قديسو الاستهلاك وشياطينه
عام 1993 سأل الصحافي والناشر رياض نجيب الريس في مفتتح مجلة “الناقد” المحتجبة “لا أدري كم موظّفاً عربيا أمسك في حياته ورقة الدولار الأميركي ولاحظ أو قرأ ما هو مكتوب تحت ‘ختم الولايات المتحدة العظيم’ الكلمات اللاتينية التالية ordo seclorum novus (نوفوس أووردو سيكالوروم) والتي تعني حرفياً ‘نظام العصور الجديدة’..”، ويجيب الريس “أعتقد لا أحد”.
والحق أنّ الأمر لا يقتصر على عبارة “نظام العصور الجديدة”، وهو جوهر العولمة والاقتصاد الحر والنيوليبرالي، بل هو تحكّم الدولار بمسار العالم ورقاب الشعوب، فقد لاحظ الفيلسوف الألماني فالتر بنيامين، وهو أحد رواد مدرسة فرانكفورت، أنه في “المقارنة بين صور القدّيسين في مختلف الديانات والأوراق النقديّة في مختلف الدول”. حيث يكون المال، المتعيّن في شكل ورقة نقديّة، موضوع عبادة مثله مثل القدّيسين في الديانات “العاديّة”. ورغم استلهام بنيامين أعمال عالم الاجتماع ماكس فيبر، وخصوصاً منها عمله حول التوافق الانتقائي بين الأخلاق البروتستانتيّة وروح الرأسماليّة، إلا أنّ بنيامين يتجاوز أطروحة عالم الاجتماع: فالرأسماليّة في نظره لا تحمل جذوراً دينيّة فحسب، بل هي نفسها دينٌ، وعبادة لا تنقطع، دون رحمة ولا هوادة، تقود المعمورة البشريّة نحو “منزلة اليأس″. وما تفعله الرأسمالية يتقاطع مع الأنظمة الاستبدادية (العربية والشيوعية) التي تكرّس عبادة الفرد من خلال وضع صورة “القائد” و”الزعيم” و”الوالي” على الورقة النقدية. ومردّ اعتبار الرأسمالية دينا بحدّ ذاتها، هو وقائع على الأرض، فقد لاحظ الكاتب مايكل لوي في مقاله “الرأسماليّة بوصفها ديناً: بين فالتر بنيامين وماكس فيبر” إن الرأسماليّين ألغوا غالبيّة أيّام العطل الكاثوليكيّة، حيث اعتبروها حافزاً على الكسل. بذلك، تشهد جميع الأيّام، في إطار الدين الرأسمالي، انتشار “الفخامة المقدّسة”، أي طقوس البورصة والمصنع، في حين يتتبّع المتعبّدون، بقلق و”توتّر شديد”، صعود الأسهم وهبوطها. ولا تعرف الممارسات الرأسماليّة انقطاعاً، حيث تهيمن على حياة الأفراد من الصباح إلى المساء، ومن الربيع إلى الشتاء، ومن المهد إلى اللّحد، حتى سلسلة المطاعم الضخمة والمقاهي وماركات الثياب المزيفة والمشروبات الغازية والروحية وبعض كتب “الباست سيلر”(هاري بوتر، قصص الرعب، دان براون) فرضت أصنامها الاستهلاكية ورموزها المنتشرة في الشوارع وعلى الشاشات والثياب، بل وفي التعليقات الصحفية وكتب “فلاسفة اليوم”.
وإذا كانت أنماط الاستهلاك فرضت أنماطاً في التعاطي مع كل السلع والثياب فهي جرّدت الفنون والثقافة من هالتها، والهالة قديما كانت تعطي الفنيّ بعداً رمزياً واجتماعياً في كونهِ يعبرُ عن المقدّس وعن كلّ ما يرتبطُ بالطّقوسِ والعاداتِ، لهذا صُبغت الأعمال الفنيّة قديماً بهالة حضوريّة. إلاّ أنّ هذا التّصوّر سيتلاشى تماماً مع ظهور الفوتوغرافيّة الّتي ستشكّل أزمة الفنّ الحديث، إذ فجّر العلاقة الطقسية بين الفنان وعمله، وأضحت الصّناعة الثّقافيّة رديفة الآلية والفنّ السّهل. الفنّ الذي يخرجُ عن كلّ روح إبداعيّة ويرميها في الظّل. الفنّ في المجتمع الاستهلاكيّ يعيدُ إنتاجَ فنٍّ بناءً على مقاساتِ السّوق و”الصّناعة الثّقافية على وجهِ الحقيقة لا تهتمُ بالإنسان، إلّا باعتبارهِ زبونا وموظّفاً”، بحسب أحد قارئي فالتر بنيامين.
واعتبر زميل فالتر بنيامين هربرت ماركيوز أن نزعة الاستهلاكية أصبحت شكلاً من أشكال السيطرة الاجتماعية. فبدلاً من السعي خلف الحرية الحقيقية اقتصر الاختيار على قرارات الشراء، ما أدى إلى إنتاج “إنسان أحادي البعد” لكنه انتقد في الوقت نفسه بيروقراطية الاقتصادات السوفياتية (الشيوعية الآفلة)، معتبراً إياها ذات حرية محدودة. وحاول ماركيوز متأثراً بمشاهداته للمجتمع الأميركي استكشاف الحلقة الجديدة في استغلال الإنسان، فأسّس لمفهوم الهيمنة لتوضيح كيفية استعباد الإنسان في مجتمع التقنية والعقلانية الأداتية؛ فالسلعة تصبح هي البداية والنهاية وهي مركز الوجود وبوابة السعادة، إذ يلعب النظام الرأسمالي على وتر الحاجات وتغدو فكرة السعادة، بحسب الفرنسي جان بودريار، هي “المرجعية المطلقة للمجتمع الاستهلاكي” أو “معادل الخلاص”، وشعار “أنا أستهلك إذن أنا موجود”، والوجود هنا اللاوجود، فالسلعة تزيح الإنسان من مركز الكون لتحلّ محله، وهذا نتجت عنه مصطلحات مثل التوثن (fetishism)، وهي تعني أن الأشياء (بما في ذلك السلع) تتحول إلى أوثان يتعبد الإنسان في محرابها بعد إزاحته من مركز الكون. وكان ماكس هوركهايمر وتيدور أدورنو، المنتميان لمدرسة فرانكفورت الألمانية التي ألقت على عاتقها نقد التجربة الحداثية، ونقد مجتمع الاستهلاك، يردّدان أن “كل تشيؤ عبارة عن نسيان …”، فلما نسي الإنسان نفسه صار شيئاً يقذف به هنا وهناك، إنه ميت حتى وإن كان ما زال يتنفس، ذاك هو الوضع الذي كان يشخصه ويحلله عالم النفس الألماني الأميركي إريك فروم أيضاً، وكأنه يعني أن “اغتراب الإنسان عن ذاته هو انفصاله عن الطبيعة المثالية”.
صار الاستهلاك صنماً ووثناً جديداً، وهو ما دفع إريك فروم إلى الظن بأن المجتمع الحالي بحاجة إلى “علم للأصنام”، ففي هذا المجتمع لم يعد هناك بعل أو عشتروت بل إن الأمر اختلف تماماً، فالسلع والمنتجات وأدوات الرفاهية هي الأصنام الجديدة التي توهمنا بالسعادة وتدفعنا نحو الملل. إن إريك فروم يؤكد على أن حقيقة حضارتنا الحالية هي: أن الناس ليسوا سعداء. ليس لأنهم لا يملكون أو لا يتوفرون على الأشياء، بل لأن الملل يخترق حياتهم.
على أن النظام الرأسمالي “العاهر Obscene” -والتعبير لماركيوز- لم يتوقف عند هذا الحد، بل انه انطلق، وعبر مؤسساته الإعلامية الضخمة، ليذكر الزبائن باستمرار عن طريق الشاشة أو وسائل الإشهار المختلفة بمآثر الحياة الاستهلاكية التي يحيون في كنفها. ومؤخرا نشر سلافوي جيجك مقالة في صحيفة “الغارديان”، بعنوان “شوكولاتة خالية من الدهون، ومنعٌ تامٌّ للتدخين: إحساسنا بالذنب من الاستهلاك، لماذا يستهلك عقولنا؟”، يحاول من خلالها تحليل مأزق استهلاكيّة عصرنا الحاضر، حيث تحوّل هدف الاستهلاك من ضرورة إشباع الحاجات الأساسيّة إلى الاستهلاك لغايات الانضمام إلى نمط حياة عصريّ. ويقول جيجك ما نشهده اليوم هو التسليع المباشر لخبراتنا (الحياتيّة): ما نشتريه من السوق لم يعد منتجات (أشياء ماديّة) نريد امتلاكها، بقدر كونه “خبرات حياتيّة”، خبرات في الجنس، الأكل، التواصل، استهلاك ثقافي أو المشاركة في نمط حياة. فكرة ميشيل فوكو عن تحويل ذات الفرد ذاتها إلى “عمل فنّي” يحظى هنا بتأكيد غير متوقّع: (فمثلاً) أنا أشتري لياقتي البدنية عن طريق زيارة نادٍ للّياقة البدنية؛ أنا أشتري استنارتي الروحيّة بالالتحاق في دورات للتأمّل الروحيّ، أنا أشتري “شخصيّتي العامة” عن طريق الذهاب لمطاعم يرتادها أشخاص أطمح بالانتساب إليهم.
والسؤال هل من جدوى لمقاومة إغراءات الاستهلاك التي تصنع موتنا وبؤسنا وبلاهتنا؟ هل من جدوى لنكون شياطين ضد الاستهلاك في زمن طوفان الفايسبوك ونظام العصور الجديدة الذي انبثق عن الدولار، بتنا نعيش لكي نستهلك، وإذا لم نقدر على ذلك نشعر بموتنا أو نتعرض للإقصاء، حتى في الثقافة انجرّ الكتّاب إلى مستنقع الاستهلاك، فالكثير من الكتّاب يشعرون بالبؤس إذا لم تتحول كتبهم إلى سلعة، أو لم تلق مقالاتهم المزيد من المشاهدات واللايكات في زمن الراتينغ والإنترنت والتويتر والفايسبوك وأنستغرام.