كتابة الذاكرة
في الصفحة الأولى من رواية محمد برادة “مثل صيف لن يتكرر” التي سمّاها “محكيات” يورد نصا لفيرناندو بيسوا يقول “الذكرى خيانة تجاه الطبيعة لأن الطبيعة بالأمس ليست طبيعة، ما كان ليس شيئا وأن نتذكر معناه ألا نرى” (ص 5)، أعدت النظر كثيرا في دلالة هذا النص الوارد في مستهل متن روائي مبني على لعبة التذكر، هل معناه أن ما سيقبل القارئ على قراءته ليس حقيقيا؟ أم أن وجوده مرتبط فقط بما تقوله المفردات الحاملة له؟ أم أن الذكريات في النهاية هي مجرد وهم أو خدعة لكتابة تصطنع لنفسها حيوات محتملة في الماضي؟
والحق أنه يمكن أن تكون كل تلك الافتراضات صادقة في التعبير عن جوهر كلمات بيسوا بصدد الذكريات، إنما ما يبدو مؤكدا في النهاية، هو أن لعبة الاستعادة لا تعني شيئا متصلا بوقائع منتهية، يجتهد الذهن في انتشالها من بيضات زاحفة على خلايا الذهن، بقدر ما تتصل بطاقة “التخيّل” الذي لا وجود لذكريات دونه، ولا تحقق للروايات بغيره؛ التخيل جسر ووعاء، وهو ما يحوّل الذكرى إلى تحقق لفظي له كنه الرومانيسك، ويمنح الوقائع القديمة المتداعية إلى الذهن تقاسيم وألوانا ومعنى. فليست الذكريات هي ما وقع بالأمس أو في اليفاعة أو ما قبل تعلم الكلام، هي صورتها الحريفة أو العذبة كما يدركها الروائي وهو مقبل على تحويلها إلى قاعدة في امتداد تخييلي له طعم وعمق وقصد جمالي.
في الصفحات الأولى من سيرة نيكوس كازانتزاكيس “تقرير إلى غريكو” يخاطب السارد قارئه بنبرة أسيّة عن أفول الذاكرة، يقول “كل ما كتبته أو فعلته كان مكتوبا أو محققا على الماء، وقد تلاشى. إنني أوقظ ذاكرتي لأتذكر. أحشد حياتي من الهواء” (ص 12). ليسترسل بعد أسطر قليلة وكأنما في تبرير عمله الأخير “أجمع أدواتي: النظر والشم واللمس والذوق والسمع والعقل. خيّم الظلام وقد انتهى عمل النهار. أعود كالخلد إلى بيتي الأرض. ليس لأني تعبت وعجزت عن العمل، فأنا لم أتعب، لكن الشمس قد غربت” (ص 13). إذن هل الكتابة إلا نفي للعدم الذي صارته حياتنا الماضية؟ محتمل، وربما أيضا هي تجميع للمبدد المتبخّر عبر الهواء ولزوجة السديم المكتف لما انقضى، عبر إعادة نحت الأثر بالكلمات، الأثر القادم من ذاكرات الحواس كلها، تلك التي يستجمعها الذهن ماحيا أصولها الحسية المرتبطة باليد والفم والأنف واللسان بمصادرة لا تبدو طبيعية، أليس الرهان في النهاية هو اختراق هشاشة الذكرى بمنحها صلابة الشيء المحسوس، الذي نفذ أثره إلى عمق الحواس؟ ومن ثم تجميد الماء المفترض لتتجمع في عمقه الشفاف شظايا المعنى الثاوي في قعر الذاكرة. أستحضر هنا حكاية النحات الذي صعقته ملاحظة ناظر إلى تحفته، حين علق “لم أكن أعتقد أن الصخرة كانت تخبئ هذا التمثال”، هي الذاكرة والذكريات ليست شيئا إلا قدرتنا على نحتها من جديد.
التذكر تصفية للماضي
في رواية الكاتب اللبناني رشيد الضعيف الأخيرة “ألواح” وهي نص سردي عن تفاصيل من حياة الكاتب الطفولية عن الأب والأم تحديدا ومسار القدوم إلى الشيخوخة، يتحدث الروائي كعادته مستعملا اسمه الحقيقي “رشيد” في وسم البطل، ليضيف هذه المرة الاسم العائلي “الضعيف” في لعبة ملوّعة أخاذة للقارئ، ولإيهامه مجددا بأن ما يجري يشبه إلى حد ما حقيقة ما كان، وأنه هو وليس هو تحديدا، ظل أو نسخة قادمة من العدم الذي صارته الذكريات، في ثنايا إحدى الفقرات يقول السارد ما يلي “تذكرت وأنا أكتب… عبارة كتبتها أوائل الثمانينات، هي: كل من قال قتل. وقصدت بها أن كل إنسان قاتل وإن كان غافلا عما فعل” (ص 18).
لم يكن رشيد الضعيف يفكر بعيدا عما يفترضه الخطاب من تصفية للإيحاءات والاستيهامات، تصفية بمعنى الإعدام والغربلة، في الكتابة، وبالتحديد في فن الرواية، إذ يسعى الروائيون عادة إلى تصفية الحساب مع الذات والمجتمع ومع الماضي والحاضر، عبر تنقيح الذكريات وتركيبها داخل نسق له منطق الحكاية، ذلك ما قام به فلوبير مع “إيما” حين قال في لحظة اعتراف مدهشة “أنا هو إيما بوفاري” وهو ما قام به دوستيوفسكي مع شخصيتي الأبله والمقامر، اللذين كأنهما صوّرا بمصفاة موضوعة لكي تعدم الأصل داخل اللغة والتخييل، وتمحوه من الذاكرة والحياة.
يمكن في عشرات الروايات أن نقف على الجوهر الشخصي الممتد في نسوغ الضمائر والحوارات والمشاهد والمواقف والأفكار والتأملات، حيث تشتغل الرواية كمصهر لشظايا منسية أو مهملة وتحتاج الذاكرة للتطهر من ثقلها، لهذا ليست حالة عادية تلك التي تنتاب الروائيين بعد الانتهاء من أعمالهم، عندما يحس عدد كبير منهم أنهم بصدد الانتهاء تماما من الكتابة، ولن يكون بإمكانه بعد ذلك إنتاج شيء جديد، وأن العقم مقيم… وهي حالة قد تمتد لسنوات مثلما حدث مع نجيب محفوظ حين اعتقد في لحظة ما أن رحلته مع الرواية انتهت ومن الواجب أن يبحث له عن عمل جديد، فتفرغ لكتابة السيناريوهات، وهو ما حدث مع عشرات آخرين ممن اختاروا التحول من الرواية إلى التشكيل أو الفوتوغرافيا أو النحت، وأن يراوحوا بينها، من هنري ميلر إلى أورهان باموك إلى طاهر بن جلون وإبراهيم نصرالله.
فتن الذكريات ولوعات الذاكرة
لكن ثمة مسافة بين كتابة الذاكرة وكتابة الذكريات، نحن نكتب ذكرياتنا بإحساس الحبور، ونزعة إلى استعادة لحظات وفضاءات وشخوص وأحاسيس هاربة، نكتبها حتى لا تضيع في ردهات النسيان، وحتى تمنحنا طاقة العيش، حتى حين تلتبس بمشاعر أسيّة فاستعادتها أدبيا تحولها إلى مجال رومانسي، التخيل يركبها في مساقات الهنا والآن، لتولد من جديد مرفقة بدهشة الاستعادة، ذلك ما تؤكده روايات عدة حتى لا نتحدث عن سير ومذكرات ورحلات يصقل فيها التخيل ما علق من صدأ في الذكرى المضيئة، هكذا كتب غارسيا ماركيز “ذكريات غانياتي الحزينات”، بهدف تخليق الظلال وإعادتها إلى الشيء المحسوس، أمر لا علاقة له بسيرته “نحياها لنرويها” ولا بـ”تقرير إلى غريكو” لكزانتزاكيس، ولا بـ”خارج المكان” لإدوارد سعيد، ولا بـ”المذكرات المضادة” لأندري مالرو.
الذكريات الروائية تنبع من الطفولي الهارب والمسكون بسعادة ملتبسة، بينما نكتب ذاكرتنا حتى ننسى الوجع، وللإحساس بالتطهر والتخلص من مشاعر أسيّة، للذاكرة طبيعة الجرح فما يستوطنها قاس، لهذا كانت كل كتب الاعتقال والنفي والتهجير والمرض المزمن والاحتلال تسمى روايات الذاكرة، أذكر في هذا السياق أن عشرات المقالات والبحوث التي كتبت عن الرواية المغربية كانت تصف منتصف التسعينات وبداية العشرية الأولى من القرن الحالي في مسار تطور الرواية المغربية بمرحلة الاشتغال على الذاكرة، في تلك المرحلة صدرت روايات المعتقلين السياسيين السابقين ومن عاشوا تجارب الاختطاف والتعذيب، من عبداللطيف اللعبي إلى عبدالقادر الشاوي مرورا بعشرات آخرين، أو روائيين اكتفوا بإعادة صياغة تلك الذاكرة الموجعة دون أن يكونوا جزءا من التجربة من مثل ما قام به أحمد المديني ومحمد برادة والطاهر بن جلون. حيث تستحضر الذاكرة هنا بهدف تصفيتها وتحويلها إلى شهادة إدانة.
لا أظن أن كاتبا اختار حقل الرواية لمجرد البوح أو إفراغ ما يثقل الذاكرة، فالرواية عيش بين ظلال الآخرين، واسترسال في كتابة بدأت منذ مئات السنين، لكن الرواية على الأقل تضمن حرية الخروج، في لحظة ما، من تقاليد المنجز إلى احتمالات تخص إرادتنا الشخصية، هنا بالذات يمكن أن نقرّ بأن لا كتابة روائية دون معين خصب ينبض بالذكريات.