اليمام ينزل من الوادي
عندما تجاوزنا الجسر الذي فتحته السيول من تلقاء نفسها لتمكن الناس من العبور نحو الأطلس الكبير، كنت أتساءل عما إذا كانت مريريدة قد عبرت هذا الجسر عندما كان حجرا عاريا لم تدفنه اليد البشرية تحت ركام من الإسفلت؟ وهل صدح صوتها هنا؟ هل غنت شيئا عن الوادي البعيد الذي تركته خلفها؟ هل نثرت على الماء الفضي الذي يمضي نحو سهول غامضة دموعا شعرية تقول بها كل تلك اللاعودة التي استقرت في قدميها؟ ها نحن نمر من نفس الجسر ونبدأ بافتنان ورهبة اختراق الأطلس الكبير، كأننا نسبقها إلى المكان الأليف الذي فقدته طفلة، قبل أن تعثر عليه في أغانيها مجمدا في طفولته الأبدية.
منذ سنتين ونحن نمني النفس بهذا الحج الشعري، نتبادل الحديث عن تلك القصائد الوحشية التي كان عبدالكريم جويطي بصدد ترجمتها، ونقول لا بد أن نحل بذلك الوادي المبهج، لا بد أن نرى المكان الذي نبتت فيه تلك الكلمات، وخرجت منه تلك الضفدعة الخضراء الصغيرة، وتسامق فيه ذلك الشوق الغامر، وذلك الرثاء، وتلك الحكمة، وكل ذلك الصفح الذي تقابل به امرأة مجروحة قسوة العالم، لا بد أن نمشي في تراب هذه الأسطورة الحية، أن نمشي جنب الماء، صعودا نحو لحظات الولادة الأولى، ونزولا نحو التلاشي عبر أشجار الجوز العظيمة، تحت سماء صافية، أو تحت غيوم متزاحمة، لا بد أن نسمع الأصوات التي يمنحها الوادي لحجارة البيوت المرصوصة في جسد الجبل، وأن ننصت لتلك الجلبة العظيمة التي تصدر عن صراع العناصر، وتلك السكينة الأولى التي تعقب فجر الخليقة، لا بد أن نحاول الربط بين استحالات مركبة، ثم لا بد أخيرا أن نرى.
وها نحن نرى أول ما نرى، قمة بيضاء من قمم الأطلس الكبير تطل بثلجها على الطريق، سيلعب معنا الجبل الأبيض لساعات فيظهر ويختفي، يكبر ويصغر، يمنح وجهه للشمس أو للظل، كما يحب وكما تحب المنعرجات التي كانت الأشغال الجارية فيها توهمنا بأننا نفتحها لأول مرة صوب قلب البلاد. ننزل من السيارة مرات كثيرة لنرتاح من دوار الأعالي، ولنخزن شظايا من ذلك الجبل الأبيض في دواخلنا.
كل الأطلس الكبير هكذا، حجر وثلج، أو ثلج فقط، يكون معطفا ثقيلا ثم يرق وهو ينزل نحو الفجاج حتى يصير حريرا تلعب به الريح، أو حجر فقط، تراكب لمنحوتات أزلية تحاور السماء. الجبل هنا ليس فردوسا ظاهرا، إنه وعد بالفردوس المختبئ، هناك حيث يصبح الثلج خيط ماء فضي له صوت وأشجار وأعشاب غامقة، وحيث تتشكل القرى من جلد الجبل وحجارتة البنية وترابه الصلصالي، وفي هذه القرى تتحرك الكائنات بخفة صاعقة حتى لكأن المرأة الجميلة التي ترفع وجهها نحوك تفعل ذلك في نافذة قطار سريع، فلا ترى من هول جمالها سوى وعد الفردوس.
وها نحن نصل إلى الوادي، وادي تساوت، في الطريق نتوقف مرارا لنسأل هل اقتربنا من قرية مكداز؟
قليلون تجرأوا على تحديد المسافة التي تفصلنا عنها، وأكثرهم لم يعرفوا أسماء قرى كانوا يقفون على مشارفها، لقد جاءوا من قريتهم التي لا يعرفون غيرها، غريب هذه القناعة بالمكان الوحيد في عالم يقول عن نفسه بغرور واستعلاء إنه مجرد قرية صغيرة. نتقدم في الطريق التي رسمتها أقدام الاحتلال، تخاصر الوادي، تخاصر الماء والظلال، على المرتفعات الجانبية تظهر من حين إلى آخر قرى صغيرة أو بنايات معزولة، يهرع منها نحونا أطفال ينضحون بالفطرة الخلاقة، يحيوننا بتحية الاستعمار القديم، بونجور، بونجور، لارجون لارجون، ثم عندما يدركون قرابة السلالة التي تجمعنا، يلقون علينا بفتور آسف: إيقاريضن، إيقاريضن.
نتقدم ونحن نرهف السمع، ربما ينبثق صوت هنا أو هناك، صوت يرجعنا إلى أغاني تساوت، أي إلى ذلك النبع الآخر الذي انطلقت منه الرحلة. هل القرية هي هي؟ هل المكان هو هو؟ يسأل عبدالكريم عن الأسماء التي يحفل بها النص، أسماء أمكنة وقبائل ومقابر وقصبات وقرى قريبة أو بعيدة، أحيانا يتعرف الشباب على بعضها، وأحيانا يعجزون عن فك ألغازها.
في سقيفة عالية تطل على الوادي، جلسنا خائفين من إضاعة المكان الذي امتلأنا به في القصائد، ما هذا الجنون الذي دفعنا إلى التوهم بأننا نستطيع العثور على أمكنة الشعر في أمكنة الواقع؟ يأتي الشاب الذي استقبلنا في أطلال القصبة، بركام من الصور والكتب من بينها أغاني تساوت كما نشرها روني أولوج، أوراق مبعثرة يجتهد الشاب في تركيبها على شكل إغراء سياحي يتصدره كتاب جميل عن مكداز بتوقيع الطاهر بنجلون، كل ذلك بدا لنا شيئا يبعث على اليأس، إلى أين نمضي في هذه القرية التي تبدو أصغر كثيرا من أسطورتها؟ سيقول الشاب ونحن نتحدث عن القصبات المنهارة وعن الإسمنت الزاحف، وعن الجمعيات الفرنسية التي تشتغل في مشاريع إحسانية بالمنطقة، هذا هو البيت الذي عاشت فيه مريريدة طفلة مع جدتها، لعله فجأة، وقد رآنا نتحدث عنها كأننا نحضر القرية لاستقبالها من جديد، قد فطن إلى كونها حقيقية مثل هذا الوادي، وليست أسطورة كما غامر بالقول في البداية، وهاهو يرينا صورة رونيه أولوج في زيارة للقرية، كان ذلك في الأربعينات من القرن الماضي، ربما في رحلته الثانية، أعمى يبحث عن الشاعرة، كان منطفئا في الصورة، ولا شك أنه كان كذلك في الحياة، وفي هذه الزيارة عرض صورة مريريدة على الناس، هل تعرفوا عليها؟ هل قالوا إنها لم تعد أبدا إلى القرية، أم قالوا إنهم لم يروها أبدا؟
في إحدى قصائدها تتحدث مريريدة عن عودة إلى القرية، مجرد استيهام في ما يبدو، فالناس في القصيدة لا يتعرفون عليها، ينكرونها ويجافونها لما يعلمون من سيرتها في مواخير أزيلال، ووحدها خالة مرت من نفس التجربة تهرع إلى معانقتها، لقد تخيلت مريريدة ما سيحصل لها لو عادت، مثلما تخيلت ما سيحدث لها لو تزوجت، هل كانت الحياة ستعوضها عن فقدان عميق يشبه الولادة؟
يبدو رونيه أولوج في الصورة شخصا في نهاية الرحلة، لقد اكتشف أغاني تساوت وهو يخطو حذرا في مسار العشق الذي سيأسره، وهاهو يجلس صامتا بعد تيه طويل في مملكة الفقدان.
لقد ترجم أولوج أغاني مريريدة من نص أمازيغي لم يحتفظ به، ولم يكتبه، وما بين أيدينا الآن هو شعر مريريدة، منقولا من طرف أولوج، أما أغانيها فقد فقدت إلى الأبد.
عندما عاد أولوج مرة أخرى للبحث عن مريريدة، في نوع من العشق المجنون، كانت مريريدة قد فقدت إلى الأبد، وربما ما أيقظ أسطورة هذا العشق هو أن أولوج الذي يحفظ الأغاني عن ظهر قلب، لم يجد ولو سطرا واحدا عن قصة حبه في تلك القصائد الصاعقة.
وأخيرا فقد عاد أولوج إلى مكان لم يعد ممكنا أن يراه، ليس فقط لأنه فقد بصره، ولكن أيضا لأن المكان الأصلي لم يعد هنا، لقد حلقت به مريريدة، ولم تعد به. الرعود والسيول والغيوم الداكنة، أشجار الجوز وأعشاب البراري، الرعاة ومواكب الرحل، الخير الكثير والمسرة، الأحزان الصغيرة واللعنة، كل ذلك سيصبح قطعة من سماء بعيدة أخذتها مريريدة تعويضا عن البتر الذي لم تشف منه.
قبيل الغروب سنتوجه إلى الأوبرج الذي يوجد في القنطرة التي يمر تحتها ماء تساوت، سنبيت هنا قبل أن نستأنف النزول مرة أخرى نحو الجسر البعيد الذي شكلته السيول لتجعل الأطلس الكبير متاحا بالمشي وحده. وفي لحظة خاطفة ونحن نفكر بالليل في تساوت، قررنا متابعة الطريق.. لقد التقينا بمريريدة، هذا هو الأهم، ولا مكان لمكان آخر، لا في حضورها ولا في غيابها. سننزل كما ينزل يمام الوادي في إحدى أغانيها، وأثناء ذلك سأسمع لأول مرة غناء مريريدة، صوتها وحيدا، مفصولا عن الكلمات، يصدح في الوادي.