هذه المرَّة أيضا
بأصابعٍ اعتادت إمساك الكوب بثبات، راح عبدالجليل يتلذّذُ بشرب الشاي، مُثيرا حفيظة عبدالمنعم صاحب المقهى. فهذا هو الثالث الذي يملأ به جوفه، دون أن يدفع مقابله فلسا واحد.
ولا بدَّ أن مشكلة عبدالجليل كانت تُلحُّ عليه. فبعد أن كان المقهى قِبلة الناس، خصوصا في أيام العطل والأعياد. يفدون إليه ليشربوا القهوة والشاي والعصائر والمشروبات الغازية. أو ليتناولوا الشطائر والحلويات، أو ليدخنوا النارجلية والشيشة، فيزيدوا بذلك من مدخوله الشهري، صار عددهم يقِلُّ تدريجيا، حتى اقتصر على الأغراب. وهؤلاء أيضا، لا يكادون يتعرَّفون على عبدالجليل حتى يفرُّوا دون رجعة.
وكم من مَرَّة قرَّر فيها عبدالمنعم أن يطرد عبدالجليل، لكنه سرعان ما يتراجع، كُلّما نظر إلى وجهه وقد تضخَّم حتَّى أصبح كرةً ثقيلة برزت فيها خطوط متشابكة -من آثار العمليات العديدة، فيما شُدَّت العينان إلى السماء، فهما في حديث دائمٍ مع النجوم- وتراءت لذهنه تلك الصورة الواضحة في الذاكرة، يوم كان هذا الحُطام، مُدرّسا قديرا، ومُشرفا حازما، يخشى سطوته المراسلون والفرَّاشون على حدِّ سواء.
عبدالجليل -الذي يجلس اليوم على مقعدِه الخشبي، مشوَّه العقل والجسم، لا تستقرّ عينه على شيء- كان يسترعي انتباه الجميع، بأحاديثه الشيِّقة ومنطقه السليم، وفصاحته التي تعبَّر عمَّا تريد بكلمات قليلة، وكأنّه كان يُحضِّر كل كلمة قبل نطقها.
هنا، بثوبه الأبيض الجديد دائما، وغترته وعقاله العربي، وعطره النفّاذ، اعتاد الجلوس بصحبة زملائه المُدرِّسين، نموذجاً للمربّي الفاضل، حيث الحزم واللين، وقوة الشخصية وطيبة القلب، والثقافة والتجربة.
أمّا هذا الصامت دائما، الذاهل عن كلِّ شيء. فهو مسكين، له أكثر من ثمانية أعوام، لا يتذكَّر من يكون، ولا يعرف مكانا سوى هذا المقهى داخل السوق الشعبي.
الأطباء نفضوا أيديهم منه، فهم عاجزون عن علاجه. وأقاربه تخلَّوا عنه حتى أخوه غير الشقيق. فلم يتبق له سوى شقيقة، دائمة السؤال عنه. كذلك آثرت زوجه الطلاق، متعلَّلة بضعفها عن رعايته ورعاية أبنائها منه.
والأصدقاء أيضا، لم يكونوا أصدقاء بالمعنى المعروف للكلمة. كانوا مُجرَّدَ أصحابٍ يخرجون معه، انقطعوا عنه حين أصيب في الحادث الجلل، وباعدت بينه وبينهم المسافات.
تتسِع عيناه أحيانا، ويشرق وجهه، وترتسم ابتسامة سعادة على شفتيه، سرعان ما تتطوُّر إلى ضحك متواصل. وأحيانا تنقبض ملامحه، ليبرز الحزن جليا صارخا، يدفعه للبكاء، دون جدوى من محاولة تهدئته. ثمَّ يكسوه هدوء غريب، يُحوّل صاحبه إلى خشبة مسنّدة، ساكنة سكون الأموات، حائرا أمام لغز الحياة، متسائلا عن عِلَّة تغيُّر الإنسان إلى النقيض، جَرَّاء حادث سيارة.
وهذه المرَّة أيضا، أحسَّ عبدالمنعم بالعجز يشمله، فلا هو قادر على الخروج بحَلِّ لتراجع مدخول المقهى، ولا هو مستطيع طرد عبدالجليل، رغم إيمانه بأنه وفَّى حقَّ الجيرة والصحبة القديمة، وشعوره أنَّه لم يعد قادرا على تحمُّل المزيد.
وربَّما بسبب العجز نفسه، والضيق الذي يشعر به، وجد نفسه تصيح بغضب:
- عبدالجليل…
فأعاد الرجل المسكين من عالمه الخفي، إلى أرض الواقع، وقد جحظت عيناه خوفا وقلقا، فتمتم فزعا:
- ماذا؟!
عندها وبدلا من أن يطلق عبدالمنعم سيلا من الكلمات، يُخفِّف بها شيئا من أشجانه، انتابته شفقة عظيمة تجاه عبدالجليل، زادت من إحساسه بحجم المأساة التي يعيشها إنسان مثله، تردَّى به الحال حتى أصبح مسخا، يهرب منه الجميع بمن فيهم الأقارب والأصحاب، فقال في صوت منكسر:
- لا شيء.. استمتع بشرب الشاي.
ثمَّ أخذ بتأمُّله، وعيناه تتنديان بالدمع.