الصوت العالي: الراب أو فن الغضب
أرى علاقتي مع الراب كامتداد لعلاقات موسيقية طويلة سابقة، وعلاقتي مع الموسيقى بشكل عام هي امتداد لعلاقتي المضطربة مع محيط كبرت فيه لا يدفعك سوى إلى العزلة والانفراد منذ نعومة أظافرك، حينها كانت “الووكمان walkman – ” هي الحل. كنت أسمع الموسيقى كحجّة لأكون وحيداً ولا أتواصل مع من حولي، كنت أصطنع فعلاً،لأبدو مشغولاً في البيت ذي الغرفة الواحدة التي كانت تقطنه أسرتي المؤلفة من خمسة أشخاص، وحينها لا بديل عن السماعات في الأذن لأخلق مساحتي الخاصة.
كنت أستمع للأشرطة الموجودة في البيت، مهما كان نوعها، أنتقل بين زكي ناصيف وباسم كربلائي، إلى أن بدأت أستمع للراديو، واكتشفت الإذاعات التي لا أمتلك كمستمع قدرة اختيار الأغنيّة التي أريد، حينها تعرّفت على عوالم موسيقية مخيفة وجديدة، بأدواتها وشكلها والتي كانت تسمّى “الأجنبي”، الوصف الذي ينطبق على أيّ أغنية غير عربية، مهما كان نوعها وشكلها وتوزيعها… الخ، ربما تعلقي فيها بداية كان هروباً إلى مكان مجهول من قبل أبناء جيلي، حينها كانت لغتي الانكليزيّة ضعيفة، وكنت أحفظ تناسق الحروف وتدفقها كما أحفظ الأغاني الهندية اليوم، دون أيّ فكرة عمّا يُقال فيها، وصار تعلقي بالموسيقي انعكاسا لهروبي من الأهل والبيئة والمدرسة والرفاق.
أظن أنّي كنت أخجل مما كنت أسمع، ولم أخبر أحدا بذلك، وكأنّي تربيت في صومعة راهبات مرعبة، مع ذلك، أصبحت لدي موسيقى مفضلة، إذ انجذبت لصوت الغيتار الكهربائي حين أسمعه في واحدة من الأغاني، وتعلمت الـheadbanging ، وهذه كانت بداية دخولي لعوالم الروك والميتال، وبدأت أشتري الأقراص المضغوطة والمشغلات المحمولة، ثم أحفظ كلمات الأغاني التي كنت أحمّلها من الإنترنت، ثم أترجمها كي أفهم ما يقال، كنت حينها، وبدون أن أدري، أبني هويتي الموسيقية التي مازالت ترافقني حتى الآن، -حينها كان عمري 12 عاماً والآن أنا ابن الـ32- وأتعلم الإنكليزيّة لوحدي.
في رحلة البحث عن معاني الكلمات التي أسمعها وربطها بما يحصل من حولي والتعبير عنه، انتقلت من سماع موسيقى الميتال إلى الهيب هوب، وكأني حينها أنتقل من حالة الصبيّ المنعزل الخائف من الكون ونفسه إلى الشاب المشاغب الراغب في المواجهة وتحطيم كل مقدّس، ومع الراب، بدأ صوت الموسيقى يعلو، وكأني جاهرت “بخطيئتي”، وانتقلت بعدها لتعريب الأغاني، ثم كتابة مقاطع يومية عمّا أعيش وأعرف بعد ما سحرني التدفق لدى المغنين واللباس والجرأة في التعبير والشتائم والألحان التي تجعل من غضبك متعة راقصة، أذكر مثلاً أن لديّ أغنية سجلتها على برنامج الـjet audio باستخدام معدات بدائيّة، حينها كنت أعمل في كراج سيارات، وتنتابني السعادة والفرح إلى الآن، في كلّ مرة أستمع لها.
نقلت هذه “المعرفة” الجديدة التي نلتها لصديق مقرّب لي وأسسنا فرقة “الطفار”، وفي الجامعة تعرفنا على فرقة “كتيبة خمسة” ومنها الصديق “أسلوب” الذي أعجب بهذا الاندفاع وأنتج لنا الأغنيّة التي لاقت صدى واسعاً في الفترة التي كان فيها تبادل الموسيقى عبر الـ”البلوتوث” قبل أن يكون هناك منصات نشر رقميّة، وأذكر حينها أن الأغنية انتشرت بشكل كبير، وصارت لفترة نشيداً وطنياً لجيل كامل بلبنان “ازرع احصد كسر لف….”، ومن ثم أنتجنا أغنية أخرى “الوسخ التجاري” التي بسببها تعرفنا على مجموعات شبابية وسياسية جديدة أخذت عملنا على محمل، كونه يحوي توجهاً سياسياً راديكالياً مراهقاً قادماً من القرية لهدم المركز على رؤوس من فيه، وتتالت الأغنيات إلى أن أصدرنا الألبوم الأول “صحاب الأرض” والذي كان وما زال حتى اليوم علامة تاريخية فارقة في تاريخ الراب في المنطقة، بالرغم من كل ما يحمله من تصنّع وذكوريّة ونفس عشائريّ انتقامي مراهق.
كانت تجربة الطفار هامّة بالنسبة إليّ وللكثيرين الذين استندوا على نجاح التجربة وجرأتها، لإصدار أعمالهم الخاصة، وكانت فرصة لي لتشكيل وعي موسيقي سياسي واجتماعي معين، على أساسه أكملتُ بعدها المسيرة منفردًا، منتقلًا كما الراب العربي من حال إلى حال، وأصبحت أعمل على إنجاز تجارب مشتركة مع أناس جدد من لبنان وخارجه، إلى جانب أدائي في حفلات مشتركة وتنظيم حفلات مختلفة، آخرها كانت في إسطنبول، الأولى منفردة وقد بيعت كل بطاقاتها في أيام قليلة، والثانية منذ أشهر وكانت مشتركة مع رفيق الدرب جندي مجهول هو “خيري إيبش” و”عاصفة” من فلسطين إلى جانب مؤدّين أتراك.
شكل الراب بالنسبة إليّ دافعاً لأخوض غمار تجربتين كتابيتين مستقلتين هما “الحرايق” و”القشنود”،وأظن أنهما خلقا حالةً جديدة في المشهد الأدبي بسبب النجاح الذي نالاه، أما انتشارهما حول العالم، فيشكل برأيي سخرية وانتقاداً عميقين لكل القنوات الاحتكارية الفنية التقليدية، لكني أذكر جيداً حين كنت أخجل أن أرفع صوت الموسيقى في بيتي، كنت لا أوصف بالأهبل أو واحد من عبّاد الشيطان، لكن الصوت العالي هو ما أوصلني إلى هنا، وهذا هو الراب على كلّ حال.
الراب بأصله لسان المهمّشين الناطق، وهذا ما نراه في أماكن انتشاره الأصلية وفي مضمون أغانيه وشكله الموسيقي، وأتحدث هنا عن الراب كفكرة أصلية للمواجهة وهز الأدمغة والأفكار قبل أن تسرقه المؤسسات الرسمية وتعمل على تشويهه، كما تسرق أدوات النضال كافة من الناس وتحولها إلى موضة.
تكمن الإشكاليّة أيضاً في انتقال الراب من شكلّ موسيقيّ يحمّس القلب ويشحذ الطاقة ويملأ النفس شجاعة وجرأة إلى موسيقى تافهة نسمعها في المراقص وأثناء تنظيف البيت، وبرأيي هذا الانتقال هو نتيجة قرار يتخذه “الرابر” وليست نتيجة تطوّر في الأسلوب أو التقنيّة.
من جهتي، أنا ابن الهامش، في بيتي وفي اسمي الفني الذي اخترته الذي أنتصر به للـ”طفار”، المهمشين، الملاحقين في الجرود والبراري، ويترجم ذلك أساساً في الغضب الواضح في كلمات أغنياتي التي تنتقد وتشتم المركز بكل أشكاله اللماعة. وهذا ما يتضح أيضاً في مشاركاتي الموسيقية، وفي أول حفلة موسيقية أقمتها، والتي كانت في صالة أفراح في “الضاحية الجنوبيّة” قبل أن ترى فينا مسارح بيروت استثماراً مُربحاً لاحقًا، وتدّعي دعم فكرتنا، خصوصاً أنها منذ ما يقارب العشر سنوات كانت ترفض استقبالنا حتى في اجتماع.
أصبح لدينا الآن أنا وباقي مغنّي الراب، منصات أكتر لتقديم العروض الحيّة، والتواصل السريع عبر الإنترنت، الذي يساهم في سرعة نشر الأغاني وانتشارها عبر المنصات البديلة التي تلعب دوراً بالغ الأهمية في نقل الراب وانتشاره بشكل أوسع وأكبر، مع ذلك تبقى هذه الجهود غير كافية ما لم تقترن برغبة بتحطيم السائد والمتداول والـmainstream، عبر تكاتف مضاد له ولا عبر الانصياع لما يريده، كما يحدث اليوم مع انتشار ثقافة الـauto tune كالجرثومة في إنتاجات الراب والتي يتم عبرها اختيار الإيقاعات الراقصة وتفريغ الكلام من معناه.
دجّن نظام الماينستريم الاستهلاكي الراب وسلّعه، وفرض عليه هوية جديدة راقصة مناقضة لصورته الأصلية، لنرى الراب ينتقل تدريجيّاً من محاربة تهميشه إلى ثوب استهلاكي تافه يرضي من همّشه.
الراب كموسيقى كسر للمألوف وخروج عن الطاعة. وأتحدث عن شكل هذه الموسيقى وأدواتها وسقف جنونها العالي من ناحية التجريب في الألحان والكلمات والأسلوب، هي كالمغناطيس لكل من يبحث عن منصة يفرغ بها غضبه بطريقة فنية، بدل أن يقترف الجنايات في الشارع، هي وسيلة للحشد ونشر الأفكار بقالب فني يميزها عن النشر بالبيانات والمحاضرات، وهنا لا بد أن أشير إلى أن المظاهرات في بيروت فترة الحراك ارتبطت مباشرة بأغنيتي “خير الشغب” و”نحن والزبل جيران” وكانت هناك معركة مخفية بينهما وبين الغناء التقليدي كجوليا بطرس وماجدة الرومي.
لم أعتمد الراب كوسيلة لمواجهة التراث أو التقليدي، بل على العكس، أحرص دوماً على التوفيق بينهما، وإبراز الجماليات التي يمكن أن تنجم عبر هذا المزج، فمثلاً أغنية “تتليت” مكتوبة كاملة بتقنية العتابا، وهي من أكثر الأغاني انتشارًا حتى اليوم، وأضيف، لم يأت الراب لترسيخ أيّ انقسام، بل على العكس، أتى الراب لكسر التنميط، مُعتمدًا على عنصر المفاجأة بحيث لا يمكن أن تتوقع أبدًا ما الذي قد تحمله أغنية فلان من كلمات وموسيقى، حتى ولو كنت تستمع إليها منذ عشر سنوات.
أعطى الراب لكلّ شخص حرية اختيار التصنيف الذي يريد، وتحديد الملاح الخاصة به، فمن جهتي مثلاً معياري الأول والأساسي هو الكلمة التي يقولها المؤدي، رغم الأهمية البالغة بل المهولة للموسيقى والقالب الفني، لكن الراب فن الكلام، وكلما كان الكلام مبتذلًا ركيكًا فستكون النتيجة ركيكة أو مسلية بأحسن حالاتها، مهما بلغت حرفية الإنتاج الموسيقي، وبرأيي، الكمال يكون حين يوضع النص الجميل المتقن الذكي، بقالب موسيقي من مستواه.
الحديث عن الراب فضفاض، ففي سوريا مثلا، هناك مغنّو راب ارتدوا بذلة عسكرية، وغنّوا على حطام البيوت المهدمة، ولا أستطيع أن أنفي أن ما يصنع هو “الراب” مهما كان رأيي فيه، لكنه لم يكن فقط متصالحاً مع السلطة، بل وجهاً واضحاً من وجوه السلطة، وفعلا ما تخجل السلطة نفسها أن تفعله، كذلك نرى الأمر في بيروت، هناك شخصان، والدهما نائب في البرلمان، مع ذلك يصنعان موسيقى”الهيب هوب”بالطبع، خطابهما بأحسن حالاته برجوازي يشابه المعاتبة والتربيت على الكتف.
هناك مؤسّسات عربية تدعم هذا الشكل الموسيقي، لكنّي لا أعلم عنها كثيرا، قد يكون ذلك تقصيراً منيّ، لكني لم أسمع أن هناك تفانيا في دعم الراب والمساهمة في نشره وتوزيعه، لكن هناك البعض ممن لديهم أصحاب ضمن لجان تحكيم المنح، فيحصلون على تمويلات ودعم لألبومات تبقى في بيوت أصحابها، أو توضع في المقاهي بأحسن أحوال، هناك أيضاً أماكن ومسارح تدعم الراب لغايات نبيلة أو تجارية طبعًا، ولكن أظن الذين يمتلكون الأموال، أو القدرة على النشر “الجماهيريّ” يميلون نحو السطحي وسهل الانتشار والمحمّل بالسفالة، وقد يكون هذا توجهاً لدى بعض مغنّي الراب، فاختيار ما هو شديد الانحدار قد يكون سبيل الجماهيريّة.
كل أغانيّ موجودة على الإنترنت، وليس لديّ أيّ أسلوب قانوني للحفاظ على حقوق الملكية، وما يحدث عادة، هو أن يتواصل معي فلان أو غيره من أجل استخدام موسيقي، وحينها نتفق على صيغة ما تختلف بحسب الغاية من استخدامها، وإن حصل وقام أحد ما بسرقة مواد مني دون رضاي لا أظن أني سأفكر في الأساليب القانونية لاسترداد حقوقي، في بلاد لا تحمينا من حوادث أقل تعقيدًا بكثير من المسائل الفنية. وقد اتبعت ذات الشيء مع الكتابين اللذين أصدرتهما دون ناشر، وهذا ما أفعله في “البوتقة” السلسلة المصورة التي أقوم بكتابتها وإخراجها ونشرها على الإنترنت، دون أي إذن أو رقابة أو حقوق ملكيّة.