فتاة الاستعلامات
عهدي بها وهي تعمل بالسكة الحديد وديعة، طيبة، رقيقة، مهذبة، هادئة الوجه، بيضاء، عسلية العينين، ملفوفة القوام، وكأن عظامها من خيزران، ناعمة الصوت والملمس، حلوة الطبع، حسنة الخَلق والخُلق. أتذكر وأنا طفل صغير، كانت تلعب معي، تجري خلفي، وما أن تلحق بي حتى تضمني بين زراعيها العاج إلي صدرها المرمر ثم تعبئ جيبي بالحلوى. وحين تغفل عني أقبلها، وأجري، فتجري خلفي، وهي تضحك، تمسكني، تضمني مرة أخرى. وكانت تدغدغ مشاعري الصغيرة بين يديها الحاسرة، فيهتز قلبي طربا، وأفرح.
أرهلتها المفاجأة، واتسعت عيناها دهشة، لحظة أن رأتني، واقفا أمامها وقد كبرت، وصرت طالبا جامعيا، حدقت في ذهول، صوبت النظر إليّ، وصعدت، وعيناها مرتجفة، وعلي وجهها شيء غريب يشبه صمت المقابر، ومِسحة “ميكياج” خفيفة ترمم وجنتيها لكي تصلح ما أفسده الدهر، حينها ابتسمت، فتفتحت كل الذابلة، علي وجهها المخملي واختفت بصمات الزمن، حتى كادت تتلاشى تماما، اشتكت لي، وبكت، بصوت حزين، وروت لي ما كان من قرانها، وكيف باء بالفشل، وأيضا عن الذين يحاولون الاقتراب منها، طمعا في أنوثتها، وكيف كانت نفر وتفر في وجوههم جميعا، ومن يحاول أن يدنو منها، أو يقترب، أو حتى من تحدثه نفسه بأن يستخف ظله، ودمه، تلقنه درسا في الأخلاق، لم ولن ينساه، وتجعل منه عبرة لمن يعتبر.
وظلت تحكي، وتحكي، وراح شيء ما يتسلل بداخلي، يشدني نحوها، ويجذبني بقوة هائلة، خفية، لست أدري ما هي. ربما يكون حنينا للذكريات وأيام الصبا، ذلك الماضي الجميل. أو ربما يكون تعاطفا معها، أو حبا، أو شيئا آخر لا أدري بالضبط ما هو.
وقفت أفكر، وأنا أستمع لصوتها الموسيقي، العذب الجميل. وأنا مشدوها، مجذوبا لها بطريقة غير عادية. وسألت نفسي: أي سر فيها يجذبني إليها هكذا؟ نعم، أنا أعرفها جيدا، لكن كل هذا ليس مبررا لسر اهتمامي المتزايد بها يوما بعد يوم! مسكينة، لطالما كانت تحلم ببيت صغير وأطفال تهب لهم حياتها، في كنف زوج يقيها غوائل الدهر، لكن الحياة ضنّت عليها، حرمتها من أبسط حقوقها. والدنيا لم تبتسم لها في يوم من الأيام، حتى تسعد بما تبقى من عمرها الذي أنفقت منه الكثير في انتظار العدل. ابتسمت لها، فأمسكت عن الكلام، وأطرقت تفكر. ثم هزت رأسها غير مصدقة ما ترى، وراحت تهزني من بين كتفي، حتى تتأكد أني حقيقة، واقفة أمامها.
ــ معقول، أنت!
أمسكت يدها الناعمة، حنوت عليها. فأنا الوحيد الذي يستطيع أن يفعل ذلك، ويكلمها، ببساطة، ومن دون تكلف. وكنت أحجز لها في القطار بجواري وربما في بعض الأحيان، أمسكها من يدها العاج، البضة، أمام الناس، وأناديها باسمها مجردا، فتضحك كالربيع حين يقبل، وهي مقبلة كالنسيم. وتقول:
ــ أنت أتجننت! تناديني باسمي، هكذا أمام الناس؟
فأجذبها من يدها لتجلس بجواري. نتبادل قطائف الحديث، وقلبي لا أستطيع أن أتحكم في ضرباته المتلاحقة. وأحس بأن رأسي اصطدمت بالسحاب.
وفي أيام كثيرة، عندما كنت أعود من الكلية، أجيئها، أقف أمامها في صمت. وأظل أنظر إليها من النافذة الزجاجية، متكئا على الحائط الرخامي، محتضنا دفتري بين ذراعيَّ، أتفرس فيها، وهي لا تشعر بوجودي. وحين تنتبه للمفاجأة، تصيح كالطفل، فيتلألأ وجهها كالبدر وهي تسألني في ارتباك لذيذ:
ــ كيف جئت، ومن أين، ومنذ متى وأنت هنا؟
حبل من الأسئلة أقطعه بسؤالي المعتاد عن القطار الذي سيقلنا. تهز رأسها مغتبطة، تطرق هنيهة، تفكر. تخبط بالقلم فوق دفاترها، التي على المكتب، ترفع رأسها ببطء، فتلتقي العيون الحائرة. ألتهم ملامحها ذات العذوبة، فأذوب شوقا وتوقا. تهرب عيناها سريعا، في وجل، فأومئ برأسي لها مبتسما وأنصرف.
أقف على الرصيف المزدحم كيوم الحشر بالركاب. أسمعها في المذياع تعلن عن القطارات المتأخرة، والتي في معادها. يجيء القطار، أقفز في جوفه قبل أن يتوقف عند الرصيف. أجلس بجوار النافذة، أرقبها من بعيد، وهي قادمة تتلفت ذات اليمين، وذات الشمال باحثة عني. أناديها، فتنتبه، تقبل نحوي مسرعة متهللة الوجه، مستبشرة. تجلس بجواري، نستأنف الحديث، الذي لم يكتمل بعد، والذي قد يكون هو سر اهتمامي بها. أنظر في عينيها، فلا أشعر بالزمن. يسرقنا لوقت إلى أن نصل.
كاتب من مصر