تراث التكفير
يدعو الباحث العراقي رشيد الخيون في كتابه “العقاب والغلوّ في الفقه والتراث الإسلامي” إلى إعمال العقل في عدد من المسائل التي يتمّ توظيف الدين فيها من قبل الإسلاميين بطريقة تخدم غايات بعينها، بحيث يكون الدين وسيلة ومطية للتنكيل بالمخالفين لهم، أو المختلفين بآرائهم ورؤاهم عنهم.
يركّز الخيون في عمله البحثيّ المهمّ على دور العقل في الشريعة والقانون، ويدين التكفير الذي مورس على مفكّرين ومتنوّرين أعربوا عن آراء أثارت حفيظة السلطات؛ الدينية أو السياسية المتقنّعة بأقنعة الدين، ودفعت إلى الانتقام من أصحابها ومعاقبتهم بطرق وأساليب لا تتناسب وروح العصر.
يورد صاحب كتاب “لا إسلام بلا مذاهب وطروس أُخَرُ من تراث الإسلام” حكايات من التاريخ؛ القديم والمعاصر، يبرز من خلالها الجرائم المقترفة بحقّ الفكر والتنوير في العالم الإسلامي من قبل السلطات التي وجدت في الغلوّ والتطرّف أسواراً تبقي الجهل متفشياً في ثنايا المجتمعات التي كانت تحكمها، لأن من شأن الجهل والتجهيل أن يحافظا على استمرارها وإطالة أمد حكمها.
يمهّد الباحث الخيون لكتابه “العقاب والغلوّ في الفقه والتراث الإسلامي” بمقولة لسفيان الثوري يقول فيها “إنّما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأمّا التشدّد فيحسنه كلّ أحد”، وذلك يعد مفتاح الولوج لعالم بحثه الثري المفعم بالحكم والعبر.
حدود الله!
يقسّم الخيّون كتابه (الصادر عن مركز المسبار، دبي 2018) إلى بابين يحتوي كلّ منهما على أربعة فصول؛ الباب الأول العقاب، وفيه: عقاب المرتد، عقاب السابّ والمستهزئ، عقاب الزناة رجماً، عقاب الساحر. أما الباب الثاني الغلوّ والتطرّف، ففيه بالإضافة إلى الغلوّ والتطرّف، لعنة التطرّف الديني والمذهبي، مع غير المسلمين، والتنوير المحظور. ويشتمل الباب الأول على عقاب الجنايات الأربع؛ الردة والسب والزنى والسحر، والباب الثاني الكراهية، أي الغلوّ والتطرف، وكيف أن تطبيق الحدود ليس ببعيد عن الغلوّ والتطرف.
يلفت إلى أن كتابه لا يختص بالعقوبات الجنائية، ولا يبحث في القصاص كعقوبة قانونية-شرعية-دينية، تقع على القاتل. ولا يبحث في عقوبة الإعدام التي تمارس في بعض الدول، إنما يبحث في شأن عقوبة القتل وبخصوص أربعة أسباب: الردة والسبّ والزنى والسحر، وكيف يعامل مقترفوها معاملة الكافر.
يشير إلى أنّ قوانين العديد من الدول العربية والإسلامية وشرائعها، وما تبنته الجامعة العربية، حوت عقوبة القتل للمرتد والسابّ والزاني، ذكراً كان أو أنثى، مع أن هذه الأحكام لا وجود لها بين الحدود التي جاءت في القرآن الكريم، إنما ثبّتها الفقهاء بأعذار وحجج مختلفة، وبينها أخذت من السنة، ويجد أنه تبعاً لذلك اختلف الفقهاء فيها، ومنهم من وضع التوبة مخرجاً منها، وبخاصة الردة والسبّ والسحر، لهذا جاءت قوانين العقوبات لعدد من الدول الإسلامية والعربية خالية من هذه الحدود، واستعاضت عنها بعقوبات أخرى كالسجن والإبعاد.
ينوّه إلى أن ما يجمع الحدود أو العقوبات على الجنايات الأربع بالقتل، أن العقوبة لم ترد في القرآن، مثلما أتى عقاب السارق والسارقة والزاني والزانية غير المحصنين بالجلد. أي ليس في القرآن من حد بالقتل غير القصاص. ويؤكد على أن الحكم بالقتل على المرتدّ العقائدي لا وجود له في القرآن، وكذلك ما يخص الذات الإلهية أو النبوية، ويضيف إليها عند فقهاء الشيعة الإمامية ذوات الأئمة الاثني عشر والسيدة فاطمة الزهراء، ويضيف فقهاء السنة السيدة عائشة والصحابة، إنما هي اجتهادات الفقهاء، وما نقله الرواة من أحاديث وحوادث على أنها “حدود الله” غدت منفّرة لا تتناسب مع روح العصر، وإن سنّت في وقتها فتتعلق بالحاكم ومركزيته في الإمبراطورية، وواقع أن المسلمين يعيشون في الوقت الراهن في عصر الدولة الوطنية.
يذكر الخيون أنّ باب الغلوّ والكراهية جاء عاكساً صورة الغلوّ في التراث والفقه الإسلاميين، والذي يعد من أبرز معوقات التنوير والتسامح الاجتماعي، الديني والمذهبي. وينوّه كذلك أن مادة كتابه جاءت وصفية لما حدث عبر التاريخ حتى يومنا هذا، وأنّ التغير لكل ظاهرة يحتاج إلى رصدها تاريخياً، لمعرفة مدى عمق النصوص التي شيّدت عليها ثقافة التطرف، وهي غير معزولة عن الأحكام العرفية التي تجاوزت آيات القرآن نفسها، عبر تفسيرها وتأويلها، وصياغة الأحكام المتشددة وفقها.
يجيب الباحث عن السؤال المفترض الذي يمكن أن يطرح عليه عن دافع تصنيف كتابه، واختيار موضوعه بالذات، بأنه من ناحية الغلوّ والتطرف فإن الأمر وصل إلى مستويات خطيرة، وذلك بعد أن تدرج من آراء وأفكار إلى حمل السلاح والمطالبة بالسلطة، إلى ظهور جماعات فاق عنفها وقسوتها التصور، مع انسحاب التنوير ودعاته من الساحة وانكماش دورهم، ووقوع التعليم في أكثر من دولة ومجتمع بيد تلك الجماعات أو تحت تأثيرها، وكيف أن العديد من الأنظمة قامت بحملات إيمانية كي تأخذ دور تلك الجماعات، فأسلمت تعليمها ومجتمعها بقوة السلطة.
وبالحديث عن خطورة العقوبات في الثقافة والمجتمع، يلفت الخيون إلى أن أخطر ما يؤثّر في الثقافة ويمنع حرية الفكر بسلاح الدين هو قتل المرتد، فمئات من الضحايا عبر التاريخ، قطعت رقابهم بالسيف، مع أنه ليس في القرآن حدّ على المرتدّ العقائدي، والآيات التي ورد فيها موقف من المرتد واضحة.
مرتدّو العصر الحديث
يجد الخيّون أن من ينطبق عليهم توصيف الارتداد قد كثروا في العصر الحديث، وصار كل صاحب فكرة قابلة للتأويل تؤول على أنها ردة عن الدين، وتناول قضايا ومحاكمات عدد من المفكرين المطاردين والمقتولين بسبب ديني، وتراه يركّز على محاكمات مثقفين ومفكرين في العصر الحديث كقضية الميرزا محمد الإخباري (قتل 1816) والإيراني أحمد كسروي (قتل 1946) والشيخ محمد محمود طه السوداني (قتل 1985) وقضية صادق جلال العظم، وفرج فودة، وحمود العودي وغيرهم من شخصيات تعرّضت للاضطهاد والتكفير.
يعالج الباحث اختلاط الدين بالسياسة في القضايا التي يتناولها، وكيف صار رجل الدين أو الحاكم متحدّثاً باسم الله، ومدافعاً عنه، وأن السلطة سرعان ما تتبنى موقف رجل الدين، لتحمي نفسها وتطمع بتأييده، وإن كان الضحية بريئاً. ويقول بأنّ غلبة الماضي على الحاضر صارت سمة لثقافة المنطقة، وما الأحكام والعقوبات التي يتطرق إليها إلا من نتاج الماضي، يريد لها دعاتها البقاء صالحة لكل زمان ومكان، مثلها في ذلك مثل شعار “الإسلام هو الحل” من دون وعي بما يحيط المنطقة من تقدم مذهل، ما زال سكانها يلعبون دور المستهلك، سلباً لا إيجاباً، ويؤكد على أهمية استخدام الوسائل المتطورة في التطور بدلاً من زيادة التخلف والتراجع عاماً بعد آخر.
يعيد طرح السؤال الذي طرحه شكيب أرسلان “لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم؟” والذي قدّم من خلاله بكائية على الماضي، متجاهلاً السياق الزمني للأحداث، ويلفت إلى أن أوروبا لم تتقدم إلا بعد أن فصلت المعاملات عن العبادات، وأصبح “الدين لله والوطن للجميع″، وذلك دفع الثورة الصناعية إلى الانطلاق وأخذ الغرب السبق، ولم يعد الدين في أوروبا مجال خوف وفزع، ولم يتحقّق إلا بتضحيات عظيمة، ويؤكد أن القتلى في أوروبا من أجل الحرية والتنوير فاقوا ضحايا المسلمين بالتكفير والردة، وفاقوا القتلى من المهرطقين والسحرة.
كما يتحدث عن جمال الدين الأفغاني ويضع أفكاره التي نادى بها تحت مجهر المقاربة والمساءلة والمعاصرة، حيث تمّ تقديمه على أنّه رائد الإصلاح والتنوير والتقدّم وبيده مفتاح الحل، وأنّه كان يبحث عن الخلافة الإسلامية، ليس لنفسه إنّما أرادها إمبراطورية للمسلمين، في زمن انتهت ضرورة وجود الإمبراطوريات وجاء عصر الدولة الوطنية. ويشير إلى أن المفاجئ هو ردّ الأفغاني الركيك والساذج على نظرية داروين، الذي يُفهم منه أنّه لم يخرج من عباءة الكهنوت والنظرة الساذجة للعلم.
يستهل حديثه عن عقاب المرتد بالإشارة إلى أنه إذا كانت قصة “ماعز بن مالك” والمرأة الغامدية في الغالب، وراء سنّ عقوبة الرجم على الزناة المحصنين، ولا وجود لها في القرآن، فإن هناك أكثر من قصة وحدث قادا إلى فرض حدّ القتل على المرتد عن الإسلام، وهو حدّ أيضاً لا وجود له في القرآن، لكن وفق حوادث جاءت في التاريخ الإسلامي والحديث النبوي، ومنها ثلاث حوادث، حرب اليمامة (11/ 12 هـ) وما عرف بحرب أو حروب الردّة، وقصة الجماعة التي أكرمها النبي ثم أفسدت بقتل الراعي وسرقة الإبل، وما يتعلق بخبر معاملة علي بن أبي طالب مع مرتدين، وفيها نجد حديث مَن بدّل دينه فاقتلوه، ويلفت إلى أن الحوادث الثلاث تتعلق بما عرف بالحرابة، الأولى فيها منع المال-الزكاة، والثانية فساد في الأرض، والثالثة: تبدو ارتداداً جماعياً. ويؤكد أنه ليس هناك ما يتعلق باختلاف الرأي أو الرجوع عن اقتناع. ويشير إلى أن هذا من جانب إذا كانت قضية تبديل القناعة والردة عن الدين غير الحربية، فلماذا لم تذكر عقوبة أو حدٌّ عليها في القرآن، وقد ذكر حدّ السرقة والزنى؟
يعبر صاحب “الأديان والمذاهب بالعراق ماضيها وحاضرها” عن ظنه أن ما جعل الفقهاء يسنون حدّ القتل على المرتد، الفرد أو الجماعة، هو مركزية السلطة، فلو أنه يكون هناك تساهل في الردة فهذا يمسّ هيبة الخليفة وسلطانه، لذا جعلت هذه العقوبة على الرؤوس، وراح بها الكثيرون، ليس فقط من المرتدين بل يؤخذ بها كل صاحب فكر مغاير، وإن كان في إطار الإيمان والإسلام.
تكفير من دون تفكير
يوجه الخيون سهام النقد للجامعة العربية التي يقول بأنها ومن خلال إدارتها العامة للشؤون القانونية قد تبنت رسمياً عقاب الموت للردة، بعد عقوبتي الزنى والسبّ. ويستنكر زعم الجامعة العربية تطبيق الشريعة الإسلامية بحذافيرها مع أن قضايا العقوبات لا تخصها، بقدر ما تخصها القضايا والمواقف السياسية. ويرى أن الجامعة العربية أعطت شرعية استثنائية للعقوبات، وغطاء سياسياً ووحدوياً لتطبيقها، وغرابة تبني الجامعة لها مع أنها غير مذكورة في القرآن الذي يعد مصدر التشريع الأول، ويجد أنه كان مطلوباً من الجامعة العربية أن تأخذ بيد دولها إلى ما يناسب روح العصر، لا أن تكرس تلك العقوبات المثيرة بشكل مثير للاستغراب.
تحدّث كذلك عن فتوى الخميني سنة 1988 بقتل الروائي البريطاني الهندي الأصل سلمان رشدي بعد صدور كتابه “آيات شيطانية”، وكان مبرّر الفتوى الإساءة للنبي وهو ضرب من ضروب السبّ، ويشير إلى أن فتوى الخميني كانت غير ملزمة لكل المسلمين، بل غير ملزمة لكل الشيعة، فليس جميعهم مع فكرة ومنصب ولاية الفقيه، حتى داخل إيران يوجد اختلاف على ذلك بين مراجع الدين، ويجد أن من المعلوم أن التنفيذ يحتاج إلى تقليد لصاحب الفتوى، لذا يمكن اعتبارها حكماً قضائياً إيرانياً.. وتحدث في السياق عن اغتيال الجماعات المتشددة التابعة لإيران في لبنان المفكرين اللبنانيين حسين مروّة ومهدي عامل.
بالنسبة إلى عقاب السبّ، يشير الباحث إلى أنه لم يتناوله بهذا الاهتمام ليكون فصلاً في كتاب عن التطرف والتشدد، إلا لأن العقوبات مفتوحة على ألسنة الفقهاء، وبعضهم أطلق تنفيذها لسائر الناس، حتى خارج السلطة الزمنية، أي على السامع التنفيذ بالحال! ويجد أن الخطورة الأكبر أن كتب الفقهاء لم تبقَ داخل المؤسسات الفقهية أو القضائية، إنما موجودة في متناول الجميع، تغزو معارض الكتب بالبلدان العربية والإسلامية، وتذاع على الفضائيات، وقد راح بتهم ازدراء الأديان خلق كثير.
يؤكد في الختام أن الدعوة إلى التنوير والتجديد ستعود من جديد، وبطرق وأساليب مختلفة، وأن ما آلت إليه المنطقة أمسى لا يطاق، من تصاعد الغلوّ والتطرف الديني والمذهبي، وكل هذه المفردات توضع في خانة الظلام، وببلدان كانت واحات لذلك التنوير، كالعراق ومصر والشام، وبلدان المغرب العربي كتونس مثلاً، بما يمكن تحميل الأنظمة الاستبدادية التي حكمت هذه البلدان، الحصة الكبرى من تقهقر مشاريع التنوير، وقد استعيض عنها بالأيديولوجيات والقهر الحزبي.
ويعتقد أن ما يساعد على قوة عودة الدعوة إلى التنوير بالمنطقة وجود وسائل التواصل المتقدمة، وإباحتها للناس كافة، وما يرافق ذلك من تأثير إيجابي على طرق التفكير، وأن الحاجة إلى التنوير تجاوزت الإخفاء، ويعتقد كذلك أنه مثلما حدث انتصار التنوير في أوروبا بفعل المثقف والملك، فإن ذلك سيكون بمنطقتنا إن استقرت سياسياً، المثقف يكتب ويكشف ويحرّض والملك يصدر القوانين. ويجزم أن الحاجة للتنوير لم تختفِ ولا الدعوة له، إنما ظلت تتأرجح بين سطوع وخفوت، وأن الظرف الحالي سيدفع باتجاه السطوع من جديد.
يؤكد كذلك أن أصعب شيء أن يكون القتل دواء لفكرة أو رأي، بل على العكس تجده يغذيها، لا يحمى الدين ويحافظ عليه بالقوة، بل يُحمى بربط ممارسته بالزمن، وهذا يخص المعاملات، أن يكون الفقه في حلّ منها، وتتولى الدولة وضع قوانين العلاقات بين مواطنيها، اعترافاً أن ما كان يصلح لقبل قرون من الزمن يختلف عما يختلف لزمننا الحاضر.
ويختم بقوله إن الكتاب جاء تحت مطلب ملحّ، مطلب العصرنة بربط الفقه بالزمن، غير أن أصحاب فكرة الفصل بينهما يوهمون أنفسهم بالقانون الصالح لكل زمان ومكان، ويرى أن ذلك قد يحصل في العبادات أما المعاملات فمراعاة الزمن بها، وإلا فإنها ستمسي مجالاً لعزل الدين نفسه، فحظوة الدين بين الناس لا تقاس بالسلطة ولا بالقوة التي يفرض بها، إنما يقاس بأفق الحرية نفسه.
جدير بالذكر أنّ الكتاب يمتاز بالدقة والتوثيق والموضوعية ويبرز الحرص على الإحالة إلى عشرات المراجع والمصادر التي استقى منها الباحث، وذلك في مسعى للانتصار للعقل والفكر والتفكير على قوى الجهل والتجهيل والظلامية في العالم الإسلامي، تلك التي تواصل استغلال الدين في خدمة مصالحها.