تحديات الرواية البوليسية العربية وعوائقها
تشكّل الرواية البوليسية رافداً مهماً من روافد الكتابة الروائية، بل إنها تكاد تعدّ معيناً إبداعياً نظراً لكونها تقترب من النمط الاستهلاكي الذي يعني في جانب من جوانبه عائداً استثمارياً نظرا للفعل الاستهلاكي، بالإضافة إلى ما تتمتع به من مقروئية عالية من قبل القراء على اختلاف مرجعياتهم العمرية والثقافية، في حين أنها تشكل أيضاً مصدراً للأعمال السينمائية أو الفنية التي تعتمد على هذا النوع الروائي في استقطاب المشاهدين تبعاً للجاذبية التي تتميز بها الأعمال المقتبسة عن حبكات بوليسية.
ولعل تقاليد إنتاج الرواية البوليسية واستهلاكها يعود إلى قرنين من الزمن، ولاسيما مع تطور التشكيل المديني في الغرب، وبالتحديد مع الثورة الصناعية التي شكلت صيغ المدن بطابعها المعاصر والمعقد.
يشار إلى أنه قد انطلق هذا النوع من الفن على أيدي كتاب منهم كونان دويل، ومن ثم اشتهر على يد أجاثا كريستي، وغيرهما من الكتاب، غير أن هذا النوع من الكتابة في العالم العربي يبدو متواضع الحضور أو أنه لا يحظى بالقيمة عينها في العوالم الأخرى، وقد أشار إلى ذلك شعيب حليفي في دراسة له نشرت في “مجلة فصول” العدد 76 حيث لا ينكر استفادة الرواية العربية من الثيمة البوليسية أو الجريمة ومكوناتهما لدى كبار الكتاب في العالم العربي ومنهم نجيب محفوظ ويوسف السباعي ويوسف إدريس وإبراهيم عبد المجيد وغادة السمان وغالب هلسا وميلودي حمدوشي.
ما سبق يدفعنا للتساؤل عن الأسباب الكامنة وراء هذا التأخر في إنتاج كتابة ذات مردود عال من حيث العائد الفني والمادي، بالتجاور مع وجود قاعدة تلقّ كبير في العالم العربي بيد أن الإنتاج لم يرق إلى المستوى المطلوب، ولم تتمكن الكتابة العربية من الإفادة من هذا النوع، وأقصد هنا على المستوى الاقتصادي، فهذا النوع من الكتابة يعدّ منتجاً شديد العوائد، وهذا ما يعني بأن المؤسسة العربية لم تطور منظومة تتمكن من جعل الكتابة مصدراً للإثراء.
هذا الاستنتاج يكاد ينسحب على واقع الثقافة العربية برمّتها حيث الكاتب العربي غير قادر على أن يفيد من منتجه الإبداعي، في حين أنه يعاني في سبيل نشره، وربما يتكلف الكثير من المال والجهد، ما يعني بأن الكتابة في العالم العربي لا يمكن أن يعوّل عليها أو أن تعدّ مصدر دخل حقيقي.
ثمة من الدارسين من يرى بأن محدودية الإنتاج مقابل الزيادة في الطلب على هذا النوع من الكتابة أقرب إلى المفارقة التي تحتاج إلى بحث وتأمّل.
فثمة كثير من التوجهات أو الآراء التي تحيل هذا التواضع في الكتابة البوليسية إلى التأخر المتصل بولادة الرواية العربية، وبناء عليه فإن الرواية البوليسية تندرج في سياق هذا التمثل الطبيعي لتطور الفنون، بيد أن هذا ربما لا يبدو وجيهاً كون الكتابة العربية على مستوى الرواية على اختلاف أنماطها أو أشكالها تبدو حاضرة في المشهد العربي المعاصر، وهذا ما يدفعنا للبحث عن أسباب أخرى، ما يحلينا إلى عوامل تتصل ببنية المجتمع العربي وتكوينه الاجتماعي والسياسي كما الثقافي.
لقد سعت مجلة فصول في عددها الخاص بالرواية البوليسية إلى استطلاع بعض آراء الروائيين فيما يتعلق بتفسير تراجع هذا النوع من الكتابة، إذ يعزو بعض النقاد الأسباب إلى عدم توفّر أدوات الكتابة، ومن ذلك توفّر ثقافة الاستعانة بمحقق خاص، كما إجراءات التحقيق، ومتطلبات هذا العمل، في حين هناك من يرى بأن ثمة عوامل تتعلق بطبيعة المجتمع المسالم الذي يترك الأمور للتصاريف القدرية تبعاً للثقافة الدينية السائدة، في حين أن هناك من يرى بأن هذا النوع من الكتابة لا ينال تقديراً في الذاكرة العربية النقدية، كما على مستوى التلقي، حيث لا ينظر له من منظور أنه يمثل الأدب الذي يتميز بالثقل والاحترام، وهناك من يرى افتقارنا إلى مناخ الديمقراطية والحرية، ولعل الرأي الأخير الذي يتبناه الكاتب عبدالإله حمدوشي يبدو أقرب إلى الوجاهة أو المنطقية، كون الرواية البوليسية نتاجاً حضارياً، كما أنها تنتمي إلى بنية مجتمعية ذات تمثيل معقد من حيث التمثلات والممارسات الحضارية حيث يمكن القول إن بنية المجتمع العربي في تكوينها العميق لم ترق إلى مستوى المدنية الكاملة.
يشار إلى أن الكتابة البوليسية في تعريفها تتصل بنوعين: هما رواية الجريمة والرواية البوليسية، أو رواية المحقق، فالأولى تعتمد على حكاية مركزها الجريمة، في حين أن الثانية تعنى بالتحقيق في الجريمة مع محاولة اكتشاف القاتل، وبين الحكايتين ثمة دوماً قيمة أو رسالة عميقة تتسلل إلى بنية النص كي تجعل من الفعل السردي -القائم على الحدث والتشويق والألغاز- محوراً للعمليات السردية التي ينبغي أن تعمل بوصفها حاملة للفعل الدلالي، وفي معظم الكتابات الغربية التي تختص بهذين النموذجين ثمة دوماً منظور فلسفي أو قيمي يتعلق بتساؤلات تطال حضور الإنسان في هذا العالم، كما أنها تعكس توجهاً قيمياً لنقد بعض السلوكيات القيمية.
وبناء على ذلك فإن هذا النوع من الكتابة لا يعني شكلاً من أشكال التسلية المجانية أو العبثية كما تعتقد الذاكرة العربية، إنما يجب أن ينطوي على قيمة ما، وهذا ما يمكن أن نلتمسه بوضوح في أعمال أجاثا كريستي على سبيل المثال.
إن بنية المجتمع تتصل بمستوى انتشار هذا النوع من الكتابة، فالرواية البوليسية تنطلق من منظور متعدد يطال الحضور الإنساني في عالم مسكون بالشر والجريمة، وفي الغرب فإن محاربة قيم الشر لا تقتصر على المستوى المؤسساتي فحسب، إنما هو عمل مجتمعي يتشاركه الجميع؛ ولهذا سنجد أن الشخصيات التي تشكّل محور الفعل السردي، ونعني المحقق الرئيس، تنطلق دوماً من مواصفات تقترب من الموهبة الخارقة، كما الذكاء، غير أنها تحمل شكلاً من أشكال الانبعاث القيمي لمحاربة الجريمة، وغالباً ما يبدو هذا المحقق (الذكي) في تواصل مستمر مع المؤسسة الرسمية ممثلة في قسم التحقيقات أو الشرطة التي ربما تتخلف عن اللحاق بموهبة هذا المحقق فتستعين به -في كثير من الأحيان- مما يعني بأن هذا الفعل لا ينطوي على أيّ انتقاص من هيبة المؤسسة التي ينبغي أن تدرك أو تثمّن قيمة الفعل التشاركي، فضلاً عن كون بنية المؤسسة أو الدولة مستقرة بحيث لا تستشعر حرجاً من هذا الفعل الخارج عن نطاق هيمنتها أو سلطتها، إنما ترى فيها أمرا طبيعياً كون المجتمع جزءاً من منظومة كبرى تهدف إلى تحقيق الأمن.
إذا ما نظرنا إلى هذا النوع من الكتابة في الثقافة العربية فسنجد أن بنية المجتمعات العربية الناشئة بعد الاستعمار إلى الآن لم تتصل حقيقة بمعنى القيم المؤسساتية التشاركية، فهي لا تقبل بوجود أيّ قوة أخرى يمكن أن تضعف من هيبتها أو تنال من حضورها القويّ.
فوجود جزئية المحقق وفقدان القدرة على التوصل لحل الجريمة يعني بأن المؤسسة الأمنية تعاني من اختلال في تمكين القوة التي تخضع لنسق دكتاتوري، في حين ثمة نماذج في بعض الدول العربية ترى في الجريمة أمراً مجتمعياً يمكن أن يسند الأمر فيه للبنى التقليدية القائمة على الحكم العشائري الذي يتولى أحياناً التعامل مع الأمر؛ ولهذا فإن الجريمة أو القضية البوليسية غالباً ما تكون بسيطة وبدائية لا تحتاج إلى بحث أو تحقيق، وبخاصة في ظلّ وجود مظلة موازية للقانون يمكن أن تنهي القضية بطريقة سريعة بحيث لا تبقى جرائم عالقة، أو أن يلجأ إلى الثأر في بعض الأحيان، وهذا في مجمله يتصل ببساطة التكوينات المجتمعية وافتقارها للتعقيد، فالجريمة المنظمة بتكوينها المعاصر لم تعرفها المجتمعات العربية أو هي موجودة ولكن على نطاق ضيق أو محصور.
غير أن ثمة أمراً يبدو لي أكثر أهمية فيما يتعلق بتراجع هذا النوع من الكتابة، على الرغم من بعض المحاولات التي بدت واعدة، غير أنها سرعان ما تلاشت في ظل الاختلال في المفهوم التشاركي، بالإضافة إلى أن الدولة البوليسية تحول دون أيّ شكل من أشكال التفعيل لصيغ الخروج عن سطوة الأمن أو مركزيته التي تنتهجها بعض الدول، ولهذا فإن وجود حضور موازٍ لقيمة البحث عن الحقيقية أو حلّ الجريمة لا يمكن أن يتحقق كونه ربما يضعف من سلطة الدولة أو المؤسسة الرسمية التي ترغب أن تحتكر كافة التمثيلات في هذا الشأن، وهذا يعدّ انعكاساً لبنية أو منظومة متآكلة من الهيمنة التي ورثتها الأنظمة العربية من النموذج الاستعماري، وهذا يكاد ينسحب على كافة مرافق الوجود المؤسساتي في دولة ما، وفي حال الخروج عن دورها المركزي فإنها تستشعر تهديداً، وهذا ما يتوافق مع البنى الأمنية المحكمة التي تنتهجها الدولة البوليسية في العالم العربي، بحيث تحاصر كافة أنظمة المحاكمة، فغياب الديمقراطية ورغبة الدولة البوليسية في عدم نشر أخبار الجرائم خشية النيل من هيبتها قد حال دون انتشار هذا النوع من الكتابة، علاوة على أن الثقافة العربية منتزعة لصالح فكرة الأيديولوجيا التي تستهلك قدراً كبيراً من الوعي الشعوري والعاطفي للقارئ العربي، إذ غالباً ما ينظر القارئ العربي إلى همومه السياسية والمعيشية إلى أنها الحقيقة الأهمّ، في حين يرى أن منطق الجريمة والبحث عن الحقيقة لا يعنيه كثيراً في ظل دولة تحتكر الحقيقة وتمارس دوماً إعادة صوغ الوعي المجتمعي.
وبهذا فإن الرواية البوليسية تحتاج إلى بيئة منفتحة ومنظومة حضارية متكاملة حيث يعلو صوت المدنية والقانون، علاوة على انتشار ثقافة مدنية تؤمن بدور القانون بمعزل عن سلطة الدولة التي لم تتمكن إلى الآن من إدراك معنى الفصل بين السلطات، وما زالت تعتقد بوجود النظام البوليسي القادر على قهر كل ما يعيق حضورها القوي في متخيل الشعوب وذاكرتها ولاسيما الشعوب العربية.