الوجهُ الضّال
اخترق الشّارعَ الباردَ مُتقدّما على غير هدى. كان يشعر بثقل كلّ خطوة يضعُها جسده على بطنِ الأرض من قوّة اهتزاز وجنتيه وكانت الوجوه تتدفّق من أعلى الشّارع في اتّجاه واحد، وكأنّهم قد اختاروا في ذلك اليوم أنْ يمشوا في تيّار معاكس له، لكنّه مع ذلك ظلّ يتخطّاهم مُوارِبًا بعضهم ومُتجاوزا آخرين بعُنف، فيجعلهم يتراجعون أو يخفّضون سرعتهم لكي يمرّ بينهم بجلال.
عاش الملك الجليلُ، السّائر بين رعاياه الفخورين، مرفوع الهامة وزجاجُ نظّاراته معفّر بتراب المعركة. يمتشق سيفه وبسبابة اليد الأخرى يسند مقدّمة أنفه الأقنى إلى أعلى. كانوا من حولِهِ يهتفون: عاش الملك، عاش الملك، فيلوّح بسيفه الذي يبرق تحت شمس أوت الحارقة. يرددون من حوله: عاش الملك، عاش الملك.
يفحص الوجوه الموزّعة يمنةً ويسرةً باحثا عن تقاسيم محدّدة يعرفُها، ولا يعلم ما تكتنه. تدفّقت وجوهٌ جديدة وعادت أخرى إلى الظّهور بعد التفاف. رأى في بعضها الخوف وفي الأخرى آثار السّنين.
- الله في كل شيء موجودٌ إلّا في تجاعيد هذه الوجوه! هكذا قال في صمتٍ داخليّ مُطبق.
انتقل الخوف إلى صدر جسده. الله في الصّدور.
تقدّم إلى غاية متجر قريب، في واجهته الزجاجية انعكست صورةُ الوجوه، فأصبحت خلفهُ تسيرُ في خطّ واحد.
الشّيطان لا يملّ والصّبر شِيمة الصّالحين.
- وماذا عن الصبّار؟ سأل الصّبي الصّغير.
ردّ الشيخ الضّرير العليل: تلك صيغة للمبالغة يا ولد، أما نحن فلنا القصص نداري بها الجروح.
في الزّجاج مرّت وُجوه تعتلي المناكب. خمسةٌ منها فوق الستّين وثلاثة في الأربعين. عُمرها قُرون، تِلك الأكاذيب. أين أنتِ يا قصص أمّي؟ سألت قبلكَ العروسُ في غرفة زوجها ليلةَ الحقيقة.
عقبُ سيجارة على الأرض. حمله الطّفل البريء، فأعاق مسيرة الوجوه وبعثر التّرتيب. تجمعت وجوه حول الطفل الجميل. نهته عن التدخين، ومصّ أعقاب السّجائر. نطق الوجه الحليق صاحب السنّ الذّهبيّة:
- التّدخين للكبار يا ولد، انتظر سنّ الرشد واقتن التّبغ المقلّد، لتفاخر المتفاخرين.
انتهت الوجوه عن الحديث، وعاد الانتظام إلى رتل المتأخرين. استدار هو وواصل المسير. تأمّل في الوجوه، فلم يظهر له بين المُجعّدين.
في آخر نقطة من الشارع تضاءل جمعُ الوجوه، ولم تبق إلّا بضعة منها تتحدّى وجوه الرّاكبين، وسط هدير المحركات. رائحة البنزين ذكيّة عندما نشتمها.
“البنزين نبيذُ الفقراء وخبزهم كسرةٌ مسروقةٌ من فُرن ساخن”، فكّر الوجه الضّال ثمّ ارتفع صوب السّماء. رأى فيها غمامةً وثيرة، تُغري بالنّوم عليها أربعين حُلمًا دون أن تسأل ضيفها عن سرّ زيارته.
الحمّال قادم من بعيد مصلوبا على خشبة مادري. الحمّال قدّيس، فالمجد للحمّالين. رفع الحجارة من الأرض وكسر صخور المدينة العتيقة، ثم كعّبها بمطرقته الضّخمة. يدُ البنّاء قبضة من حديد، فيها دم ولحم ورمل وإسمنت. المجد للبنّائين، ورثة المدينة على حوافِ وديانها الجارية بمياه المجارير. المجد للجِرذان والماء والصراصير، قاهرةُ الحضارة.
- أيّها الوجه، ما لك شاحب؟
ينظر الوجه الشاحب إلى الوجه الأحمر السّائل. يرد:
- وما المسؤول بأعلم من السّائل.
- هل الشّمس ملاذٌ للمقرورين؟
يستدير الوجه الشّاحب قليلا وهو يفكّر. ثمّ يجيب:
- الشّمس خلف العمارات العالية، والشّارع طويل. الشّمس تذوب على الجدران الظّليلة.
يهزّ الوجه السّائل حاجبيه ويشرّع عينيه اقتناعا، ثم يواصل تدفّقه.
في البيت القائمِ عند زاوية التقاء الشّارع بنقطة الدّوران، ضرب جسدُ الوجه الأحمق وترَ غِيتاره الكهربائي. تزلزلت الأرض بالوجوه، فانتشرت وتبعثرت. الوجوه الحليقة تضاعف سرعة تدفّقها، والأمرد يخفي ذقنه في ياقة المعطف الطويل حول جسده. وحده الوجه الضّال ظلّ متسمّرا يبحث عن التّقاسيم المحدّدة لوجهٍ لمَحهُ ذات مرّة في مِرآة.
وقف الملكُ على المنصّة وقد استبدل السّيف في يده بالصّولجان. خطب في رعاياه:
أيّها العابرون في شرايين مدينتي، إنّكم تخرؤون أكاذيبنا التي تبتلعونها مع فطور الصّباح، وفي جلسات النّميمة حول فناجين قهوتكم المُنتنة. أيّها المتعثّرون في الطّرقات، إنّ الحُفر لتشكوا بطشكم بها إلينا، وتذكّركم بمقاسات أحذيتكم، وعدد الطيّات فوق جلدها. الشّمس تُحرق جلود المقهورين، مفترشي رمل الصّحراء والشّواطئ على حافّة البحر.
صفّق الرّعايا ولوّحوا بأذرعهم الموشومة الطّويلة إلى الملك. هتفوا: عاش الملك، عاش الملك… مات الملك. طعنه ابنُه بكُمّ قميصه غير المكوي. هتف الرعايا: عاش الملك، عاش الملك…
ظهر الوجه الصّبوح، في المساء، مُرهقًا من دوامٍ كامل من الابْتسام. ابتسم الوجه الضّال وتأثثت عيناه بانكماش الفرح ما إن رآه من بعيد. عاد إليه اللّون الأحمر. صوّب الوجه الصّبوح عينيه إلى الأرض، واتّبع التّدفق، بِتَؤُدة. لم يكن مبعثرا ولا متصادما. ظلّ الوجه الضّال في طريقه، حتى التقيا عند تصالُب بعض من عروق المدينة التي تسكنها الجرذان بعد مغادرة الوجوه. صار الوجه الصّبوح مُدبِرًا بعد تقاطع استلزم جسديهما كبح الخطوات، ونَظَرَهُ الوجه الضّال إلى أن اختفى بين تدفّق الوجوه الأخرى. انطفأ النّهار ولم تبق على الرّصيف إلّا أوراق صفراء ذابلة.