هذا الشاعر
يسع القارئ أو المتابع أن يلاحظ كيف أن معظم المقالات والعجالات التي دُوّنت في الذكرى العاشرة لرحيل اللبناني بسّام حجّار (1954 – 2009)، مع إصدار أعماله الشعرية الكاملة (دار الرافدين- العراق، ودار التكوين – الكويت)، بقيت في دائرة الوجدانيات والعرض العابر، وربما إعادة اكتشاف الشاعر من بعض الكتّاب الجدد، والتركيز على أمور قيلت سابقاً، كالحديث عن تجربة الشاعر الصحفية والعزلة الدائمة “خيانة الترجمة” وكتابته المكثفة عن الموت والمزارات والحيز الضيق للقاءات، على أن الكمّ الكبير من المقالات التي نشرت عن حجّار تشير إلى مدى انتشاره لدى المهتمين بالشعر من المواطنين العاديين أو من الشعراء والكتاب.
ربما تكون الفكرة الأكثر دقة ونقدية التي تطرقت إلى تجربة الشاعر ما كتبه الباحث وضاح شرارة بعنوان “بسّام حجّار المثنى”، وما كتبه الشاعر العراقي محمد مظلوم عن “حياة الأشياء وموت الأحياء”، ومن خلالهما يمكن الانطلاق والغوص في مكنون تجربة صاحب “صحبة الظلال” و”معجم الأشواق” و”كتاب الرمل”وكينونته التي يقولها الشاعر نفسه في حواراته القليلة التي كان أجراها معه بعض الصحفيين، ففي أحد حواراته لجريدة “السفير” قال “أنا أحيا في مدينة ساحلية (صيدا) لا تشبه المدن في شيء. كي أحيا في المدينة التي أريد، اعتزلت كل نطاق خارج شقتي الصغيرة. فالشيء الوحيد الذي ابتكرته ربما هو وهمي بأني أحيا في الحيز المحذوف، وأني أحيا ما أريد في رأسي، وفي النطاق الذي يتيحه لي جسدي”.
وفي حوار لجريدة الحياة قال”أنا لا أكتب إلا وفي ذهني شخص ما يحثني على الكتابة أو شخص ما يدفعني إلى المخاطرة في التعبير له عن أحاسيس، لا أستطيع أن أكتب أحاسيس مجردة. حين أكون في حال عزلة وهذا إحساس عميق أكتب عن العزلة، حين أكون عاشقاً ولا أراني لحظة في حياتي غير عاشق أكتب عن هذا العاشق لشخص ما محدد وليس في المطلق. عندما أختبر تجربة الموت فهناك دائماً شخص يموت ويدفعني إلى الكتابة”.
هو خلال مسيرته الشعرية الميتافيزيقية كتب “حياة الآخرين، والآخرون كتبوا حياته”، كان في الأجواء اليسارية في بداياته، لكن كتاباته كانت أقرب إلى الأجواء الهايدغرية، وهو “شخص في لوحة إدوارد هوبر”، انتمى إلى كتابته التي حذف بها الوقت، وأنسن الأشياء وروّضها في لغته وحمل إليها حياتها وتنفسها، وحفظها ومنعها من التبدد الذي هو نصيبه. فالأشياء توكلت جمع آثاره “سوف تحيا من بعدي، سوف تحيا الأشياء ولا يزول منها إلا العرض الذي رأته عينا الرجل الذي كان هنا لا يزال، العرض الذي أقمت فيه أعواماً هي الأعمار كلها (من “مجرد تعب”)”.
أعاد بسّام حجّار تشكيل العالم مراراً وتكراراً. العالم المقيم على مزاعم اللبس والغموض وهوامش الحياة. حفر حجّار في ثناياه ونبش ركامه وأحوال النوم والضوء والهواء والنسيان والطيف… إنه شاعر اللحظة العابرة واللطيفة والمفعمة بالأحاسيس والهشة الحنونة. قال “ليس بوسعي أن أكون شبيهاً به، لأن لا مظهر ولا هيئة لي. كان وسيماً مستقيم القامة إلى نحول، عصبي المزاج والحركة. وكنت أحاكي حركاته وسكناته، ثم غادرني” (نص “حكاية الرجل الذي صار ظلا”)”.
أحصى بسّام حجّار مفرداته القليلة، بـاثنتي عشرة مفردة هي “أثر، غريب، مفردة، درب، حكاية، ظل، أبي، صحراء، رمل، بئر، كتاب، معجم”، وشعره أو كتابته بين الأثر ، أي بقية الشيء، والتأثير، إبقاء الأثر في الشيء. بين الاشتقاق والإيحاء، واشْتِقاقُ الكلام “الأَخذُ فيه يميناً وشمالاً” بحسب لسان العرب، وقال الزجّاج يقول أهل اللغة في آدم إن اشتقاقه من أديم الأرض لأنه خلق من تراب، فهل نقول في اشتقاق الشعر إنه خلق من أديم اللغة، وفي التيمة ذاتها، الإيحاء في شعر حجّار خصب، إذ حفر الشاعر نفق المفردة المظلم وخلّف وراء ظهره القصيدة وضوءها وظلها.
وهو كان يبرر مفرداته القليلة قائلاً “معجمي ضيّق لأن اللغة أوسع من أيّ حياة” (جريدة السفير). هكذا وجد الشاعر في الصورة مرآة لشعره في الظل ومرآة لنفسه، وللأحوال التي نظر إليها بمفرداته القليلة، كونه خشي الوفرة والاتساع. لكن المفردات القليلة محبوكة في سياق تفاصيل دقيقة ومعان دقيقة “جوانية” تجترح الغرائب والعجائب.
حفر المفردة بالقول السهل، وفي كل قصيدة كرّر الشاعر بياناً عن إرادة الشعر. هكذا خشي حجّار الوفرة وأقام في “مزاج اللبس والوضوح، على العتبة عند المفترق من كل شيء”، لم يصدق من الرواية إلا شتاتها، وانطلق من عالم قوامه المنزل وأشياؤه، النافذة وأكاذيبها أو حكمتها، الباب وتعابيره، أو كتب ما يطلّ على المنزل من زوايا الشارع وأقداره المستترة. احتفى بالبيوت لأنها نقيض الشوارع المشرعة على الكوابيس والصدمات والأحوال الصاخبة.
يميل حجّار في عالمه الشعري إلى تصغير العالم، إلى حجم جورب أو ظل أو حجر، ويجد في الأثاث والأشياء أقنعته وفواجعه وأسراره ومحطاته المطابقة لوجدانه وعزلته الوحشية. فهو ضيف بين الأثاث المنزلي وخائف منه، قريب منه وبعيد عنه، يجد بيته كيانه القائم بذاته وصوته الذي يخصه في علاقاته مع الأشياء، في اختبار هذه الأشياء من خلال الكناية وميراثها.
في الواقع لا يمكن القول إن شعر بسّام حجّار في بداياته يشبه أعماله الأخيرة، فالزخم الشعري في نصوص “صحبة الظلال” و”بضعة أشياء” و”تفسير الرخام” أقوى بكثير من كتبه “مهنة القسوة” و”لأروي كمن يخاف أن يرى”، و”الشاعر الذي كان يفضل العزلة”، لكن يبدو أن نصه كسر العزلة وبات حاضر في الوجدان، على عكس الكثير من الشعراء الذي يحبون المنابر والإعلام ولكن قصائدهم تعثرت في الوصول إلى القارئ، ولم يكن مستغرباً أن يختار محمود درويش جملة من قصيدة بسّام حجّار عن السروة كشاهدة في قصيدته “السروة انكسرت” التي نشرها في ديوانه” لا تعتذر عما فعلت”.
وصورة شعر بسّام هي صورة “المثنّى”(وضّاح شرارة)، في معجمه “لا تصلحُ المحبّةُ بين اثنين حتى يقول الواحد للآخر: يا أنا” (معجم الأشواق) ويقول “ذكريات الشخص الذي وددت أن أكونه”. وفي إحدى أوراق “كتاب الرمل” يسترجع حجّار “خرافة” المرآة كما رواها بورخيس متحدّثاً عن عماه الذي أصابه تدريجياً ويقول “حلّ ذلك مثل غسقٍ صيفيّ بطيء. كنت مديراً للمكتبة الوطنية وبدأت أجد نفسي، شيئاً فشيئاً، محاطاً بكتب بلا أحرف، ثمّ فقد أصدقائي وجوههم ثمّ لاحظت أنّ لا أحد في المرآة”. يقول بسّام حجّار رابطاً هذه الجدلية بجوهر الكتابة نفسها “والكاتب حين يكتب لا يكون ‘أناه’ بل يكون الآخر الذي هو شخص ما”.
ويصل إلى استنتاج “كن ظلّي أكن أنت، أو أكن ظلّك تكن أنا… قل لي: مَن أنت؟ السراب أم أنا؟”. في ختام النص يقول الراوي “لا أعرف أيّا من الاثنين يكتب هذه الصفحة”. والشاعر حين يخاطب نفسه أيضاً قائلاً “أن تكون واحداً وكثيراً”.
وبسّام حجّار نفسه “ليس شاعراً واحداً أو الشاعر نفسه طوال الأعوام الستة والعشرين التي كتب الشعر في أثنائها” بحسب وضاح شرارة، بين 1980 “مشاغل رجل هادئ جداً” و2006 “تفسير الرخام”. وفي الانقلاب أو التحول من مجموعة إلى مجموعة، وفي التأرجح بين صورة أو صيغة كتابة وبين صورة أخرى مختلفة (في المجموعة الواحدة ربما)، يسع القراءة اقتفاء “عمل” الشعر، أي التماس بسّام حجّار لغته و”رسومه” في مضطَرَب “العالم كله”، هو “يباشر العالم بالحواس وبالقليل القليل المتوافر من أدوات التعبير”، بحسب قوله. يضيف “أنتَ لا تستطيعُ أن تدخلَ إلى العوالم الداخلية للأشياءِ إلا إذا تمكنتَ من الإصغاءِ جيداً إليها في صمتها وحيادِها ولا شخصيتِها .على نحوٍ ما.. إصغاؤكَ هذا يجعلكَ قريباً منها، يجعلكَ على شبهٍ بها، صامتاً محايداً و لا شخصياً، أعتقدُ أن النجاةَ من القلقِ هي في زعمكَ أثناء الكتابةِ أنكَ شخصٌ لا شخصي، أن لا شيء قد يعنيكَ أو يهزكَ أو يؤثرُ فيكَ أثناء انصرافكَ إلى الإصغاءِ لذاتكَ التي صارت شيئاً آخرَ غير ذاك الذي تشعرُ به” (جريدة السفير 2003 ).
وسبق أن تساءل حجّار في كتابه “مديح الخيانة” عمّا إذا كان الشعر “حد استقراء الصمت فقط”. فالشاعر في نظرته إلى الأشياء حوّلها إلى قول “ما لا يقال”، و”ما لا يقال: الألم حين ينظر”، “ما لا يقال: عينا طفلة خلف النافذة”، و”ما لا يقال هو تمام معجم الأشواق” (من كتابه “معجم الأشواق”)، وما يقال صعب تصديقه أو القبول به “لم أصدّق من الخبر إلا صفته، من الرواية إلا شتاتها”. وفن القول ونضوجه في تجربة بسّام حجّار ارتبط في استقراء الرواية، “ما يكتبه شعراً ونثراً إصغاء إلى ما تضمره اللغة”.
يسع القارئ أن يلاحظ من خلال قراءة أعمال بسّام حجّار مدى اهتمامه بافتتاح بعض نصوصه بأقوال لكتّاب وشعراء آخرين (أخماتوفا، كافكا)، بل كتب وأحاديث دينية (الإنجيل، الحديث النبوي، مرويات التراث)، “كل من اقتطف منه شيئاً لمفتتح نص من نصوصي هو بالتأكيد كاتب عشقته ســواء أكــان بورخيس أو بيسوا أو ابن عربي… الخ”.
هنالك نصـوص يبلــغ بي مقدار إعجابي بها درجــة أنني أفكر أحيانا أنه لا جدوى من أن أكتب أنا نفسي. لأنني لن أضاهي هذه النصوص مهما فعلت خصوصاً أن بعض هؤلاء مثل بورخيس، بيسوا، ليسوا مجرد كتّاب قرأت لهم أو أقرأهم، إنهم كتّاب يسكنون عيشـي إلى درجة أنني أعاود قراءة نصوصهـم من دون توقف”. يضيف “لقـــد انتحــلت عنوان بورخيس عمداً، لكي أقــول إنني لا أكتشف في ما أفعل قارة جديدة لا فـي الشعــر ولا في النثر وإنما ما أفعله هو محاولتي للتعبير عن أحاسيس وإذا تطابقت هذه الأحاسيــس مــع أحاسيس أخرى فلا بأس″(مقابلة مع جريدة الحياة)، وانتحل الشيء أي ادّعى امتلاكه، وفعل الانتحال مراده لأن “ما نستطيع أن نفعله حيال ما كتبوه (بورخيس أو بيســوا أو رينيــه شـار) هو أن نقرأهم مراراً وتكراراً لكي نحيا في دعة الأحاسيس التي أعطونا أن نمتلكها من بعدهم وبفضلهم”.
وكيان حجّار الشعري في جوانب منه يشبه المناخ الكافكاوي (نسبة إلى كافكا)، ويشبه لوحات فان غوخ في إدارك التفاصيل، ويشبه لوحات جياكوميتي في أنسنة الأشياء وحسيّتها. على أن السوداوية التي يدأب الشاعر على كتابتها تكتّفها اللذة المنطوقة في النص. لذة تأخذ القارئ إلى الشوق والرواق و”الشهية التي تبقيه في حالة رجاء دائم”، كما يعبّر رولان بارت.
وهو يجمع في أشعاره وقصائده وكتاباته بين حبه للتراث، فبالنسبة إليه لسان العرب لابن منظور أو القاموس المحيط للفيروز أبادي يشتملان على متعة سردية قد توازي أو ربما تتجاوز حكايات ألف ليلة وليلة لأن “اقتفاء أثر نشأة الكلمات واشتقاقها هو في حد ذاته تتبع لسرد تاريخي اجتماعي لغوي قد يفوق أيّ رواية أو أيّ قصة تشويقاً”، وبين حبه للشعر الغربي أيضاً قد أوجد بين التراث والحداثة لغته الخاصة التي لا تشبه إلا نفسها، ففي “معجم الأشواق” يشعر القارئ أنه يقرأ كتاباً من الزمن العباسي، يحاور حجّار في كتابه تجارب العشق في تاريخ الأدب العربي، يستحضر أشعار المجنون ويحاورها، وأشعار المتصوفين بحيث يتم التأمل فيها واستنطاقها وبناء نص يحاور مجموعة من الكتّاب والكتب المهمة في تاريخ الأدب والفكر الإنسانيين. ينطلق من مقاطع منها ليؤسس لخطاب عاشق ظل لفترة من الزمن سجين الإهمال والعزلة.
وكتاب “معجم الأشواق” متواليات من النصوص تصف علاقته الغرامية بمن أحبّ بمظاهرها الحسية، واتكاء هذا الكتاب على نصوص العشق العربي التي تتردد في الشواهد خصوصاً هو تلميح مقصود إلى خطاب العشق العربي الذي “حجب لصالح النص الإيروتيكي البورنوغرافي” بحسب قوله. يريد القول إن الحب كما يفهم وكما يعبر عنه في لغة حداثتنا “لم يعد سوى طيف الحب لأنه بات يقفل الدرجات الصفر من العلاقة الحسية بين العاشق والمعشوق. لغوياً كان هناك بحث معجمي لمعرفة أصول الكلمات ودلالاتها وما آلت إليه”.
أفلح في مجموعات من المفردات، يقول “أبحث عن شكل نثري خالص وقد يكون سردياً لقول ما اتضح لي أنني لم أوفّق في قوله بعد، وقد يكون هذا الشكل هو الصمت. الصمت المطبق”. وسبق للمترجمة والباحثة مي صباغ أن نشرت مقالا أو مقاربة في “ملحق السفير الثقافي” تقارن فيه بين “معجم الأشواق” وكتاب “شذرات من خطاب العشق لرولان بارت”، وفيها الكثير من الشواهد المتقاربة، وهذا من البديهيات من نصوص قائمة على الاشتقاق وتأويل نصوص الحب وحسيّة الحب وروائحه ولحظاته ولغته.
في “كتاب الرمل” يحاكي حجّار بورخيس من عنوان الكتاب، ويسافر في الحفر اللغوي الاشتقاقي، يسأل “ما الذي يجمع بين ‘السفر’ في صحراء والكهانة؟، ليس اللغة وحسب بل السحر الذي يلازم منطق الصحراء الذي هو خلف المنطق، ففي الصحراء جهات تشير إليها نجوم السماء، وليست الطرق (أو الأطرقة) هي التي يسلكها المسافر لتفضي به، بل هو المسافر الذي يفضي بالطرق إذ يخطها سعياً إلى الجهات.
ومن سحرها أيضاً أن كل شيء فيها عابر، كأنها وهي التجلّي المطلق للوجود البدائي العاري، المجال المثالي لحكمة الزوال، حتى ما يضاف إليها من سعي البشر (المسافر) يتمثل في سراب، كغيره، وذلك أن الحقيقة الوحيدة في الصحراء هي السراب، والسراب هو ما تزيّنه العين الناظرة إلى بعيد لا يحدّ، فتحيل الرمل ماء. كل حقيقة عابرة زائلة ومنها الطريق، فلا يحين ميقات الهبوب حتى تعاود الصحراء ترتيب مساحتها وتبتلع الرمال في حيلة جيولوجية فاتنة، ما تركه العابرون من أثر”.
يكتب بسام حجّار “لينفي وجوده لا ليرسّخه على طريقة الصوفيين حيناً وعلى غرار العرفانيين الغنوصيين حيناً آخر”، بحسب ما يلاحظ الشاعر عبده وازن في قراءة مستفيضة لـ”كتاب الرمل”، ونفي الوجود وهو وجوده.