رصيف 1929 / 2019
يجد المرء غالبا أن النقاشات حول العلاقات والأوضاع السائدة بين الفرد والمجتمع، سواء كانت علنية أم غير علنية، تعتمد على تصور يمكن اختزاله على الطريقة التالية «ما يستطيع المرء رؤيته حقا هو الأشخاص الأفراد، أما المجتمعات فلا ترى ولا يمكن أن تكون محسوسة بأي حاسة كانت. وهكذا لا يستطيع المرء أن يقول عنها إنها موجودة و”واقعية” بنفس المعنى، والأبعاد التي نقول فيها ذلك عن الأفراد الذين يشكلونها، ففي النهاية، يعود كل ما نقوله عن الكيانات المجتمعية إلى مراقبة الأشخاص الفرادى وملاحظة أقوالهم وأفعالهم» (*)
- لقد تأخرتِ !
- المعذرة.. هو اختناق المركبات المعتاد.
يكاد ينسى دائما، وهو يحاول أن يتخيل المركبات التي تتحدث عنها هي باستمرار، أخبرته في أحاديث سابقة مطولة عن أنها العجلات الأربع وقانون الدفع والوقود وعن إمكانية أن يتطور الأمر ليصبح كهربائيا، في حين أنه في وقته لم يحتج الجميع إلا إلى القدمين لتقودهم نحو الوجهة، ووجهته منذ أن عرفها أضحت هذا الرصيف.. كان الأمر غريبا في البدء، هو يسمعها ويحسها لكن لا يراها ويراها في الآن ذاته، يمد دائما يدا نحو ملامحها ويدركها، إدراكٌ ينتصر له للحظات قليلة قبل أن يعود ليخذله، يتذكر الأغنية، التي كانت تدندنها بخفوت وهي تقف إلى جانبه، التقط هو الكلمة الأخيرة من الدندنة وواصل، ارتاعت هي من الصوت الهامس قبل أن يتحول الروع إلى فضول، الفضول الذي صار مع الوقت ألفة، الألفة التي تجاوزت ماهيتها لتصبح شغفا، الشغف الذي تمحور حوله هذا الرصيف، ليصبح الغاية اليومية، والموعد الملتبس!
مرر يده على قنينة العطر الصغيرة في يده، قبل أن يرفعها إلى أنفه، أخذت هي شهيقا خفيفا، بما يكفي لتحزر.
- لم تعد لمستخلصات الخزامى هذه الرائحة القوية الآن.. أكاد أشعرُ بأنني حقلٌ الآن.
ابتسم وهو يشعر بالنشوة، كان لشيء ما صغير أخيرا أن يتفوق على حكايات عالمها الضخم، كان يبحث يوميا عن شيء يقابل فيه تلك الحكايات عن المباني الكبيرة والتعقيدات المربكة والمركبات والأجهزة الذكية، يتذكر المرة الأولى التي رنت فيها ضحكتها عندما سأل عن صفة الذكاء، ألم تكن حكرا عليهم ككائنات متفوقة، كان لا يزال مأخوذا بالضحكة وهي توجز له الأمر بأن كل ما حولهم أصبح ذكيا، ما عداهم، لم يستطع أن يفهم الأمر في حينها، كان جلُ ما فهمه هو أن في هذه الضحكة قيدا ما، سيبقيه معلقا هنا على هذا الرصيف في هذه الساعة ككل يوم.
- صف لي شكلك مرة أخرى.
قالت له وهي تتظاهر بأنها تتحدث عبر سماعة الهاتف اللاسلكية لكي لا يلتبس الأمر على المارة أمامها، وأجابها هو متجاهلا نظرات العابرين المربكة التي لم تألف بعد هذا المجنون الجديد الذي يأتي كل يوم حاملا قنينة عطرية ليبقى في حوار مع ذاته قرابة الساعة قبل أن ينصرف ولكأنه قد أنهى لتوه موعدا ما.
- لم يمضِ وقتٌ طويل قبل أن يبدأ الصبية في هذا الشارع بنعتي بالجنون، قبل أن يقذفوني بالحجارة!
عادت لتضحك وعاد لينتشي من جديد، فكر لو أن للضحكة تلك أن تُلمس، لو أنها تتجسد أمامه بأبعادها الثلاثة، فكر ثم تدارك سخف الفكرة، وهو يتذكر أنه لم ير صاحبة الفكرة بعد.
- أتظنين أن الأمر قد يصبح ممكنا في يومٍ ما؟
- ما هو؟
- أن نلتقي.
- لكننا في لقاءٍ الآن، أليس كذلك؟
- أعني أن أراك، أواجهك.. ألّا تكون المخيلة وحدها هي كل شيء.
- لعل المخيلة هي الأشياءُ كلُها، لعلك تراني، هناك عميقا، وتواجهني كما لا يواجهني أحد، أتعتقد أن الوجه هو تمام الحكاية؟
- في وقتي ومكاني يبدو الأمر كذلك.
- لكنه ليس كذلك هنا أو لم يعد الأمر كذلك، كلما زاد تعقيدنا ككائنات رغم بلاهتنا الظاهرة، أعتقد أننا نلتقي هناك حيث التراكمات العميقة للذاكرة والحكايات، إنني أصف لك نفسي كما لو أنني كنت أواجه مرآة ضخمة تجبرني على رؤية أدق التفاصيل، تفاصيل لم أعتقد أنها قد توجد يوما، وأخرى لم أنتبه إلى ما تركته هناك يعتملُ عميقا بداخلي، إنني أراك أيضا، أحسك، أسمعك.. إنني ألمسك من خلال الوعي، أصنعك من كلماتك، ما تلاحظه فتحوله إلى كلمات، ك ل م ا ت، هي أيضا كل ما حولك الآن في لحظتك الغرائبية تلك، أنت المفرد والجمع معا.
- ما الضمانة؟
- لماذا تسأل عن الضمانات دائما.
- في وقتنا نحن نصدق الأشياء التي نراها رؤية العين، ما نلمسه فعليا، إنني أتوه كلما تحدثتِ عن تلك المحسوسات غير الظاهرة، أشعر بأنها مجرد أشياء خيالية، كل ما لا أدركه بشكل راسخ لا يعول عليه بالنسبة لي.
- ما لا تراه لا يعني عدم وجوده، ما تتجاهله، لا يتلاشى، ببساطة إذا كان الأمر كذلك فهذا يعني أنني مجرد شيء خيالي الآن، في هذه اللحظة، على هذا الرصيف، رغم ما نحاول أن نبنيه كل يوم من حوارات وأسئلة.
- ماذا لو اختفى هذا الرصيف؟ هل سيعود لك وجود؟
- لا أعلم، لقد بحثت طويلا عن الإجابة، أظن أننا متواجدان الآن هنا لأن هذا الرصيف هو الشيء الوحيد الذي لم يتغير مع الوقت، هامشٌ لم ينتبه إليه أحد، ممرٌ ضيق، لعله قد يكون ضمانتنا الوحيدة، لعلنا شكلٌ من أشكال رفضه لكل هذا الركض.
- الركض.
- نحنُ نهرول.
- كيف؟
- ألا ترى؟
-لا.. لكنني…
- التقط أنفاسك، أنتَ تلهث كالخارج من مضمار، ركضك حيٌ وركضي مجاز، كلانا يهرول لأن الساعة تقترب من النهاية.
صمتت واستكان، حاولت أن تبتر هي هذا السكون الواجم بالدندنة، الأغنية ذاتها، التي راح يكملها هو على ذات الوقع الخافت تماما كما مرة اكتشافهما الأولى، قبل أن يعودَ كلٌ منهما إلى عالمه الخاص.
(*) مقتطع من “مجتمع الأفراد – نوربرت إلياس″.