سيكولوجية تدمير الذات
هل من الممكن أن يدمّر الإنسان نفسه بدون وعي منه؟ هذا ما نناقشه في السطور التالية، فأساليب التفكير تقود الإنسان إلى النعيم أو الجحيم، ولهذا نعرض في هذه المقالة الخطوات والمراحل التي من شأنها أن تقود الإنسان إلى تدمير الذات. مستعيدين معاً هذا المقطع من نيتشه “وما نظرت إلى المرآة حتى صرخت وخفق قلبي خفوقاً شديداً، لأن ما انعكس في المرآة لم يكن وجهي، بل وجه تقطبت أساريره بضحكة شيطان آخر”.
كل فرد يتعرض لضغوط مختلفة في الحياة وهذه الضغوط ناتجة عن الحياة المعيشة والمشكلات العديدة التي يتعرض لها الفرد في حياته، ومن هنا يظهر القلق نتيجة هذه الضغوط، وهنا لا بد من التعرف على الضغوط أوّلا فهي تمثل حالة من الضيق والاختناق الناتج عن عجز الفرد عن تأدية الواجبات والمتطلبات الملقاة على عاتقه، أو عجز الفرد عن تأدية الواجبات لكثرتها وتنوّعها مما يؤدى إلى ردود فعل سيئة نفسيا وجسميا على الفرد وشعوره بالقلق والتوتر وعدم التوازن النفسي، مما يؤدى إلى فقدان السيطرة على النفس والجسد وتظهر الاضطرابات والأمراض النفسية والجسدية.
ونأتي للقلق وفى هذا الصدد لا بد أن يفرّق القارئ بين نوعين من القلق أولهما هو القلق الصحي وهو قلق محمود حيث يظهر عند تعرض الفرد لموقف ضاغط مثل الامتحان فيدفعه للعمل والإنجاز فهو يوجه الفرد إيجابيا، أما القلق العصبي فيعرفه عبدالستار إبراهيم -بروفيسير علم النفس- على أنه انفعال شديد بمواقف وأشياء لا تستدعي بالضرورة الانزعاج، والشخص في حالات القلق العصابي يجد حياته الوجدانية والفكرية والاجتماعية نهبا لهذا الشعور بحيث قد يجد الشخص نفسه عاجزاً عن الحركة الإيجابية والتفاعل العادي بالحياة، ومن أعراضه الانفعال الشديد وعدم الاستقرار النفسي والتقلب الانفعالي، وعادة يظهر هذا القلق لدى الأشخاص الذين يتعرضون لضغوط مستمرة.
وتتطور حالة القلق إلى حالة من الخوف ويُشرح لنا شاكر عبدالحميد في كتابه الرائع “الغرابة” حالة الخوف فهي أحد الانفعالات الأساسية الكبرى، والتي تشتمل أيضا على: السرور والغضب والحزن، ويشير الخوف -عامة- إلى أخطار واقعية مدركة أو متخيلة، وهو يختلف عن القلق، الذي يظهر بشكل غير متناسب مع التهديد أو الخطر الفعلي المتضمن في موقف ما، وقد يظهر الخوف نتيجة للتعرض لمواقف محدثة للصدمة، أو نتيجة ملاحظتنا أشخاصا آخرين يتعرضون لمواقف مخيفة ويكشفون عن مشاعرهم الخاصة بالخوف.
وقد يحدث الخوف أيضا نتيجة تلقّينا معلومات مثيرة له، ويؤدى التعرض المتكرر أو طويل الأمد للخوف إلى حدوث اضطرابات انفعالية وإلى ارتفاع مستويات القلق لدى الخائفين. ثم يتطور الخوف ليصبح حالة من الذعر ويعرف الذعر بأنه حالة من الخوف والفزع. وفي الحديث “لا يزال الشيطان ذاعرا من المؤمن” أي ذا ذُعر وخوف، أو هو فاعل بمعنى مفعول، أي مذعورا، وامرأة ذعور، أي تَذعر من الريبة والكلام القبيح. هذه السلسلة من الحالات تحدث عند تعرض الفرد للضغوط بشكل مستمر ومتلاحق.
تجارب الضغوط
قام علماء النفس بتجربة على الغوريلا كان الهدف منها ملاحظة تصرفها في المواقف الضاغطة وكان اختيار الغوريلا في التجربة لأنها تتسم بالقوة الكبيرة وكذلك لأنها من أكثر فصائل القردة ارتقاء، وكانت التجربة كالتالي تعرض الغوريلا لمواقف ضاغطة بشكل مستمر مثل الصعق الكهربائي وكذلك وقوع الأشجار عليها وهكذا، وكان رد فعل الغوريلا على كل المواقف الضاغطة كالتالي عند بدء المواقف الضاغطة في الظهور كان هناك رد فعل يتمثل بالخوف وبعدها بدأت في ترقب الأحداث من حولها ومن أي جهة سوف تأتى الضغوط.
ومع استمرار الضغوط بشكل متلاحق بدأت الغوريلا في شد كل عضلات جسدها وأظهرت القوة المفرطة في مواجهة الضغوط بالقوة، فوجدت أن الضغوط مازالت مستمرة بشكل متلاحق فأدركت أن قوتها أصبحت هشة لمواجهة هذه الضغوط، ورغم ذلك حاولت تجميع كل القوة المتبقية لديها، وأظهرت قوة مرة أخرى لمواجهة الضغوط عليها وبعدها ظلت في مكانها، وفشلت في مواجهة الضغوط من حولها.
وهناك تجربة لعالم النفس الشهير سيلجمان على الفئران وهى كالتالي، وضع سيلجمان طعاما لفأر وعندما تحرك الفأر تجاه الطعام كان يعطيه صدمه كهربائية ومع تكرار الصدمات عدة مرات جعلت الفأر لا يتحرك ولا يبالى عند أخذ الصدمة، وحتى بعد أن أوقف الصدمات الكهربائية ووضع له الطعام فكان الفأر ثابتاً لا يتحرك تجاه الطعام، وعرفت هذه الحالة بحالة اليأس المكتسب.
الشخصية المنقسمة
ويعرض لنا شاكر عبدالحميد طبيعة الشخصية المنقسمة ويعرض دراسة لعلماء النفس على هذه الشخصية، حيث ركز علماء النفس على فكرة الذات أو الأنا، وقالوا إن اختلال الشعور بالشخصية هو دال على إحساس ضعيف غير متكامل بالأنا أو الذات ناتج من صراعات خاصة بعدم الكفاءة وعدم التكامل بين مكونات الذات من ناحية، وبينها وبين الواقع من ناحية أخرى، وقد نظر علماء كثيرون إلى هذه الحالة على أنها آلية دفاعية يقوم بها المرء ضد مجموعة من المشاعر والصراعات والخبرات السلبية عندما تعجز الآليات الدفاعية التكيّفية الأخرى عن القيام بدورها، أي أنها نوع من الدفاعات التي تقيمها الذات لحماية نفسها من القلق ومصادره المتنوعة.
وأضاف فرويد إلى ذلك أيضا قوله إن اختلال الشعور بالشخصية يقودنا نحو حالة غريبة خاصة (بالضمير المزدوج)، وهي تلك الحالة التي يمكن وصفها على نحو دقيق بأنها “شخصية منقسمة”، اختلال الشعور بالواقع (Derealization) واختلال الشعور بالذنب أو الشخصية (Depersonalization).
إن الشعور بالانفصال أو الانعزال والغرابة، وكذلك الوعي بهذا الانفصال، هو جوهر هذه الحالة ولها أعراض هامه تدل عليها ومنها:
- اختلال الشعور بالواقع، أو الشعور بأن العالم الخارجي نفسه غريب أو غير واقعي.
- الماكروبيزيا (Macropasis) والميكروبيزيا (Micropasia)، وهو نوع من الشعور بالتحول الغريب والتبدل في أحجام الأشياء وأشكالها بحيث تبدو أحيانا أصغر من حجمها مثلا (الميكروبيزيا)، وأحيانا أكبر (الماكروبيزيا).
- الآلية الشعورية: قد يشعر بعض الأفراد هنا بأن الآخرين يبدون لهم غير مألوفين.
خطوات على طريق تدمير الذات
تعرض لنا الدكتورة منال عمر -أستاذ الطب النفسي- إحدى عشرة علامة أو مرحلة للفرد الذي يقع تحت ضغط، ولا يستطيع التوافق معها فتؤدى به إلى حالة من تدمير الذات، وهذه الحالة وقعت في براثنها شخصيات كتب التاريخ اسمها وكان لها أثر في العالم على مختلف المجالات وخاصة المجال السياسي، ولكن انتهت حياتهم بتدمير الذات.
- القلق العام
وهو حالة من الارتباك والقلق الدائم تأتى لدى الفرد عند وقوعه تحت ضغط ما، وقد شرحنا هذه الحالة بالتفصيل في مقدمة المقال.
- الترقب
وهي حالة من الارتباك والقلق الحاد حيث يترقب الفرد من حوله وكل الأشياء المحيطة به، لإدراك أيّ ضغوط تأتي له. فهو دائما يترقب ما الذي يحدث ومن أيّ اتجاه سوف تظهر الضغوط عليه. (مثل ترقب الغوريلا لمصدر الضغوط).
- التشتت “ارتباك القرارات”
وهنا تزداد حالة القلق عند الفرد، وعدم القدرة على السيطرة على التفكير الحكيم يؤدى إلى حالة من التخبط الشديد في أخذ القرارات التي قد تكون غير مدروسة بشكل كبير مما يؤدى إلى انفجار الأزمة أكثر من حلها.
- عدم تقبل الآخر
وهي مرحلة مهمة جداً في تدمير الذات حيث يكون الفرد غير قادر على تقبل رأي الآخر على الإطلاق، وقد ينظر له بنظرة العداء، ويظل دائما يشك في كل من حوله وآرائهم.
- تجمد المشاعر
يجد الفرد نفسه لا يبالى بالآخر على الإطلاق وغير قادر على التعاطف معه لأنه يكون في حالة من الانغماس في المشكلات الذاتية والضغوط المستمرة التي تقع عليه فضلا عن حالة التشتت في التفكير.
- الشك
تنتاب الشخص حالة من الشك المستمر بكل من حوله وكل الآراء التي يتلقاها من المحيط الخارجي، وهنا يبدأ في الخسارة الفادحة للمعاونين والمقربين والأصدقاء وقد تصل إلى أفراد الأسرة.
- ذاتية التفكير
وتتمثل هذه الخطوة في التعصب الشديد للآراء الشخصية والدفاع عنها بشكل مستميت لإظهار القوة والحكمة ولكنها في الحقيقة قوة واهية أو غير حقيقية.
- العنف والهجوم
يسيطر العنف والهجوم الشديد على الفرد ضد كل من يخالفه الرأي ويصبح الفرد قاسياً جدا في الهجوم حتى على أقرب المقربين منه.
- الصدام مع الآخر
الهجوم الدائم المستمر على الآخرين لا بد وأن ينقلب إلى صدام حاد بين الفرد وكل من حوله.
- العدوان تجاه الآخر
يصبح الفرد عدوانياً ويظهر هذا العدوان بشدة لإثبات قوته وهيمنته على الموقف وقد يتطور العدوان لدرجة القتل.
- الخلاص
وهي حالة تتشكل من التشتت والتشويش في التفكير بشكل كبير تتطور عادة هذه الحالة إلى عدوان شديد وصدام حتمي مع كل من حوله وسماع الصوت الذاتي فقط. أو تنقلب هذه الحالة إلى حالة عدم المبالاة والإنكار الشديد، فيظل الإنسان يبتسم ويضحك بشكل هستيري، دون أن يبالي بشيء من المشكلات التي تقع على عاتقه، وفي الحالتين يكون الخلاص هو تدمير الذات بشكل حتمي.
إن إدراك الضغوط بشكل فعّال ومنظم وعقلاني هو الذي يحافظ على بقاء الذات فالهروب من الضغوط دون انتصار أو هزيمة في لحظة ما يكون ضروريا جدا للحفاظ على الذات، وهذا الأمر غاية في الأهمية لأن هذه الخطوات السابقة قد مرّ بها أشخاص كانت تحكم العالم، وأثبتت الأبحاث العلمية أنّ من يمرّ بهذه المراحل حتما سوف ينتهي بتدمير ذاته. إن دوافعنا الغريزية تؤدى بنا في بعض الأحيان عند التعرض للضغوط إلى عدم القدرة على الانتصار والهزيمة، والحفاظ على الذات يكون عن طريق الخروج أو الهروب من الضغط، وتتمثل هذه الحالة -في رأى الكاتب- في حالة الإغماء؛ حيث أن الجهاز العصبي والمخ والجسم يتعرض لمثيرات كثيرة لا يستطيعون إدراكها، هنا تأتى لحظة الإنقاذ وهي الهروب من الضغط المستمر، ويتمثل الهروب هنا بالإغماء وهذا للحفاظ على الإنسان من الموت.
ومن كل ما سبق فإن هذه التجارب توضح أخطاء التفكير في إدارة الضغوط المستمرة لأن كلاّ من الغوريلا والفأر لم يستطيعا تجنب الضغوط أو البعد عنها وإنما حاولا مقاوماتها حتى لو كان من المدرك أن القوة لا تنجح في منع الضغوط فيظل مواجهاً لها بشكل عنيف حتى ينتهي الأمر بهم إما بحالة اللامبالاة واليأس المكتسب مثل حالة الفأر، أو حالة تدمير القوة والذات مثل حالة الغوريلا.