جمهورية لا مملكة
“جمهورية مش مملكة”، أوّلُ الشّعارات التي سمعتها بعد لحظات من وصولي إلى العاصمة الجزائر في أوّلِ جمعة بدأ فيها الجزائريون التظاهر ضد عهدة خامسة للرئيس بوتفليقة كاسرين بذلك حاجز الخوف والحظر على التجمهر الذي استمر لعقدين.
كانت العاصمة -كعادتها عشية كل جمعة- مدينةً تتثاءب لم تدرك أنّها على موعد مع التاريخ حين قرّرت حشودٌ شبابية غفيرة التّجمهر في الشوارع والساحات العامة رافضةً التمديد لرئيس لم يخاطِب شعبه منذ سنوات وترك البلاد بيدِ عصابات مافيوية بدّدت المال العام واخترقت المؤسّسات واحتكرت القرار السياسي، وتركت للنّاس طوابير الحليب ورداءة الخدمات والتدافع ليلا عند الشواطئ للهروب إلى الضفة الأخرى بحثا عن المعنى وأفق مضيء لم يجدوه في أكبر دولة عربية وأفريقية باتت سجنا واسعا ومظلما.
لم ينتظر الشّباب الجزائري بيانا من مثقفٍ يحرضهم على التمرّد، بل المثقف تفاجأ بتلك الهبة غير المتوقعة بينما كان منشغلا بالتّنظير لخطر الأصولية.
قبل حوالي ثلاثين سنة عاشت الجزائر تحوّلا عميقا عقب احتجاجات أكتوبر 88، وجدت السّلطة نفسها مجبرة على تقديم تنازلات جمّة أبرزها التعددية الحزبية وحرية الصحافة.
وسط هذا الزخم غير المسبوق في تاريخ البلاد التي أدارها العسكر بعد الاستقلال بقبضةٍ أمنيةٍ صارمة وعبر جهازها ”حزب جبهة التحرير الوطني” برصيدها النضالي ودعايتها الشّعبوية واحتكارها للمشهد السياسي، برزت حالاتٌ عديدة من الرّفض والرغبة في الانعتاق من سلطة الحزب الواحد التي انتهت إلى آلة بيروقراطية غير مدركةٍ لتفاصيل المشهد الوطني.
كلُ ما حدث مطلع التّسعينات هو تجل لمدى التآكل الرهيب الذي أصاب بنيةَ النظام وجعل الناس تبحث عن بديل يقطع نهائيا مع سلطة شاخت وأصابها نفس الورم الذي عانت منه الأنظمة الثّورية والاشتراكية في العالم بدءا من الاتحاد السوفييتي. لم يكّن فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ بعد أوّلِ انتخابات تعددية في البلاد إلا إفرازا موضوعيا لإفلاس النظام وعدم جاهزيّته لتحولٍ ديمقراطي يفتقدُ لأدنى مراجعات سياسية وفكرية فشلت في تقديم تصوّرٍ عقلاني لجزائر ما بعد 1988.
عقب توقيف المسار الانتخابي وتدخّل الجيش واستقدام الراحل محمد بوضياف ليكون واجهة لسلطة الأمر الواقع ثم اغتياله في ما بعد، دخلت الجزائر مجدّدا إلى الثّكنة واستعاد العسكري سطوته على المشهد وأعاد ترتيب بيته لكي يتفرّغ لمعركته مع الظّلاميين، تلك العشرية كانت جرعة حياة أنقذت النّظام وباسم شرعية مكافحة الإرهاب استعاد توازنه وتمكّن من ضبطِ آلياته في تسيير البلاد.
نجحت العلبة السّوداء للنّظام في إقناع بوتفليقة سنة 1999 بتولّي شؤون البلاد وقدّم وعدا بإعادة السلم والقضاء على الإرهاب. بعد العهدة الأولى لبوتفليقة حدث أهمُ شرخٍ في طبيعة سلطة القرار خاصة بعد الإطاحة بقائد أركان الجيش الفريق محمد العماري واستبعاد عرّاب السلطة العربي بلخير.
انتصارُ بوتفليقة على من جاؤوا به جعل السّلطة منذ رحيل بومدين في قبضةِ رجل واحد، دجّن الجميع وعمّم ثقافة الولاء والرشوة السّياسية مستفيدا في ذلك من ارتفاع مداخيل المحروقات وجمود السّاحة السّياسية التي فقدت دورها عقب إلغاء المسار الانتخابي وتحوّلها إلى معارضة موسميّة كل ما تجيدُ فعله مغازلة النّظام للحصول على بعض من فتات الرّيع ربما باستثناء الراحلين حسين آيت أحمد وعبدالحميد مهري.
لم يرغب أحدٌ في التّشويش على بوتفليقة باعتباره صاحب مشروع المصالحة الوطنية، لكن بعد إعلانه تعديل الدستور سنة 2008 دون العودة إلى الشعب وإصراره على البقاء في السّلطة لعهدات أخرى ليستكمل مشاريعه المزعومة، خلق موجة رفض وإن كانت خجولة لحالة استبداد قيد التشكل لا مبرّر لها إلا رغبات نرجسية للخلود في الحكم.
مرّت عهدة بوتفليقة الثّالثة دون أن يتحقّق ما وعد به من تسليم المشعل للشّباب واستبعاد ما يسمى جيل الشّرعية الثّورية بل تعمّق البؤس وأصبح الفساد مقنّنا وزاد الاحتقان خاصة بين الشّباب بالإضافة إلى موجاتِ احتجاج لقطاعاتٍ عديدة خاصة الصّحة والتّعليم، ونجح النّظام في تجاوزها معتمدا على مداخيل النّفط في شراء الذّمم وإسكات المحتجّين وفتح البنوك للشّباب من أجل الحصول على قروض مالية أو ما أصطلح عليه بـ”شراء السلم الاجتماعي”.
وسطَ هذا التّململ كانت بوادر الرّفض تنتعش أكثر وعبّرت عنها بوضوحٍ جماهيرُ كرة القدم بشعاراتها المناهضة للسّلطة ورغبتها الشّديدة في رحيلِ النّظام وحلمها بالهجرة إلى أوروبا هربا من الفساد والبطالة بالإضافة إلى احتجاجات واسعة في الجنوب الجزائري ضد التّهميش واستخراج الغاز الصّخري.
الدور الكبير الذي قامت به الجماهير الرّافضة لسلطة الأمر الواقع خلقَ وعيا جديدا يطمحُ للتّغيير فشلت النّخب في تكريسه معتبرة شبابَ المدرجات حالةً رعاعية لا تنتجُ وعيا وتنزع للعنف.
لحظة الإعلان عن ترشّح بوتفليقة لعهدة خامسة كانت هناك تراكماتُ غضبٍ ورفض لسلطة شاخت ونابت عنها مافيا خفيّة اختطفت البلاد ونهبت مقدراتها وأجهزت على ما تبقى من المؤسسات ودخلت -بسببها- البلاد في حالة مخيفة من العبث والانزلاق نحو هاوية مظلمة خاصة بعد تراجع عائدات النّفط وبروز طبقة سياسية لم تخف احتقارها للشّعب وإصرارها على البقاء في الحكم وتهديد الشّعب بالمآلات الدمويّة التي تعيشها بلدان الربيع العربي والتّلويح بالعشرية الدامية التي لم يعايشها الجيل الذي ولد قبل نهاية الألفية وعاصر بوتفليقة طيلة فترة حكمه التي تجاوزت ربع قرن. جيل تربى بعيدا عن دعاية النّظام وأبواقه التّدجينية ويجيدُ استعمال الميديا الحديثة ومنفتحٌ على العالم وتجارب البلدان النّاجحة التي يحلم بمواكبتها، جيلٌ يؤمن بجمهورية ثانية لا مكان فيها لبوط الجنرال ولا لتأميم الحكم بشرعيات كاذبة مستهلَكة، ثم أن الفزّاعات الدموية التي تروّج لها نخب النّظام لا تنطلي عليه.
فشل الأحزاب في التصدي للطغم الحاكمة وعدم تشكل مجتمع مدني فعال وإفلاس وانسحاب النخب من المشهد وتلاشي سرديات التغيير، من الأمور التي أفرزت جيلا يراهن على نفسه في التغيير سلميا والقطع مع الفساد ورموزه والتأسيس لجمهورية ثانية حقيقية تستوعب أحلام الشباب وتعيد لهم ثقتهم بأنفسهم والتفكير في غد ملون بشارات الحلم كالتي رفرفت طويلا في حواضر ومدن الجزائر الجديدة.