الأدب والخيال
في صبانا كنا نتهافت على روايات أرسين لوبين وأجاثا كريستي وروكامبول وغيرها من السلال البوليسية التي تستهدف روح المغامرة والإثارة. فكانت بمثابة نبع التغذية الأول لخيالنا. لكن الخيال ينضج تماما كما ينضج العقل والجسد، وهؤلاء الثلاثة معا يمثلون الذات التي تحقق وجودنا في الحياة.
إن تاريخ تطوّر الفنون ليس إلا طبقات من نضج الخيال البشري ووعي الإنسان يتطور من الطفولة إلى الصبا والشباب والكهولة، والعقل لا يعرف الهرم فهو ينضج ويتطوّر بلا حدود.
البدايات الأولى للرواية في عصر الرومانس كان الناس يقرؤون للتسلية وتذكية الفراغ بديلا لجلسات السمر في المجتمعات الرعوية التي تتناول حكايات العشاق ومغامرات الفرسان واللصوص وقاطعي الطريق. لقد عاشت الرواية بهذه المرحلة فيما عرف بروايات المدفأة. حيث كان الخيال الروائي مجانيا بلا وظيفة أو قل بوظيفة تناسب مجتمعات رعوية بسيطة.
لكن الرواية الحديثة أيقنت أن للخيال السردي وظائفَ أخرى أكثر أهمية مثل قضايا الواقع الإنساني الذي أفضى إلى اكتشاف الواقع الداخلي، فظهرت على أعقابه اتجاهات جديدة لا تخلو من الخيال كالوجودية والسوريالية والكابوسية المغرقة في الخيال كما عند كافكا وصادق هدايت في “البومة العمياء”. كما ظهرت الواقعية السحرية بوصفها ثورة على الواقعيات المؤدلجة. المغزى أن الأدباء لم يتخلوا عن الخيال وليس بإمكانهم ذلك.
فما الفارق بين هذه النزعة الحداثية للرواية وما قبلها الذي عرف بروايات المدفأة؟
الفارق هو نضج الخيال الأدبي، فقد أصبحت له وظائف أهم من التشويق والتسلية، والعلم الحديث كله ينهض على الخيال الناضج أو الوظيفي. كان الخيال الغريزي طريقا للتفكير عند الإنسان البدائي ليحفظ له الحياة لا أكثر، وفي مرحلة تالية أنتج الإنسان التفكير الأسطوري الذي انبثقت منه الدراما، واكتمل هذا التطور مع الرواية الحديثة فأصبح السرد طريقة للتفكير.
لقد قامت رواية المعرفة على هذا الأساس مثل اسم الوردة، العطر، اسمى أحمر، شيفرة دافنشي.. الخ، وكلها تقوم على جريمة أو ظاهرة غامضة تستدعى التحقيق فيها، وفي سياق التحقيق تتكشف معارف مدهشة. هنا يصبح للخيال وللإثارة وظيفة أسمى.. أما إذا توقف الخيال عند مجرد التشويق والإثارة فهذا نوع من النكوصية أو التثبيت الطفولي كما يسمّيه علماء النفس، ويجب أن ينظر إليه كظاهرة مرضية تحتاج إلى تفسير.
مثلا في سياق ما بعد الحداثة يوجد ما يعرف بعودة الأصوليات وتجاورها مع معطيات التقدم الذي فاق توقعات البشر وقدرتهم على استيعابه. إنها حالة نكوصية تعبّر عنها السينما الأميركية بسيل من الأفلام التي توظف أحدث تقنيات الديجتال في التصوير والخدع البصرية لا لشيء سوى لتستولي على مشاعر الناس وتدخلهم في صيغة إدمانية للإثارة أو الخوف.. الخ.
ما يحدث في السينما يحدث في الرواية، الإدمان المشاعري المعطل لتطور وعينا، وهذا هو التثبيت الطفولي.
لقد أعطت التكنولوجيا فاعلية مدهشة للخيال أثّرت على المخيلة لدى الأجيال الجديدة التي تربت على خيال فائق القدرة. إننا ذاهبون إلى العيش في عوالم افتراضية تماما تنهض أساسا على المخيلة.
الآن أمامنا طريقان، الأول نكوصي يتّسم بالخيال الحر اللعوب وما فيه من عشوائية وسذاجة، والثاني توظيف هذه الفاعلية المدهشة للخيال في نظام طليعي يدفع الوجود الإنساني إلى الأمام.
الخيال الآن لم يعد مجرد طريقة للتفكير فحسب، بل ينظر إليه بوصفه طاقة بشرية مستدامة، وعلينا أن نعرف كيف نستفيد بها فقط.