معجزة الشعر
I
هل ثمة فرق جوهري بين قصيدة يكتبها شاعر لم يبرح مقيماً في بيته الأول؛ بيت طفولته حيث مسقط الرأس، بكل ما يذخر به من ثراء، ومن صور وظلالها الأليفة، رغم ما يعتمل في نفس الشاعر مما هو مبهم ويتصل بغوامض الشعور في عالم حميم محروس بوجود ناس المكان، وقصيدة يكتبها شاعر يخوض في سفر مديد مع الأمكنة والغرباء، ومغامرة مع الشعر مفتوحة على مفاجآت الطريق، وعلى صور الأمكنة الغريبة، والعوالم المختلفة، والجمال الغريب؟
إنما هل يجيز لنا المنطق مقارنة سفر خيال الشاعر المقيم في مكان لا يتغير، وعبر اللغة وحدها، بسفر خيال الشاعر العابر في اللغة والأمكنة المتغيرة؟
هل هذا سؤال في جوهر الأشياء، أم في عرضها، وهل الشعر درس في المكان، أم هو فضاء شاسع ينفتح على كل ما يضيء بوجوده هذا الكوكب؟ ويمكنه بالتالي أن يفعم الوجود والوجدان بالجمال، ويضيء الشعر بما هو مدهش.
***
لطالما طُرح عليّ السؤال عن الفرق بين قصيدة الشاعر المقيم في مسقط الرأس والشاعر المسافر في العالم. وفي كل مرة وجدتني عاجزاً عن المفاضلة فكيف يمكن لشاعر أن يتخيّل كيف كان يمكن أن يكون شعره لو أنه لم يبرح بيته الأول، ويسافر بعيدا في العالم. هذا افتراض ليس في وسع شاعر تخيله، ولا يمكن لشاعر منفي بعيدا عن مسقط الرأس خلق تصوّر يقوم على مثل هكذا افتراض.
جرح حياتي أنني لعقود أربعة أقيم بعيدا عن مدينتي دمشق، من دون كبير أمل في العودة. حياتي تشكّلت وتبددت بعيدا عن مسقط الرأس ولا بد أن شعري الذي كتبته حيث عشت اختزن صوراً حلمية هي خيالات جمال غائم لفردوس الطفولة المفقود. إنما لا نزوع نوستالجيا في شعري. علاقتي بالمكان الذي أعيش فيه وسفر خيالي في صوره وظلاله في مرئياته القارة والمتغيرة، كل هذا الزخم في الصور يملؤني ويحيط بي لتكون لي معه حكاية طويلة لا يمكن اختصارها بالقليل من الكلمات.
***
لا يصدر الشعر من علاقات لغوية مجرّدة، ولكن من ارتطام للغة بالعالم. ونزوع الشعر إلى التعبير عن الذات لا يتحقق ضمن دوائر مغلقة، أو يتحرك في زمن مغلق. وبالرغم من أن للشعر زمنه فهو يصنع هذا الزمن من انفتاح الحاضر على الماضي، ومن ذلك الهدم المتواصل في اللغة والخيال لما يمكن أن يحدّ من تدفق الأزمنة في زمن الشعر. ومن جدل العلاقة بين الفيزيقي والميتافيزيقي، ومن ثراء اللقاء بين ما هو حسّي وما هو مجرّد، ومن العلاقات المركبة للأشياء التي تصنع التجربة الشعورية.
***
دم الشعر يتدفق في شرايين اللغة خارج لعبة الزمن الصغير. أبعد من المضارع، في منطقة تتلاقى فيها الأزمنة كلها، وحيث تنصهر الحواس هي ولغتها في صراع وحشي للذات مع دواخلها، أشباحها وأقنعتها وخيالاتها.
خلاصة القول: من المستحيل على الشعر أن يصدر عن (أو أن يؤسر في) الزمن الصغير.
***
لنتفق، أخيراً، على أن كل مظهر من مظاهر الوجود إنما يوهمنا بأنه يقوم على لعبة الحضور والغياب، إنها المعادلة الأكثر جوهرية وحيوية معا. وهي ثنائية لها تجليات لا تنتهي. وتتصل أساسا بمجمل الوجود الإنساني. النوم واليقظة، الحياة والموت، الظاهر والباطن، السريع والبطيء. لكن عبقرية الشعر أنه يحطّم هذه الثنائية. يلهو بها ويحطّمها. يوهم بخلودها ويفاجئنا بقدرته المذهلة على العصف بها. إنه يعبث بالمعادلة وبالمسافة التي تنهض بين طرفيها، أو حدّيها إلى درجة أنه يحيلهما أحيانا إلى كائنين هلاميين، لا قدرة لهما على كشف لعبته. الشعر جمال ماكر.
يستطيع الشعر أن يتخلل ويُخضع، لا الأزمنة وحدها، بل والأمكنة أيضا. يحيلها إلى ما هو أكثر من حجارة باردة، ومناظر مألوفة، يبث فيها روح البراكين الأولى، إنه يحيل الماضي إلى مستقبل لم يسبق تخيله. إنها معجزة الشعر.
II
هل تقف القصيدة ويقف الشاعر بمنأى ما بإزاء التحولات الكبرى واللحظات الفارقة في حياة الأمم؟ وهل يعجز الشعر عن أن يكون أمينا لصوته وصوت الإنسان، معا، في أزمنة المأساة؟
هذا السؤال يقودني لأثير سؤالاً آخر: كيف حدث أن ارتبطت صورة الشاعر العربي الموصوف بأنه حداثي، بنوع من الذاتوية المفرطة، والتعالي على الناس، والنأي بنشيده بعيدا عن معاركهم الكبرى لأجل الحرية، حتى ليكاد يُرمى، مع بعض الشعراء، بالخيانة؛ خيانة الأمل!
مثل هذا الأمر يحتمّ على الثقافات أن تعيد النظر في المسألة برمتها، في معنى الشعر، وفي دور الشاعر، بدءا من علاقته بلغته وصنيعه الشعري، وانتهاء بدوره في المجتمع والتاريخ. وإذا ما وجد الشاعر فرقا جوهريا بين ما كان عليه قبل الوقائع المأساوية وما بات عليه بعدها، من واجبه الأخلاقي أن يتريّث ويتأمّل في هذا الفرق، في موقفه من الفجوة الواقعة بين الوعي والضمير، وبين الكلمة والموقف، والمصير الإنساني.
***
أن يكون الشاعر في خندق الحرية، هذا قدر إنساني واختيار جمالي وأخلاقي، فالشعراء هم قادة ثورات وفتوحات على تخوم الخيال وفي مساحات الحركة الإنسانية لأجل المستقبل. وقصيدة الشاعر صوت نقي من أصوات الحرية لا تتنازل عن لغتها الجمالية، ولا عن مستقبليتها الكامنة في نزوعها إلى الابتكار، ولا عن خصوصية علاقته الخلاقة باللغة.
الثورات لا تقول للشاعر كن شاعرا رديئا لتكون شاعرا ثوريا، ولا تقول له استرح، الآن، وعندما ينتهي الشعب من توقيع قصيدته الجماعية، يمكنك أن تكتب قصيدتك أنت.
في كل وقت يمكن للقصيدة المبدعة أن تُكتب، وفي كل وقت يمكن للقصيدة أن تباهي بابتكاريّتها وحريّتها، وأن تكون قصيدة الشاعر وقصيدة الناس.
***
الشاعر ثائر، لا فجوة أو مسافة بين الكيانين. ومن منطقة الحلم يبدأ الفعل المبتكر في المجتمع والتاريخ. عندما نهض مارتن لوثر كينغ بدعوته لاستكمال تحرير زنوج أميركا من التمييز العنصري، آخر حلقة في ربقة العبودية، بدأ خطابه بجملة افتتحت تاريخا جديدا للأميركيين السود ومعهم العالم كله: (عندي حلم). عند هذه العتبة انكسرت القيود، وتحوّل الثائر إلى شاعر.
من الحلم يولد الشاعر ومن مصهر الحرية تولد قصيدته. والشعراء الذين لا يحلمون هم بقايا عبيد، سرَّاق كلمات من القاموس.
انتفاضات الشعوب تكشف أقنعة الحرية عن وجوه العبيد؛ عبيد الشهرة، وعبيد ذهب الدكتاتور، بطانته الفكاهية المندسة في عكاظ الشعر الحديث. وبأسرع مما يتخيل هؤلاء المسوخ، فهم يتساقطون في عيون جمهورهم ويصيرون رفاتا.
الشاعر، بداهة، هو صوت الحرية، والضمير الحيّ للأمم وقت تموت الضمائر. وعندما يتخلى العالم عن أمّة تنتفض لأجل الحرية يتحول عشاقها جميعهم إلى شعراء يكتبون بدمائهم ملحمة الحرية. إذّاك على شاعرهم أن يكون سطرا مضيئا في تلك الملحمة، ليكون في المستقبل أو لا يكون أبداً.
لندن في آذار/مارس 2019