قوة الشباب وأيقونات الفكر
عرفت الجزائر عبر ثلاث رحلات؛ الأولى كانت زيارة حرَّة قمت بها خلال العشرية الدامية في التسعينات، واستمرت شهرا ويوما واحدا، تجولت خلالها في عدد من المحافظات الواقعة ما بين وسط الجزائر وأقصى الشرق منها على الحدود مع تونس من بوابتها قالة، في ظل ظروف أمنية مريعة، وكان ثمرتها غير المخطط لها، كتاب يعتبر اليوم الوثيقة العربية اليتيمة التي وضعت من الداخل الجزائري، ولكونه، أساسا، صاغ صورة ميدانية للعلاقة بين الثقافة والموت في تلك الحقبة السوداء.
خلال تلك الرحلة قمت بإلقاء محاضرات حول الشعر، ونُظّمت لي أماس شعرية في محافظات عدة، ولقاءات مع محبي الشعر، بعيدا عن مؤسسات السلطة ورعايتها، بجهود شعراء وكتاب شباب احتفوا بي كمشرقي يزورهم في غمرة سنوات الدم، عندما لم يعد يصل إلى الجزائر إلا طائر اللقلق في الربيع.
حمل الكتاب، الذي صدر في مطلع الألفية الثالثة، عنوانا هو “الفردوس الدامي” اشتق من حقيقتين؛ الأولى ما كانت تشهده الجزائر من نزف بشري أليم، والثانية ما تتمتع به تلك البلاد التي تفوق مساحتها خمس مرات مساحة فرنسا، من جمال طبيعي مذهل.
***
الزيارة الثانية جاءت في منتصف العقد الأول من القرن الحالي واستمرت 10 أيام حافلة باللقاءات مع شخصيات من الوسطين الثقافي والأكاديمي الجزائري ممن هم معنيون بأدب الرحلة بحثا وتحقيقا، وذلك تحضيرا لعقد ندوة كبرى في أدب الرحلة ستستقطب إليها لاحقا نخبة من الأكاديميين والكتاب في الجزائر والعالم العربي، وستنتج بالنسبة لي معرفة أكبر بالشمال الأفريقي، على المستوى الثقافي الذي ظل غائبا عن أذهان أهل المشرق، لاعتبارات يردها أهل المغرب العربي إلى ما يسمونه بـ”المركزية المشارقية”. وفي ذلك الكثير من الصواب.
بدا لي الفرق كبيرا بين زمني الزيارتين، فشتان بين الزمنين في الوقائع والأحوال؛ في الرحلة الأولى كان الأفق مقفلا واليأس عميما والألم يتجول في الشوارع ويقيم في البيوت. وفي الرحلة الثانية، على رغم المصاعب الكثيرة التي كانت لا تزال تطبع حياة السواد الأعظم من الجزائريين، فإن رفَّات الأمل بتجاوز المحنة السوداء التي حلَّت بالجزائر كانت تغمر صدور الناس.
لا أكتب هذه الكلمة، اليوم، لأصف الفرق بين زمنين انقضيا معا، ولكن لاستعادة طيف من الصور والتداعيات التي أيقظها فيَّ مروري في شارع فرانز فانون في المدينة الأكثر جمالا على شاطئ المتوسط. اسمه الذي أغبطني وجوده على اللوحة في أول الشارع ذي العمارة الكولونيالية الفرنسية، عربون وفاء من ثورة المليون شهيد للطبيب المارتينيكي المساند للثورة بالفكر والعمل في أرض المعركة.
***
ارتبط اسم فرانز فانون عندي بكتابه “معذبو الأرض”، قرأته في صباي الأول، وشكلت قراءة المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد لفانون حافزا لي في الثمانينات لإعادة قراءته بوعي أشمل، وعمقت المغزى الفكري لهذه الشخصية، ومكانة نصوصه كأمثلة ثرية في حقل دراسات ما بعد الاستعمار. وموضوعة “الآخر”.
على أن الأمر بالنسبة لي لم يكن مسلما به، فما معنى أن تسمي شارعا باسم أيقونة فكرية مكافحة ضد الاستعمار، ثم تسلب أهل الشارع حقهم في أن يتنعموا بالحياة الحرة الكريمة وتسومهم العذاب اليومي في ظل حكم شمولي يرفع يافطات الاشتراكية، ويجعل من المواطنين الأحرار طابورا من الأسرى وجموعا من المعذبين.
ردتني هذه التداعيات والتأملات إلى جملة مهمة لفانون تتعلق بخطورة الاستقلال الناقص، استعادها إدوارد سعيد في حوار لي معه دار في أواسط التسعينات وظهر لاحقا في كتاب لي وكتاب آخر نشره ناقد أميركي، سأنقلها هنا مع تعليقات وإشارات من المفكر الفلسطيني الأميركي: لدى قراءتك النصوص الأخيرة لفانون في كتابه “معذبو الأرض” تجده يعترف صراحة بأنه لا يملك أفكارا خاصة حول الظواهر التي بدأت تفرزها فترة ما بعد الاحتلال. وكان يرى أنه لا يكفي أن تتحرر الجزائر من الفرنسيين، وإنما يلزمنا ولادة تفكير مختلف لتأسيس مجتمع جديد بعد زوال الاحتلال. والجملة الوحيدة التي قالها فانون في هذا السياق هي ما معناه “لو لم يحصل تغيير في الوعي الاجتماعي، فإن ذلك يعني أن كل العمل الثوري السابق من عنف وإرهاب على سبيل التحرير، لن يكون له أي معنى حقيقي”.
لكن إدوارد سعيد يعتقد أن “فانون لم يفهم، أبدا، بعمق المجتمع الإسلامي العربي الذي تنتمي الجزائر إلى فضائه الثقافي”. ويرى سعيد أن “فانون يمزج في تحليله بين التفكير الأوروبي (عبر مؤثرات ماركسية ولوكاتشية ووجودية وفرويدية)، والوضع الأفريقي”. وفي اعتقاده أن الثائر المارتينيكي “لم ينجح كثيرا في ذلك، لكن أهمية فانون ليست، فقط، في مسألة الاستعمار والتحرر، وإنما في التحليل الدقيق لـ’الآخر”.
***
هذه التداعيات والخواطر يستدعيها العقل في محاولة لربط ما يجري اليوم بسياقه التاريخي، لإنتاج المعنى الكامل من دلالات التظاهر والاعتصام للشباب الجزائري المطالب بالاستقلال الثاني، في طرقات عرفتها وسلكتها مرارا من شارع ديدوش مراد إلى جامعة بن عكنون، ومن منطقة القصبة القديمة إلى نصب الشهيد، ومن ساحة الأول من أيار إلى قصر المرادية، ومن الشارع الذي يحمل اسم فرانز فانون إلى مبنى المكتبة الوطنية الذي يحمل اسمه أيضا، وذلك في ظل مناخين لحقبتين مختلفتين من زمن متصل، لم يبرح الجزائريون يحاولون خلاله الخلاص من نير “النظام الوطني” التي انقلب على حلم الدولة المستقلة ذات الطابع الديمقراطي، مؤسسا لشمولية عسكرية بددت حلم الاستقلال، ورهنت البلاد إلى مراوحة تاريخية للتطور المجتمعي على كل صعيد، أدت إلى انتشار التفسخ والفساد والجريمة، وفي الخلاصة موات تاريخي لمجتمع حي أغلبيته الساحقة من الشباب.
***
ها أنا في الجزائر مجددا، أعيش مع الجزائريين، ولكن عبر شاشة التلفزيون هذه المرة، لحظة تاريخية فارقة، وعيناي تتجولان في الشوارع والأزقة والساحات نفسها التي بلغتها بقدمي، وتتداعى إلى نفسي الآن الخواطر والاستعادات جراء حركة شخص يصل إلى الجزائر للمرة الأولى ليكتشف بنفسه الجواب عن السؤال المخاتل الذي تردد يومها كثيرا في الإعلام الغربي: (من يقتل من؟) ليصوب من ثم، بنفسه، السؤال، فيصبح: (من الذي يقتل؟) فالضحية معروفة، إنها الجزائريون، ولكن من هم القتلة؟
شخص يسير في شارع المدينة العربية الأكثر سطوعا بتاريخها الكفاحي، الجزائر، بينما هو يخزن في ذاكرته صورة للوحة تحمل اسم فرانز فانون، وتلك العبارة العظيمة “لو لم يحصل تغيير في الوعي الاجتماعي، فإن ذلك يعني أن كل العمل الثوري السابق من عنف وإرهاب على سبيل التحرير، لن يكون له أي معنى حقيقي”.
ها قد وصل الجزائريون إلى جوهر هذه العبارة. إنهم يكملون المهمة، إنهم يصنعون التاريخ؛ تاريخ المعنى.
مايو/أيار 2019