المطلقة مثل (مذنب، مجرم، جاهل، أحمق…إلخ) وفي المقابل تبني الحقيقة المشتركة التي يساهم في صنعها جميع الداخلين في الحوار، أي جميع القراء بالإضافة إلى المؤلف الأصلي صاحب الاعتراف، وهنا نعود إلى فكرة الهوية الجمعية، فكل قارئ لديه قدر من الحقيقة التي يكشف عنها خلال قراءته للنص وتحاوره مع المؤلف وبهذا المعنى يظل المعنى النهائي والحقيقة الكاملة حدثاً مرجأً بلغة دريدا نقترب منه ولا نصل إليه أبداً.
خامساً: تثير قضية النوع في أدب الاعتراف جدلاً كبيراً وذلك من خلال التمييز النوعي بين الرجل والمرأة، وقد أكد ليفيناس أن قضية النوع واحدة من أهم مشكلات ذلك النوع من النصوص، صحيح أن النزعة الذكورية تختلف عن النزعة الأنثوية، إلا أن الاختلاف الجنسي لا ينبغي أن يكون هو المحدد لاستجابة القارئ أو أن يكون له تأثير في تقييم النص أو مضمونه، حيث يناقش ليفيناس تداخل قضية الأنا مع الآخر من خلال منظور آخر وهو علاقة الذكر بالأنثى في ذلك النوع من النصوص.
ثقافة ذكورية
وتتضح هذه الإشكالية بنحو أكثر في الثقافة العربية التي تغلب عليها النزعة الذكورية. فما زال الرجل الشرقي يختزل المرأة إلى محض الجسد، ولا يرى فيها سوى موضوع الغريزة، متغافلاً عن كونها كياناً إنسانياً مكتمل العناصر، له عقل وروح مثل الرجل. ووفقاً لهذه الرؤية المتعسفة يميل القارئ الرجل إلى التلصص على الأسرار الحسية المخفية في النص الأنثوي، باحثاً عما يمكّنه من اختراق خصوصيتها، محققاً لذة ذكورية من شأنها أن تحول العلاقة بين النص والقارئ إلى شكل من أشكال الممارسة الجنسية على مستوى الخيال.
وتختلف اللذة المتحصلة هنا عما أسماه بارت بـ”لذة النص”، لأن اللذة هنا، وإن كان مبعثها النص إلا أنها لذة حسية تنجم عن وعي القارئ الرجل بأن مؤلف النص امرأة مكتملة الأنوثة، تنتشر أنوثتها في حنايا النص ويتنسم القارئ عطر غوايتها الفواح من بين السطور. أما لذة النص البارتية فهي ناجمة عن العناصر الجمالية التي يودعها المؤلف في النص حتى لو كان رجلاً. فالمؤلف هنا يموت -بمصطلحات بارت- وتتم إزاحته من أمام النص الذي يحل محله ويمارس حياته بمعزل عنه، بينما يظل المؤلف /الأنثى على قيد الحياة، حاضراً بقوة في وعي المتلقي/ الذكر على حساب النص الذي يتراجع تاركاً الساحة لجماليات من نوع خاص، تغذي الحس وتغلق أبواب العقل والروح.
فحقيقة القارئ العربي -فيما يرى عبد النور إدريس في مقالته “الوعي بالكتابة في الخطاب النسوي”- كانت تشي باهتمام ينصب على ما قد تثيره المرأة الكاتبة في كتابتها من حالات نسائية جريئة، وخاصة المتعلقة بالجانب الإباحي الذي تستطيع فيه الكاتبة الدخول إلى أعماق الجسد والتقاليد والأعراف لتشريح المجتمع وكشف عوراته. والمفارقة أن القارئ هنا انتقائي يحاول ترصد وصف الكاتبة للمشاهد الجنسية والأيروتيكية التي تشرح العلاقات الحميمية بين الرجل والمرأة وتكسيرها للقيود الاجتماعية، كي يطالبها عند نهاية الاستمتاع بالقراءة بأخلاقية للكتابة، ويضعها تحت المساءلة والقيود الأخلاقية والاجتماعية وهي قيود مرتبطة بكينونة الكاتبة كأنثى والتي يعمل المجتمع على تعزيزها بشكل آلي.
والحقيقة أن المسؤولية لا تقع فقط على القارئ / الرجل وما يحمله من نظرة ذكورية من شأنها أن تظلم الإبداع النسائي وتحصر المرأة الكاتبة في خانة ضيقة، لكن تقع المسؤولية أيضاً على المرأة التي تقدم على الكتابة. فلكي تتحقق أخلاقية حقيقية لأدب الاعتراف النسائي ينبغي أن يتم اقتسام المسؤولية بين الكاتبة والقارئ. فإذا كان للمرأة خصوصية تنعكس بالضرورة على إنتاجها الإبداعي، فلا ينبغي أن يكون هناك تواطؤ أو مراوغة من قبل الكاتبة التي تعي سلفاً طبيعة النزعة الذكورية لدى القارئ الرجل، فتلعب على هذا الوتر الحسّاس من أجل تحقيق مكاسب مادية أو معنوية على حساب الإبداع الأصيل.
إن المتتبع للمنجز الإبداعي للمرأة العربية -فيما يرى جمال قصوده في مقالته “الكتابة النسوية وسلطة الجسد”- في السنوات الأخيرة يكتشف أنه مسكون بهاجس الجسد، فهو لا يغادر فلكه إلا ليعود إليه مجدداً في الشعر والرواية. ربما يعود هذا إلى مغريات النجاح وهاجس الانتشار، فمجتمعاتنا العربية مجتمعات مكبوتة تميل كثيرا إلى الإيحاءات الجنسية وإلى الجسد كجسد أنثوي وتميل إلى حضوره أيضاً بداخل النص. من هذا ستحقق كل كاتبة -في ظل مجتمع ذي ثقافة ذكورية- نجاحاً قياسيّا لا بفضل جمال نصها أو جدته وطرافته، بل بجرأتها والإيحاءات الجنسية الواردة فيه. وهي في الحقيقة لا تحقق لنفسها الحرية التي سعت إليها في ظل الثقافة العربية الذكورية المتسلطة بقدر ما تمعن في عبوديتها بهذا الفعل.
خلاصة القول
ومجملاً، يمكننا القول إن أدب الاعتراف له أهمية كبيرة في واقعنا الحالي لعدة أسباب منها أن لحظة الاعتراف هي لحظة أخلاقية صادقة يتم فيها تعزيز (الأنا- الآخر) في ذات الوقت فتصبح الأنا القارئة والكاتبة أكبر وأقيم مني، إنها الأنا الخارجة عني والتي استوعبتني بكافة ظروفي ثم خرجت لتُبدع وتنقل التجربة إلى الآخر وهي أثناء خروجها تكون محملة بكل خبراتي وأحلامي وآلامي ونجاحاتي وإخفاقاتي وثباتي وحماقاتي، ورغم ذلك هي لا تخجل من أن تنفصل عني لتكشفني ثم تعود إليّ مجدداً محملة برؤية وكشف وإبداع، فهي تشبه الشك الديكارتي:
أنا أعترف
إذن أنا يقظ
أنا يقظ إذن أنا موجود.
إن لحظة الاعتراف مهمة جداً في برهتنا الحضارية الراهنة فهي تجعلنا نعدّل من منظورنا ونرى من خلال منظورات جديدة، إنها الأحداث الواقعية وليست العوالم الخيالية، إنها الوجود الحقيقي للتجربة الإنسانية المعيشة بلحمها ودمها، فأن يقدم لي المؤلف بطلا قد وقع في الخطيئة شيء، وأن يعترف لي بأنه هو ذاته من وقع في الخطيئة شيء آخر.
إنها لحظة صدق ولحظة تلاحم الإنسانية وانصهار الأنا في الآخر، الأنا الساردة في الأنا المتلقية، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة التأمل الذاتي للقارئ والتحليل التعاطفي الذي يصل إلى الذروة في المرحلة الأخيرة وهي مرحلة تفسير النص والتي لا تهدف من خلالها إلى تقييم الأداء بالخير أو بالشر، بالإيجاب أو بالسلب ولكن تهدف إلى استشعار بعضنا البعض، فيصبح الاعتراف بالنسبة للسارد بمثابة التطهير وللمتلقي بمثابة المشاركة والتضامن والتعاطف واستدعاء قيم الآخر في حياتي والتعلم والتسامح.