هل لدينا رواية بوليسية؟
الرواية التي تستعرض فردًا أو جماعة يقع عليها القمع ليست رواية بوليسية بالمعنى المتعارف عليه. أما الرواية ذات الحبكة والقائمة على لغز ولو أنها أقرب إلى الرواية البوليسية إلا أنها برأيي لا تعد كذلك، لأن هنالك شروطًا يجب توافرها في أيّ عمل روائي بوليسي “ضحية وجان ومحقق” ومع وجود هذه العناصر تصبح بالطبع العناصر الأخرى كالتشويق، وحلّ اللغز، وسياق المغامرة دعائم للعناصر الرئيسية.
أنتجت المجتمعات الرأسمالية أدواتها الخاصة فائقة الذكاء للدفاع والمحافظة على مصالحها أمام اختلال الطبقات الاجتماعية والتفاوت بينهما وما يمكن أن ينتج عنهما من أشكال شتى من الجرائم تضر بتلك المصالح. لكن التطور وهو إحدى سمات المجتمع الرأسمالي توازيه تطورات أخرى بالمسار نفسه، فقد أنتج هذا المجتمع بطريقة غير مباشرة طبقة من المجرمين الأذكياء الذين كانوا يتفوقون على ذكاء أدوات حماية تلك المصالح، وما ذلك إلا شكل من أشكال صراع البقاء في هذه المجتمعات، دفع بأن يكون تطوير الأدوات مستمرًا.
لكن هؤلاء المجرمين انضموا إلى “مافيات” خروجًا من العمل الفردي الذي يبقى عرضة للفشل، ومن هنا أنتج الرأسمالي عقليات إجرامية خارقة الذكاء. والتساؤل الملحّ في هذا الصدد هو: هل أنتجت المجتمعات العربية هكذا عقلية إجرامية؟ برأيي الخاص أرى أننا وللأسف الشديد في بداية إنتاج هذه الأنماط، لأن جلّ العالم العربي قد دخل المنظومة الرأسمالية منذ 1991 وحتى ما قبل هذا التاريخ، ولو أنه بمكوّنه العام لم يحقّق الشّروط الكاملة للمجتمع الرأسمالي إلا أننا أصبحنا نلمس أن جرائم ذكية باتت تحدث ليس فقط بسبب طبيعة المجتمع الرأسمالي، ومتابعة الدراما البوليسية العالمية وإنما أيضًا بسبب الاختلالات الطبقية التي طرأت عليه، وهذه الاختلالات من شأنها أن تنتج هكذا سلوكات وبالتالي لا بدّ لها أن تؤدي إلى مخيلة بوليسية روائية قادرة على الكتابة في هذا الشأن ما دامت الواقعة باتت تحدث.
حينما نتأمل مصطلح الرواية البوليسية ربما يتساءل البعض هل لدينا “بوليس″ بالمفهوم الغربي حتى تكتمل المعادلة للكتابة في هذا المجال، وهل يسمح للكاتب أن يطلع على الملفات المتعلقة بالجرائم. هذان السؤالان كان يمكن أن يطرحا كعقبة لو أننا عدنا انطلاقًا من هذه المرحلة إلى الوراء، حيث كان العالم العربي وبنسبة مرتفعة يرزح تحت “بوليس″ سياسي يختلف عما هو قائم في الغرب، والآن ورغم ما يحدث في العالم العربي من انهيارات إلا أن تغيرًا على هذا الحال قد طرأ وبدأت النسبة تختلف من دولة إلى أخرى. ومع ذلك فقد شكلت طبيعة الحياتين الاجتماعية والسياسية جزءًا من أسباب الامتناع عن الكتابة في هذا الشأن؛ إذ نشأ الروائي العربي وشرع بالكتابة في ظروف سياسية واجتماعية جعلاه مُعِاينًا ملتزمًا، جادًا بالقضايا القومية والاجتماعية عبر مراحل تطور الرواية العربية.
فمن جانب ما، ما كان بالإمكان أن تسمح البنية الاجتماعية وسلطتها بأن يتطرق كاتب إلى جريمة قد حصلت بالفعل إذ يعتبر ذلك انتهاكًا للخصوصية دون الانتباه إلى أن هذه الجريمة ضارة بالمكون الاجتماعي برمّته. لهذا فقد تلقى القارئ العربي كثيرًا من الأعمال التي تقترب من مواضيع تؤرقه هو في الأصل، ابتداء من نكبة فلسطين، وهزيمة 1967، وانتهاء بمرحلة ما بعد “ثورات الربيع العربي”، وما تمخّض عن كل ذلك من أزمات.
فقد انشغلت الرواية العربية بالقضايا القومية والصراع العربي الإسرائيلي، ومؤخرا بقضايا الإرهاب. وذهبت كثير من الروايات العربية إلى الكتابة في شؤون الحب، هذه الكتابة التي ما أراها إلا دفاعًا غريزيًا مقابل كل ما سببته السياسية والاقتتال وما أدت إليه من كوارث فسيطرت الشعرية على نسبة لا يستهان بها من المنجز الروائي العربي وخاصة هذه الأيام. وهذه الشعرية بالطبع لا تتوافق مع الكتابة في القضايا البوليسية التي تحتاج إلى لغة مختلفة.
جزء كبير من أسباب العزوف عن الأدب البوليسي يكمن في كيفية نظرة النقاد والروائيين والقراء العرب إلى هذا النوع من الكتابة رغم أن الأدب في الأصل قد تكوّن انطلاقًا من علاقته بالواقع. وهذه النظرة أراها نظرة تسلسلية ابتدأت بالابتعاد النقدي عن الدعوة لكتابة هذا الشكل، ومن ثم الابتعاد عن نقده إن كتب باعتباره في أدنى مستويات الكتابة الإبداعية إن لم يكن برأي الكثير خارجها، وبالتالي ظل هذا الشكل مغيّبًا جرّاء هيبة الروائي العربي من كتابته خشية من الناقد والقارئ على حدّ سواء.
أما عن علاقة المرأة بالأدب البواليسي فما يزال النص الروائي الذي تنتجه امرأة يصنف كأدب نسوي مما أدى إلى النظر نحو ما تكتبه المرأة عبر معايير “الكوتا” إذ قيد جانبًا من حرية المرأة في الكتابة إضافة إلى التابو الاجتماعي الذي تعانيه وانشغلت روائيات كثيرات بهذا الشأن وما يزلن ممّا ساهم في ابتعادهن عن الرواية البوليسية وأنماط روائية أخرى.