فتح النوافذ
لا شك في أن للرواية البوليسية اليوم وجودا مستقلا كجنس أدبي له ما يميّزه شكلا وموضوعا، نال اعتراف العديد من الدراسات الأدبية النظرية والتطبيقية (بورخيس، كايوا، ولسون، تودوروف، بيار…). وقد تبلور هذا الجنس الأدبي في القرن التاسع عشر (مع أن أصوله أو بداياته الأولى، يجدها بعض الباحثين قديمة جدا، فبيير بيار يرى في “الملك أوديب” الإغريقية البداية الأولى). إلا أن الرواية البوليسية بخصائصها الحديثة تكون قد تبلورت (كما وضّح مارك ليتس في كتابهLe roman policier, introduction à la théorie et à l’histoire d’un genre littéraire، ص 27) في القرن التاسع عشر مع إدغار آلان بو بفضل التطورات التي عرفتها المدينة الأوروبية ومعارفها وفنونها وتقنياتها ومناهجها في التحقيق والبحث عن الحقيقة؛ وعرف تطوّرات ملحوظة جعلت الدارسين يعملون على تصنيفه إلى أنواع وأشكال، إلا أنه غالبا ما يختزل تعريفه في اعتباره شكلا فنيا يطرح لغزا جرميا واحدا أو أكثر للحلِّ، ويتألف من مجموعة عناصر أساس: جريمة مستعصية على التفسير، ضحية، محقق، استدلال افتراضي-استنباطي، حلّ نهائي.
إذا كان صحيحا أن هذا الجنس الأدبي قد طاله التهميش النقدي والأكاديمي مدة طويلة حتى في دياره الغربية، على الرغم من انتشاره وشعبيته الواسعين، فإن الأصح أنه نال اهتماما لافتا نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الجديدة، وعلى الأخص في النقد والفلسفة والتحليل النفسي.
ومن أجل لفت الأنظار إلى الرواية البوليسية، كما إلى نقدها المعاصر، نتوقف قليلا عند هذه العلاقة الجديدة التي يؤسسها الناقد الفرنسي المعاصر بيير بيار، بوصفه ناقدا أدبيا ومحللا نفسيا، بالرواية البوليسية.
1 – من الكتب اللافتة التي أصدرها بيير بيار تلك التي كرّسها للروايات والمحكيات البوليسية، ويتعلق الأمر بثلاثة كتب “من قتل روجير أكرويد؟” (1998) (ترجم هذا الكتاب إلى اللغة العربية، وصدر بالقاهرة عن دار رؤية للنشر والتوزيع سنة 2015 بعنوان “الرواية البوليسية والتحليل النفسي، مَــن قتل روجيه أكرويد؟”)، و”تحقيق في قضية هاملت، أو حوار الصمّ” (2002)، و”قضية كلب آل باسكرفيل” (2008). ونشير بسرعة إلى أهمية هذه الكتب، وذلك بطرح سؤالين يبدوان ضروريين في هذا المقام: لماذا يهتمّ المحلل النفسي بالرواية البوليسية؟ لماذا يخصّ بالتحليل أعمالا أدبية (وخاصة رواية أجاثا كريستي “مقتل روجير أكرويد”، ومسرحية شكسبير “هاملت”) أسالت الكثير من المداد، ودرسها الكبار من النقّـاد؟
يتأمل بيير بيار تاريخ العلاقة بين التحليل النفسي والمحكي البوليسي، لافتا النظر إلى التأثير الباطني الذي مارسه الثاني على الأول، مشيرا إلى ثلاثة أعمال أدبية أثّرت كثيرا في نظرية التحليل النفسي: الملك أوديب، هاملت، الرسالة المسروقة، وهي في نظره أعمال أدبية “بوليسية” جعلت التحليل النفسي يتأسس على أساس فكرتين جوهريتين: الأولى تفيد أن إنتاج المعنى يعني أن تفكّ لغزا، والثانية أن هناك حقيقة موجودة في مكان ما وأن بحثا أو تحقيقا ما يمكنه إبرازها. ومن هنا، فوظيفة المحلّـل النفسي هي أن يفكّ لغزا وأن يبحث عن الحقيقة. وبمعنى آخر، لم يعد دور المحلّل هو دراسة العمل الأدبي أو كاتبه، بل إنه لن يكون محللا حقيقيا إلا إذا أدّى دور الباحث المحقّـق، منافسـا بذلك أكبر المحقّـقين في الأدب البوليسي.
وهكذا، ففي هذه الدراسات الثلاث، ينطلق بيير بيار من أسئلة أساس: ماذا لو كانت هناك حقيقة أخرى داخل العمل الأدبي “البوليسي” غير التي اقتنع بها القرّاء والنقاد لزمن قد يصل إلى قرون، كما في حالة هاملت لشكسبير؟ ماذا لو كانت الرواية البوليسية هي الأخرى مسرحـا للأخطاء القضائية والتحقيقات الخاطئة؟ ألم يسبق لفولتير أن قام بهذا النوع من التحقيق معبّرا عن تحفّـظاته من المسؤولية الجنائية للملك أوديب؟ ماذا لو كان المحقّـقون في الروايات البوليسية مخطئين في استدلالاتهم ومنطقهم وخلاصاتهم، كما هو الشأن بالنسبة إلى المحقق هرقل بوارو في رواية “مقتل روجير أكرويد”، أو كما هو الأمر بالنسبة إلى المحقق شرلوك هولمز في “قضية كلب باسكيرفيل”؟
هذه الأسئلة هي التي دفعت بيير بيار إلى وضع منطلقات جديدة للنقد النفسي للرواية البوليسية، من أهمها أن مهمّـة المحلّـل هي أن يقوم بتحقيق مضادّ، فالمجرمون، في الأدب كما في الحياة، قادرون على الإفلات من تحقيقات المحقّـقين، والشخصيات الأدبية ليست شخصيات ورقية، بل هي شخصيات حيّة يمكنها أن ترتكب جرائم من دون علم الكاتب المؤلّف، ولكن هناك دائما فرصة لإعادة التحقيقات من جديد وكشف النقاب عن الحقيقة.
وهكذا، ففي كتابه “تحقيق في قضية هاملت، أو حوار الصّـمّ” يطرح بيير بيار السؤال من جديد: مَــن قتل والد الأمير هاملت؟ وهل كلوديوس هو القاتل فعلا كما اعتقد القرّاء لقرون؟ ويخلص بيار في كتابه هذا إلى اتهام هاملت نفسه بقتل أبيه، استنادا إلى حجج ومنطق في التحليل يدفعان فعلا إلى إعادة النظر في القضية. وفي كتابه “قضية كلب آل باسكيرفيل” يفترض بيار أن المحقق شرلوك هولمز قد أخطأ في تحقيقه المشهور باتهام حيوان بئيس وترك القاتل الحقيقيّ يفلت من يد العدالة. وإجمالا، فبغير قليلٍ من السخرية، واقتناعا بأن الكُـتّاب لا يعلمون كلَّ شيء عن أعمالهم، يلاحظ بيير بيار كيف أن بعضَ الكُـتّاب قد يخطئون بخصوص مرتكبي الجرائم في أعمالهم، وهم بذلك يتركون المجرمين أحرارا!
ولا تعود أهمية هذه الدراسات إلى كونها تكشف الاسم الحقيقي للقاتل، بل إن قيمتها تتعلق بخاصيتين اثنتين: الأولى أنها دراسات تقترح علينا التفكير من جديد في عمل المؤوِّل أو القارئ وطريقة اشتغاله، والثانية أن بيير بيار نجح في تأسيس نوع جديد من النقد، نقد الرواية البوليسية، أو الأصح أنه استطاع أن يؤسس نوعـا أدبيا جديدا يقوم على ثلاثة عناصر: رواية بوليسية، كتاب حول القراءة، تفكير في التأويل. وهو نوع أدبي يمكن أن نسميه المحكي البوليسي النظري. ذلك لأن بيير بيار في كل دراسة من هذه الدراسات الثلاث نجده يقدم رواية بوليسية داخل الرواية البوليسية، وقاتلا وراءه قاتل آخر، وتحقيقا وراءه تحقيق آخر.
2 - هذا المنهج الجديد في نقد الرواية البوليسية كان قد بدأه بيير بيار في كتابه الأول من نوعه “من قتل روجير أكرويد؟”، وعنوان الكتاب دالٌّ على أن بيار يعود بالتحقيق إلى نقطة الصفر، فالقاتل الذي عيَّــنه المحقّـق هركيول بوارو في الرواية ليس هو القاتل الحقيقي، ومن هنا لا بد من العودة إلى نقطة البداية من قتل روجير أكرويد؟، أي لابدّ من محقق آخر (هو بيير بيار نفسه) يعيد النظر في ملف روجيه أكرويد، وينطلق بحثـا عن المجرم الذي لم ينله العقاب، كأنما على كلِّ قارئٍ، بعد قراءة رواية بوليسية، أن يمدَّ العدالة بكافة المعلومات التي يكون قد حصل عليها، ولم ينتبه إليها المحقق الأول أو كان قد أخفاها لغرضٍ من الأغراض.
ولأن الأمر يتعلق بتحقيقٍ مضاد، فإن كتاب بيير بيار “من قتل روجيه أكرويد؟“، يبدو كأنه “رواية بوليسية على رواية بوليسية“، كأنما الناقد يأتي بديلا للكاتب، كأنما الرواية تستبدل مؤلِّفها: كيف ذلك؟ دعونا نستكشف الأمر.
يحيل عنوان الكتاب “من قتل روجير أكرويد؟” على الرواية المشهورة للكاتبة الإنكليزية أجاثا كريستي “مقتل روجير أكرويد”، الصادرة سنة 1926. وفي هذه الرواية تحاول الكاتبة أن تكشف من خلال محقّـقها المشهور السيد بوارو (الذي كرّست له الكاتبة أكثر من ثلاثين رواية) حقيقة مقتل روجير أكرويد، لتصل في النهاية، هي ومحقّـقها، إلى أن القاتل هو السارد نفسه. وهذه الخلاصة هي التي لم يقتنع بها بيير بيار، داعيا إلى تحقيقٍ مضادٍّ، وإلى طرح سؤال المنطلق من جديد: مَــنْ قتل روجير أكرويد؟
وروجير أكرويد رجلٌ غني، أرمل، أحبَّ السيدة فيرارز، وطلبها للزواج، لكن يبدو أنه عرف أكثر ممّـا ينبغي له، فقد عرف أن المرأة التي أحبّـها قد قتلت زوجها الراحل بواسطة السمّ، وعرف أن شخصا ما يبتزّها، وجاءه الخبر الجديد بأن هذه المرأة قد انتحرت، ولما حمل إليه بريد المساء رسالة تضمّ اسم الرجل الذي كان يبتزّ السيدة المنتحرة، يأتي من يقتله ويتخلّص منه. وبالنسبة إلى السيد بوارو، المحقق في جريمة قتل السيد أكرويد، القاتل هو الدكتور شيبارد الذي ليس إلا السارد نفسه.
ولا شكّ في أن هذه النهاية التي انتهى إليها المحقق، ومن ثم الكاتبة، هي التي جعلت من هذه الرواية أشهر الكتب في التاريخ الأدبي، وهي التي تفسّر حضورها في دراسات نقّاد كبار من مثل رولان بارت وأمبرتو إيكو. ذلك لأن هذه النهاية تكشف أن القاتل هو الدكتور شيبارد الذي لم يكن موضع شكّ من قبل القرّاء، لسبب بسيط هو أنه هو نفسه السارد في هذه الرواية.
بهذه النهاية، تكون الكاتبة أجاثا كريستي قد خلقت المفاجأة، وهي عنصرٌ ضروريّ في هذا النوع من الأدب، لكنها بذلك تكون قد انتهكت عنصرا جوهريا في ميثاق القراءة الضمني الذي يربط بين مؤلِّف الرواية البوليسية وجمهورها، ومن مقتضيات هذا الميثاق أن القاتل لن يكون أبدا هو السارد. وفي رواية “مقتل روجير أكرويد” لم يكن القارئ ليتصور أن السارد الذي يجمعه به ميثاق ثقة هو القاتل نفسه.
وهكذا اقتنع الكلّ بأن السارد هو القاتل، واسمه هو الدكتور شيبارد، الذي قرّر أن ينتحر، بعد أن اتهمه المحقق هركيول بوارو. وبدا للقرّاء والنقّاد على السواء أنه لم يعد هناك من مجالٍ للتفكير في حقيقة القاتل، وأن المجال الوحيد الذي يبقى للدرس والتفكير هو بناء الرواية: كيف يكون القاتلُ هو السارد نفسه؟
وبعيدا عن الدراسات التي اقتنعت بالنهاية المقترحة من طرف المحقق هركيول بوارو، وانكبّت على معالجة المشاكل النظرية التي تطرحها خصائص البناء وخصائص السارد في هذه الرواية، هاهو محقّق غير مشكوك في أمره يدخل إلى خشبة المسرح، إنه بيير بيار الذي لم يقتنع بتلك النهاية، وقرّر لا الاهتمام بالمشاكل النظرية التي تترتب عن رواية تجعل السارد نفسه هو القاتل، بل قرّر أن يطرح السؤال من جديد: من قتل روجير أكرويد؟، وأن يعود بالتحقيق إلى نقطة الصفر، واضعـا النتائج التي توصل إليها المحقق، وبالتالي الكاتبة، موضع شكٍّ وسؤالٍ، مفترضـا أن عالم الرواية يتجاوز الحدود التي يضعها له مؤلِّفه.
في كتابه “مَــن قتل روجير أكرويد؟” يعيد بيير بيار البحث والتحقيق غير مقتنع بأن الكاتبة على علمٍ بكلّ شيء، وواضعـا يده على تناقضات المحكي والشخصيات، وكاشفـــــا النقابَ عمّا أصاب المحقق، والقارئ أيضا، من عمى أمام أمور وقرائن واضحة وبديهية، ومتسائلا في النهاية ما إذا لم تكن “أنا” هي “آخر”.
وهكذا، وتبعـا للتحقيق الذي أجراه بيير بيار، واستنادا إلى حجج واضحة في النص، فإن القاتل الحقيقي هو كارولين شيبارد، أخت الدكتور شيبارد الذي اتهمه المحقق هركيول بوارو. فهي، مقارنة بأخيها، العنصر الأقوى في العائلة، وتلعب دور الأمّ بالنسبة إلى أخيها، وهي مستعدة للقتل من أجل حمايته، وشخصيتها أقرب إلى شخصية القاتل. وبينها وبين أخيها علاقة حبّ متبادل: هي التي قتلت أكرويد لأنه كان يعرف أن أخاها الدكتور شيبارد يبتزّ السيدة فيرارز، وأخوها الطبيب يتهم نفسه، أو يقبل أن يتّهم بالقتل، وينتحر لحماية أخته، القاتل الحقيقي. وبهذا تتحول الحكاية في هذه الرواية من حكاية أموال قذرة إلى حكاية حبّ متبادل بين أخ وأخته. ويمكن بالمعنى النفسي أن نقول إنهما شخصية واحدة، وهي المسؤولة عن موت روجير أكرويد.
وهكذا، فالحقيقة الوحيدة في رواية أجاثا كريستي هي مقتل روجير أكرويد، وتبقى البقية موضع تأويل. والتأويل الذي تبنّاه المحقق بوارو ليس خاطئا فحسب، بل هو جريمة قتل، ذلك لأنه التأويل الذي دفع الدكتور شيبارد إلى الانتحار. وفي نظر بيير بيار، ليست هذه هي المرة الأولى التي يقتل فيها هركيول بوارو، ففي رواية “الستارة” قتل رجلا ببرودة دم بعد أن عرف أنه المجرم، لكن الجديد في رواية “مقتل روجير أكرويد” هو أن تأويل المحقق بوارو لم يكن محكمـا وصارمـا، كما يدّعي، بل إنه كان نوعــــــا من الهذيان العنيف الذي أجبر الدكتور شيبارد على الانتحار.
لا تعود أهمية كتاب بيير بيار “من قتل روجير أكرويد؟” إلى كونه يكشف الاسم الحقيقي للقاتل في رواية أجاثا كريستي “مقتل روجير أكرويد”، بل إنه من خلال ذلك يدعو إلى التفكير من جديد في عمل المؤوِّل أو القارئ وطريقة اشتغاله، لافتـا النظر إلى موضوع نظري هامّ: التأويل باعتباره هذيانا.
في التصور الفرويدي، الهذيان هو أقلّ من الجنون، أو أنه نقيضه وضدّه، فهو محاولة في تنظيم الجنون. وبهذا المعنى، فكل هذيان إلا ويتأسس على صوغ نظريّ ما، كما أن كلّ عملٍ نظريّ إلا ويتنظّـم بجزء من الهذيان. وإذا كان الأمر كذلك، تبعـــــا لهذا التصور، فهل يمكن أن نسائل بيير بيار، الذي أعلن أن صوغه النظري سيكون جادّا وصارمـا وبعيدا عن الفرضيات الهذيانية والشعرية: أليس في بحثه وتحقيقه المصاغ صوغـا نظريا محكمـا جزء من الهذيان الذي اتّهم به بوارو في تأويله؟ ألا يمكن أن نعتبر هذيانـــــا هذه الرغبة عند المؤوِّل في تحويل حكاية المال القذرة إلى حكاية حبٍّ عجيبة؟
ومع كل ذلك، يبقى بيير بيار هو هذا الناقد الذي يجمع بين التخييل والتنظير بطريقة مدهشة، ويزاوج بين الشك والإصغاء الحكيم للكلمة، كلمة الآخر؛ ويدعونا في كل مرة إلى عدم التسليم بسهولة، وعدم الاقتناع بالحقائق التي تُــقدَّم إلينا، وأن نتعلّـم البحث عن الحقيقة بأدوات مغايرة، وأن نتّخذ من اللعب أو السخرية أسلوبـا في التحليل والتفكير.
ولا ينبغي لنا أن ننسى أن الفرضية التي انطلق منها بيير بيار في هذا الكتاب لا تستمد قوتها إلا من كونها تقترح، باكتشافها قاتلا آخر، نهاية أخرى للرواية دون أن “تخرج ” عن النص، بل إنها تلتزم بالنص في حرفيته وكليّته، كأنما الأمر يتعلق بإعادة كتابة الرواية من ألفها إلى يائها: رواية بوليسية على رواية بوليسية.