السرد الصوفي
"كيميا" رواية جديدة (دار الشروق-القاهرة 2019) للروائي المصري وليد علاءالدين؛ وقد طرح الكاتب في هذه الرواية صورة بنت مولانا “كيميا” التي تزوجها شمس الدين التبريزي؛ ارتكز المؤلف في البناء الأساس للرواية على سؤال تاريخي ملغز وهو أين اختفت “كيميا”؟ وعن سرّ اختفاء هذه الفتاة وموتها المفاجئ الذي أحزن علاءالدين ابن مولانا جلال الدين الرومي .العاشق الحقيقي والمتيم بمعشوقته “كيميا”.
اتكأ الكاتب في هذه الرواية على البوح السردي المسكوت عنه في تراثنا العربي والصوفي من خلال أشكال السرد الصوفي المتعدد والذي نتجت عنه أصوات سردية كاشفة عن أحوال المتصوفة الكبار في القرن الثامن الهجري، كما ارتكز السارد على البحث التاريخي المرتبط بالشخصية الصوفية التي تتجلى في أقوال جلال الدين الرومي العاشق الأكبر الذي شغل تلاميذه ومحبيه. وقد حدد الكاتب هذا البحث عن شخصية هامشية في التراث الصوفي وهي شخصية “كيميا”، تلك الفتاة التي كانت ترعى الأغنام لأبيها في بلخ. فيصدر الروائي وليد علاءالدين روايته بإشارة نصية لافتة فيقول: “ولكنني قررت.. قبل ذلك.. أن أصنع ثقبا في الجدار الغليظ لتحلق روح كيميا”.
تبدو الإشارة النصية السابقة التي دوّنها الروائي مدخلا منطقيا لفاعلية السرد من خلال تعبيره الصوفي المرهون بالبحث عن “كيميا” . ففعل الكتابة والبحث عن “كيميا” كان مبررا فنيا وذلك للولوج إلى عوالم مسكوت عنها في عوالم الصوفية الكبار.
الرحلة في العشق الصوفي
تبدأ الرواية باستدعاء قول جلال الدين الرومي “الليلة الماضية في المنام، رأيت شيخا في حيّ العشق، أشار إليَّ بيده: اعزمْ على الالتحاق بنا”. تبدو هذه المقولة مفتاحا أساسيا للولوج إلى عوالم جلال الدين الرومي الصوفية، وتوحي هذه العبارة الموجزة بأنّ الرؤية التي رآها مولانا بمثابة إشارة إلاهية للدخول في حال العشق اللانهائي.
حاول وليد علاءالدين أن يستخدم تقنيات سردية متنوعة، منها اللغة السردية التأملية الكاشفة لجوانب وحدود الزمان والمكان في السرد الشفيف المرتبط بروح الذات وتلامساتها الفنية والخيالية الممزوجة بروح العشق بالإضافة إلى روح الفضاء السردي المشحون بأوجاع الكشف الصوفي. فيبدأ الراوي العليم بالبحث عن “كيميا”، هذه الشخصية الأسطورية التي جذبته، والتي جعلته يجمع المصادر من الكتب والمخطوطات المتعددة القديمة والحديثة والتي ذكرت “كيميا خاتون” ابنة جلال الدين الرومي الذي وهب هذه الفتاه لأستاذه شمس التبريزي. ولم يكتف الراوي العليم بذكر القباب التي تحيط ضريح مولانا في قونية، بل راح مخترقا حواجز المسكوت متحدثا عن روح الحياة المشغولة بـ”كيميا” بنت مولانا.
وقد تميزت هذه الرواية “كيميا” بقدرة الكاتب على استخدام حيل فنية كثيرة منها الغوص في وصف الرحلة من دبي إلى تركيا، والهبوط في مطار أتاتورك-إسطنبول، والكشف الرحلي عن معاناة الطريق من إسطنبول إلي مدينة مولانا قونية. كانت هذه الرحلة الشاقة والمغلفة بالغموض الإنساني والرغبة في الكشف ومعرفة الحقيقة الكاملة المختفية، وقد كان السارد العليم لا يعرف فيها اللغة التركية ومفاهيمها وثقافتها الفارسية والعثمانية القديمة، وقد لمستني هذه الرواية بشكل شخصي حيث أنني عشت هذه الرحلة في تركيا على البحر الأسود منذ خمس سنوات. بل تميزت الرواية بتجسيد المكاني والشخصاني، وكأنني أشم رائحة الأمكنة التي وصفتها المشاهد السردية.
تحاول هذه الرواية أن تبحث عن مصير “كيميا ” التي عاشت في بيت جلال الدين الرومي التي قدمها زوجة لشمس الدين التبريزي علما أنه كان أكبر منها بثمانية وأربعين عامًا، بل تطرح الرواية عبر سرد عبقري أسئلة كثيرة وغامضة، منها لماذا وافق شمس الدين التبريزي على الزواج من “كيميا”؟ وما أسباب مرض “كيميا” بعد زواجها؟ وقد ماتت “كيميا” بعد زواجها من شمس مباشرة؛ ولماذا لم يحزن عليها جلال الدين الرومي؟ ولم يذكرها في أشعاره ؟ ولماذا عاشت نكره وماتت مجهولة؟
إن هذه الرواية اعتمدت على سؤال التاريخ في السرد العربي؛ لأن هذا السؤال يحتاج إلى إجابات متعددة وأطاريح فنية متعددة تمتلك جرأة علي اختراق حواجز التاريخ، وتفكيك دروبه ومنحنياته السردية وإعادة بنائه فهي رواية تفتح الباب على مصراعيه أمام عوالم من التفسيرات والتأويلات المتجددة على الأفق الدلالي المفتوح الذي تتجسد من خلاله أحوال منطقة الأناضول وعاداتها وتقاليدها واصفًا تعلق القلوب بمولانا جلال الدين الرومي وعشقه ومحبته.
أنتج السرد في الرواية من ألاعيب خيالية واسعة اعتمد فيها السارد العليم علي الخيال السردي المشتبك بالواقع، فيقول الراوي العليم “وصلت إلى المكان يبدو كأنك خرجت من عالم إلى عالم موازٍ؛ ميدان كبير صنعته الجبال؛ الدكاكين منحوتة في الصخور أمامها حدائق وزراعات كثيرة كل دكان يصل بينه وبين الميدان ممر”. يكشف السارد عن سرد وصفي تتجلى من خلاله معايشة السارد لأجواء الأفضية المكانية الناطقة برائحة التاريخ العثماني القديم.
إن الحديث عن غموض العلاقة بين شمس التبريزي وجلال الدين الرومي يكاد يكون حديثا محفوفا بالمخاطر والتقلبات الذاتية، وكذلك هو صراع “كيراخاتون” الداخلي وغيرتها على زوجها جلال الدين الرومي الذي أخذه تعلقه بأستاذه شمس الدين منها. هذه العلاقة التي يخشاها الكثير من المؤرخين لأنها تملّكت قلب الرومي وظهرت في ندمه وحزنه على غياب أستاذه شمس التبريزي.
لعبة الفضاء السردي
اتكأ الكاتب وليد علاء الدين على لعبة الفضاء السردي المتحرك الذي يكشف الكثير من كواليس الرواية وتعدد أمكنتها السردية وأفضيتها الداخلية والخارجية، فقد تعدد الفضاء ما بين الطائرة والحافلة والغرفة ومقام مولانا والمترو ومسقط رأس حجا، نصر الدين خوجة. كما غلب الطابع التركي على أسماء المدن والأطعمة والحلوى والعادات والتقاليد التي تكشف عن روح الشخصية التركية المرتبطة بالحديث عن معجزات مولانا والكشف عن أسراره.
استخدم الكاتب تقنية الحلم ممتزجا بالهروب من الواقع من خلال استنطاقه لأصوات صوفية كثيرة كصوت علاء الدين العاشق المكلوم. وصوت “كيميا” الضحية المفقودة، وصوت سلطان ولد أحبّ أبناء جلال الدين إلى قلبه وصوت شمس التبريزي نفسه. وقد أضاف الرومي في طريقته الصوفية التعبير عن التوحد والذوبان في بحار العشق الإلهي، وتبدّت من خلال طريقته الواضحة في رقصات أتباعه الدائرية التي تحاكي حركة الكون والأفلاك والتي تعتمد على الانتقال الحركي من الأسفل إلى الأعلى في إشارة لما يشعر به المريد عند تركه لمفردات الواقع المادي (البائس) الذي يحيط به، وانتقال روحه الهائمة إلى آفاق أخرى من الحس الغيبي الذي يحلّق في عوالم أخرى غير منظورة.
إن الرحلة السردية التي طوَّف فيها وليد علاءالدين من خلال تساؤلاته العرفانية ووجده الصوفي المشغول بالبحث عن الحقيقة الكامنة وراء اختفاء “كيميا” منحت الرواية صوتا مائزا في أرضية الرواية العربية التي تنطلق أساسا من السؤال المختلط بالعشق الصوفي المقدس.