حطام شعري عربي
يعتبر كل مشروع ترجمة مغامرة غير مضمونة العواقب، خاصة فيما يتعلق بترجمة الأدب، إذ أن الخطاب الأدبي على خلاف النصوص العلمية أو الاقتصادية والاجتماعية يتأسّس على تخصيب اللغة وتوليدها، ويسلك فيها مجالات دلالية خاصة بها تعتمد على مخزونها الحضاري المرتبط عضويا بخصوصياتها اللفظية وحتى الصوتية.
ولعل الشعر أكثر أجناس الأدب استعصاء على الترجمة. فكيف للخطاب الشعري المنحوت في جسد لغته الأم والذي يقتطع منها ذاته وجمالياته من خلال تكثيف ألفاظها وتوليد مخزونها واستدراج الصور المنبثقة من دلالاتها الخفية، أن يحتمل اقتلاعا مما يكون ذاته الأولى، وكيف له أن يخلق لنفسه وجودا في صلب صرح لغوي هو غريب عنه في نشأته وفي تناوله للعالم ولصوره ومفاهيمه؟
كثيرا ما يلجأ النقاد في مواجهة هذه المعضلة إلى المقولة الإيطالية المأثورة Traduttore, traditore والتي تعني حرفيا «المترجمون الخونة». وإن كانت هذه المقولة ذات وجاهة نسبية إلا أنها في تناولها للمسألة تشوّه عمل المترجم وتكاد تختزله في الخيانة والتحريف، وفي هذا تجنّ على مجال أدبي هو أحد أركان الحضارات الإنسانية عبر العصور، وهو في حد ذاته إبداع لا يقل أهمية أحيانا عن النصوص التي ينقلها إلى لغات أخرى، ويصنع إشعاعها خارج حدود لغتها الأم.
لكن عمل المترجم، حتى وإن كان موفقا، فإنه في كل الحالات لا يخلو من خيانة ما، من شيء من التعسّف على النص الأصلي أحيانا، فحتى تكون الترجمة موفقة فعلا فإنه يتحتم على المترجم ألا يبالغ في احترام النص الأصلي، وفي ذلك قد يتخذ حيزا من الحرية يخوّل له نقل النص في معانيه وجماليته وصوره فيحقق الهدف المنشود وإن انحاز ظرفيا في مسلك التعبير، حيث أنه من خلال ذلك يطوّع اللغة الحاضنة لخدمة النص الأصلي. والخطر هنا هو أن يأخذ المترجم هامشا أوسع مما هو مسموح به في نقل النص من لغة إلى أخرى وأن يتيه به في مسالك الترجمة، فيهدر معانيه وصوره ومفاهيمه الجمالية التي هي روحه الأولى، فيأتي النص إلى اللغة الحاضنة مشوّها مبتورا.
الخطر كل الخطر في مفهوم الخيانة المسموح بها في الترجمة هو أن يطوّع المترجم النص الأصلي في خدمة اللغة الحاضنة عوض العكس، ويبدو لنا أن هذا ما حصل لأدونيس وحورية عبدالواحد في محاولتهما لترجمة مختارات من الشعر العربي القديم إلى اللغة الفرنسية وسوف نشرح هذا بأمثلة مدققة لاحقا في هذا المقال.
قال الشاعر الفرنسي الراحل كلود روا في ما يخص علاقة الإبداع باللغة On peut violer la langue à condition de lui faire de beaux enfants. بمعنى يجوز لنا أن نغتصب اللغة شرط أن ننجب منها أطفالا جميلين.
وإننا نرى أن هذا هو الخط الأحمر في حيز الخيانة المسموح به في الترجمة. وقد عبر بورخس نفسه عن هذا في تعامله مع مترجميه، حيث أنه كان لا يستسيغ كثيرا أولئك الذين كانوا يبالغون في احترام نصوصه، وكان يفضّل مِن بين مترجميه مَن يأخذون حيّزا من الحرية في خدمة النص شرط أن تكون النتيجة موفقة، كما نعتقد أن لا أحد يؤاخذ سكوت فيتزجيرالد في بعض الحريات التي أخذها في ترجمته لأشعار عمر الخيام، وهذا لأنه وفّق في ذلك.
لسوء الحظ لم يكن هذا حال الشاعر السوري أدونيس وشريكته حورية عبدالواحد في ترجمة الشعر العربي والصادر عن دار غاليمار الفرنسية المرموقة بعنوان: (Le Dîwan de la poésie arabe classique Gallimard, 2008) فقد اتخذ المترجمان فعلا حيّزا من الحرية في التعامل مع قصائد فطاحلة الشعر العربي كالمتنبي وامرئ القيس وأبي فراس وغيرهم، فاغتصباها بأشنع الطرق، وكسرا أضلعها قصد تطويعها للغة الفرنسية، وهي على ما يبدو لغة لا يمتلكانها بما فيه الكفاية، فكانت النتيجة أن أنجبا منها أطفالا مشوهين بشعين يقدمون شعر العرب في أسوأ صورة.
في هذا المقال أردنا أن نبدي للقارئ العربي رأينا في محاولة أدونيس وحورية عبدالواحد لنقل نفائس الشعر العربي القديم إلى اللغة الفرنسية. ولكننا إن أردنا أن ندقق بشكل شامل وأن نحصي الأخطاء الواردة في هذا الكتاب، لتطلّب منا الأمر مئات الصفحات، إذ لا يكاد يخلو سطر واحد في هذا الكتاب من الإخلالات الفادحة. فرأينا أنه من الأجدر أن ننتقي من بين الكمّ الهائل لإخفاقات هذه الترجمة عددا من الأمثلة تكون عيّنة لإخفاقات الترجمة على مستويات عدة. وهذا من باب التمثيل لا الحصر.
في بتر الأبيات وتهشيم الصور
يستهلّ المترجمان كتابهما بمعلقة امرئ القيس، فيتجلّى للقارئ منذ السطر الأول منها أن قراءته لهذا الكتاب سوف تكون رحلة عذاب مرير. فمنذ مطلع القصيدة نرى أن المترجمين لا يتواريان عن بتر الأبيات والتغاضي عن ترجمة أجزاء كاملة منها، إذا ما تشعبت الصور واستعصى عليهما نقل معانيها إلى اللغة الحاضنة أي الفرنسية. فيترجمان المطلع القائل:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجتها من جنوب وشمأل
ترى بعر الأرام في عرصاتها وقيعانها كأنها حب فلفل
كأني غداة البين يوم تحملوا لدى سمرات الحي ناقف حنظل
فتأتي الترجمة كالآتي:
Faites halte et pleurons au souvenir d’une bien aimée et d’une demeure
Aux confins d’une dune entre ad-Dakhûl et Hawmal.
Seules traces subsistantes est ce qui fut tissé par le vent du sud et du nord.
Tu vois les crottes de gazelles dans leurs aires et leurs enclos
Comme des grains de piment disséminés.
Et ce fut comme si au matin de notre séparation lorsqu’ils partaient,
Solitaire j’étais près de l’arbuste du quartier à écorcer l’amère coloquinte.
اتخذ المترجمان فعلا حيّزا من الحرية في التعامل مع قصائد فطاحلة الشعر العربي كالمتنبي وامرئ القيس وأبي فراس وغيرهم، فاغتصباها بأشنع الطرق وكسرا أضلعها قصد تطويعها للغة الفرنسية
وفي هذه الترجمة عيوب عديدة. فعلاوة على ضعف الصياغة وركاكة التراكيب المستعملة والتي سوف نتعرض إليها في أمثلة لاحقة، فإننا نستغرب أن يسمح المترجمان لنفسيهما ببتر صدر البيت الثاني بكل بساطة، ومن غير داع لذلك، فيحذفان قول الشاعر “فتوضح فالمقراة” ويمرّان مباشرة إلى المعنى الذي يليه. هنا تجاهل المترجمان تماما الصورة التي يقوم عليها البيت الثاني، وهي وصف العمل المتناقض لرياح الجنوب والشمال. فعندما تأتي رياح الجنوب تغمر بقايا المكان بالرمال، ثم ما إن يتغير اتجاه الريح لتأتي من الشمال فإنها تلغي ما فعلته رياح الجنوب كاشفة الأطلال المغمورة. والغريب في الأمر أن أدونيس وشريكته لم يكلفا نفسيهما عناء نقل هذه الصورة مكتفيان بتعبير فقير وهو tissé par le vent du sud et du nord أي «تنسجه رياح الجنوب والشمال» وهو تعبير فضفاض يدلّ على عجزهما عن نقل صورة متشعبة إلى لغة لا يمتلكانها بما فيه الكفاية، فبقي خطابهما حبيس معجم ضيق ولجآ إلى التعبير “tissé par le vent” ليتخلصا من هذا المأزق.
أما البيت الثالث وهو يقول:
ترى بعر الأرام في عرصاتها وقيعانها كأنها حب فلفل
فمن المضحك أن يترجمها أدونيس بقوله:
Tu vois les crottes de gazelles dans leurs aires et leurs enclos
Comme des grains de piment disséminés.
ومرة أخرى دعونا نتجاهل ركاكة التركيب واستعمال مصطلح Crottes وهو في غاية السوقية، لكننا نصطدم هنا باختياره لمصطلح grains de Piment لترجمة قول الشاعر «حب فلفل» وهذا المصطلح يعني بالفرنسية ثمار الفلفل الأخضر أو الأحمر المعروفة. فهل يجهل أدونيس وعبدالواحد أن هذا النوع من الفلفل أي piment قد تم اكتشافه من طرف كريستوف كولومب في رحلاته إلى أميركا الوسطى في أواخر القرن الخامس عشر أي تسعة قرون بعد امرئ القيس؟
وبالتالي فإنه لا يمكن لامرئ القيس الذي عاش في القرن السادس بجزيرة العرب أن يستعمل صورة تعتمد على ثمرة هو يجهل وجودها أصلا. وكان الأجدر بالمترجم أن يذهب بترجمة «الفلفل» مستعملا مصطلح poivre وهو من البهارات الشرقية التي كان الناس يتاجرون بها زمن الشاعر، وهي معروفة في ذلك الوقت في تلك الجهة من العالم.
أمّا في البيت الرابع فيختار المترجمان لنقل «سمرات الحي» العبارة الفرنسية L’arbuste du quartierوأدنى ما يمكن القول فيها إنها غير موفّقة، وتدل على ضعف فادح في معجم المترجمين، فاستعمال مفردة Quartierفي اللغة الفرنسية مرتبط عضويا بدلالات الأحياء في المدن والحواضر، وكان من الأجدر استعمال مفردة camp وهي أدق وأبلغ في التعبير عن الاستراحات في البادية والصحراء كما هو الحال في سياق هذه القصيدة.
وهنا سوف نكتفي بهذا القدر في نقد الترجمة المقترحة لمعلقة امرئ القيس، لكننا نؤكد للقراء أن المترجمين يواصلان هذه المجزرة على نفس النسق إلى نهاية المعلقة.
والمؤسف في الأمر أن جزءا من معلقة امرئ القيس تمت ترجمته بشكل جيد منذ سنة 1999 على أيدي المستشرق الفرنسي أندريه ميكال والباحث الجزائري حمدان حجاجي، وقد نشرت تلك الترجمة في أنطولوجيا لقصائد الحب عند العرب القدامى ( Les arabes et l’amour Actes Sud – Sindbad 1999) وتم نشر هذه الأنطولوجيا تسع سنوات قبل أن يقترف أدونيس ترجمته المنشورة عن دار غاليمار.
وهنا نتساءل: هل يمكن لأدونيس مثلا وهو الذي تصدى لهكذا ترجمة أن يجهل وجود ترجمة أندريه ميكال؟ يصعب التسليم بذلك، وأغلب الظن أنه أقدم على فعلته متجاهلا ما سبقه من العمل.
وحتى يتمكن القارئ من المقارنة بين الترجمتين فإننا نورد هنا ترجمة ميكال وحجاجي لمطلع معلقة امرئ القيس:
Halte! Pleurons tous trois un souvenir d’amour
Qui vécut là, où meurt en sa courbe le sable,
Entre ad-Dakhûl, Hawmal, Tûdih et Al-Miqrat.
Les vents du nord, du sud sont venus tour à tour
Pour signer de ces lieux la trame ineffaçable.
La gazelle au poil clair a laissé par endroits,
Sur l’enclos plat, comme grains de poivre, ses traces.
Je revois: le matin, le camp levé tout casse
Et moi je reste là, devant la haie d’épines
Où s’abritait le clan, j’égrène l’amertume…
ويمكن هنا لكل قارئ، وإن لم يكن خبيرا في اللغة الفرنسية، أن يلمس الفرق الشاسع بين الترجمتين.
في ركاكة التركيب وضحالة التعبير
لا ينكر أحد أن أدونيس شاعر مبدع في اللغة العربية وهو من أهم الكتاب والمثقفين العرب، ولكن اطّلاعنا على محاولاته لترجمة الشعر العربي إلى اللغة الفرنسية يثبت لنا بكل وضوح أن الرجل يعاني من مستوى هزيل في هذه اللغة، بالرغم من أنه يقيم منذ عشرات السنين بباريس، وهذا ليس عارا في حدّ ذاته ولا يجوز أن يؤاخذ الرجل على ذلك. ولكن السؤال الحارق هو: بما أنه لا يمكن أن يكون جاهلا بضعف مستواه في هذه اللغة، ما الذي دفعه إلى الإقدام على هذه الترجمة المحكوم عليها بالإخفاق منذ بدايتها نظرا لعدم توفّره على الكفاءة اللازمة لذلك؟ هل كان في حاجة إلى هذا المشروع؟ طبعا لا، إذن ما الذي حمله على إنجاز هذا العمل “الفاضح”؟
قد يمتلك أدونيس ما يكفي من معجم اللغة الفرنسية وقواعدها لكي يعيش حياته بشكل عادي بين شوارع باريس كأن يقتني تذكرة للمترو مثلا أو ليطلب قهوة من نادل في مقهى، لكنه ليس مخولا مطلقا -وهذا جليّ- لكي يتجرأ على نقل أيّ عمل أدبي إلى لغة موليير.
وإننا إن كنا نؤاخذه على شيء في هذا المقال، فهو تجرؤه على ترجمة نفائس شعر العرب إلى لغة هو يدرك مدى ضعف إلمامه بها.
والنتيجة هي أنه لا يكاد يوجد سطر واحد من ترجمته بعنوان
Le Dîwân de la poésie arabe classique (Gallimard, 2008) خاليا من التراكيب الهزيلة والتعابير الركيكة، علاوة على فقر فادح في معجم المصطلحات المستعملة في الترجمة.
وبما أن المجال المسموح لنا في مقال واحد لا يسمح أن نعدد الأمثلة، وهي في الحقيقة متوفرة بأعداد هائلة في هذا العمل، فإننا سنكتفي في هذا الباب بتناول بعض ترجمات قصائد أبي فراس الحمداني.
في هذا الكتاب، كثيرا ما يعجز المترجمان على نقل المعاني والحكم والصور إلى اللغة الفرنسية فيلجآن إلى التحريف أو التبسيط أو البتر أو كل هذه الأساليب مجتمعة في آن واحد. وفي الحالات التي يحاولان فيها نقل المعاني بصفة معقولة تخونهما قدراتهما اللغوية المتواضعة وافتقارهما للمصطلحات الفرنسية المقابلة، فتأتي الصيغة الفرنسية أشبه بتمارين إنشائية لتلميذ سيّئ، منها إلى شاعر بقيمة أبي فراس.
فلنأخذ مثلا الأبيات المشهورة التالية:
فلا تصفن الحرب عندي فإنها طعامي منذ بعت الصبا وشرابي
وقد عرفت وقع المسامير مهجتي وشقق عن زرق النصول إهابي
ولججت في حلو الزمان ومرّه وأنفقت من عمري بغير حساب
هذه الأبيات يترجمها أدونيس وعبد الواحد كالآتي:
Ne me dépeins pas la guerre,
Elle est depuis ma tendre enfance boisson et nourriture.
Avec le bruit des clous mon âme s’est familiarisée,
Et ma peau, transpercée par des lances bleues.
J’ai traversé le temps dans son amertume et sa beauté
Et dépensé ma vie sans compter.
وفي هذه الترجمة عيوب كثيرة نورد هنا تفاصيلها:
1 - إن ترجمة الصدر “فإنها طعامي منذ بعت الصبا وشرابي” بـ:
Elle est depuis ma tendre enfance boisson et nourriture وهي ترجمة حرفية ركيكة في الصيغة الفرنسية، وإننا نرى أنه كان من الأجدر إيفاء المعنى المقصود في صيغة أنيقة. كما أن اللغة الفرنسية تمتلك تعبيرا مكرسا يدل على هذا المعنى تحديدا وهو Elle est mon pain quotidienوهو تعبير دقيق ومختصر وتمّ تداوله حتى أنه نجح في المرور إلى لغات أخرى منها العربية، حيث يقال “هي خبزي اليومي “وهذا رأي يمكن مناقشته على أيّ حال.
2 - في ترجمة “وقد عرفت وقع المسامير مهجت” بـ Avec le bruit des clous mon âme s’est familiarisée وفي هذه الترجمة أخطأ المترجمان في اختيار المصطلحات الفرنسية المقابلة أو التي تحافظ على المعنى وروحه، وهذا يدل على فقر معجمهما الفرنسي بشكل لافت.
فمثلا من غير المقبول ترجمة “وقع المسامير” بـ Le bruit des clous لأن مصطلح bruit يعني الصوت وهذا غير دقيق ولا يفي بصورة وقع المسامير كاملة. وحين نرجع للمعاجم العربية نجد أن تعريف “الوقع″ هو “صوت الضرب بالشيء” وهنا نرى أن الاقتصار على الصوت هو معنى مجاور وغير موفق، لأن في معنى الوقع جمع بين الصوت والضرب أي الحركة. وإن المعجم الفرنسي يحتوي على مصطلحات أبلغ وأقرب إلى المعنى الأصلي وهنا نقترح كلمة Enfoncement التي تدل على انغماس المسامير في الخشب حين تطرق ومصطلح Enfoncement يجمع في معناه بين حركة الانغماس وصوت المطرقة فيكون أنسب مما اختاره المترجمان.
أما ترجمة “مهجتي” بـ mon âme فهي خاطئة كليا، ولا تقبل أي تبرير لأن mon âme تعني روحي، بينما مهجتي كان الأجدر ترجمتها بـ mon humeur.
3- أما البيت الثالث فقد ترجم في صيغة ضعيفة وخالية من أدنى حس جمالي، وهي تكاد تكون كتابة تلميذ مبتدئ لا يزال يتعثر في التعبير عن أفكاره.
نذكر منها على الخصوصEt dépensé ma vie sans compter وهو تعبير سخيف وغريب في اللغة الفرنسية.
ونحن نورد في ما يلي ما كان يمكن لهذه الأبيات أن تكون عليه لو ترجمت حسب ما نقترحه:
Ne me dépeins pas la guerre, elle fut
Depuis ma tendre enfance, mon pain quotidien
De l’enfoncement des clous, mon humeur est familière
Et par les lances bleutées ma peau s’est fendue.
Traversant les belles époques et bien d’autres amères
Sans compter, j’ai dilapidé ma vie.
وحتى لا يذهب بقرائنا الظن إلى أننا انتقينا من بين ما ورد في الكتاب فقط تلك المقاطع التي كانت فيها إخفاقات واضحة دون غيرها، وذلك قصد الإساءة للعمل أو للمترجمين، فإننا سوف نتناول قصائد أخرى للاستشهاد بها في تقييمنا لهذا العمل، الذي قدم الشعر العربي للقارئ الفرنسي في صورة غاية في السوء.
وكمثال بارز نتناول هنا إحدى أجمل قصائد أبي فراس وهي التي قال فيها:
أَقولُ وَقَد ناحَت بِقُربي حَمامَةٌ أَيا جارَتا هَل تَشعُرينَ بِحالي
مَعاذَ الهَوى ما ذُقتِ طارِقَةَ النَوى وَلا خَطَرَت مِنكِ الهُمومُ بِبالِ
أَتَحمِلُ مَحزونَ الفُؤادِ قَوادِمٌ عَلى غُصُنٍ نائي المَسافَةِ عالِ
أَيا جارَتا ما أَنصَفَ الدَهرُ بَينَنا تَعالَي أُقاسِمكِ الهُمومَ تَعالَي
تَعالَي تَرَي روحاً لَدَيَّ ضَعيفَةً تَرَدَّدُ في جِسمٍ يُعَذِّبُ بالِ
أَيَضحَكُ مَأسورٌ وَتَبكي طَليقَةٌ وَيَسكُتُ مَحزونٌ وَيَندِبُ سالِ
لَقَد كُنتُ أَولى مِنكِ بِالدَمعِ مُقلَةً وَلَكِنَّ دَمعي في الحَوادِثِ غال
وقد ترجمها أدونيس وشريكته بقولهما:
Tandis qu’une colombe gémissait à mes côtés, je disais :
Ô voisine ! Si tu pouvais comprendre ce que j’éprouve !
Tu n’as point goûté à la frappe de la mort
Ni les peines ont frôlé ton cœur et ton esprit
Ni les peines ont frôlé ton coeur et ton esprit
Des rémiges sur une branche inaccessible
Peuvent-elles porter un cœur affligé ?
Ô voisine ! Le temps n’était guère généreux à notre égard
Viens voir mon âme toute blême
Dans un corps torturé, vieilli.
Le prisonnier peut-il rire alors que libre, la colombe pleure ?
Est-ce que l’homme affligé se tait quand gémit l’homme joyeux ?
Plus que toi, mes yeux sont voués aux pleurs
Mais lorsque les évènements sont funestes, précieuses sont les larmes.
إننا متأكدون أن من بين قرائنا أولئك الذين يجيدون اللغة الفرنسية، يتألّمون مثلما نتألم نحن عند قراءة هذه الترجمة “الكارثية”، ويتأسفون مثلما نتأسف نحن أيضا لحظ أبي فراس التعيس، فبعد محنة الأسر التي كابدها الشاعر في حياته، يبتلى في مماته بترجمة تشوّه صوته وتحبسه إلى الأبد في جحيم من الضحالة.
فليسمح لنا القارئ مرة أخرى بأن نشير مؤكدين على رداءة هذه اللغة وضعف تعبيراتها، ممّا يجعل من العمل المقدم لقراء الفرنسية ترجمة حرفية تشوّه الخطاب الشعري الأصلي، وتصل في بعض الأحيان إلى درجة مضحكة مبكية من الاستهتار، وما يزيد الطين بلّة هو عدد الأخطاء المهول خاصة في ما يتعلق باختيار المصطلحات الفرنسية ونذكر منها:
ترجمة “هل تشعرين بحالي” بقولهما Comprendre ce que j’éprouve وهذا تحريف لأن مصطلح comprendre يعني «تفهمين» ولا يمكن له أن يكون «تشعرين» في أي سياق كان. وهنا كان الأجدر استعمال عبارة ?Ressens-tu وهي تعني بكل دقة «هل تشعرين» كما أن عبارة Ce que j’éprouve تعني «ما أشعر به» أو « ما أحس به» وفي بعض السياقات « ما أضمره» وهي عبارة لا يمكن أن تكون ترجمة لمصطلح «حالي» إذ كان الأجدر استعمال عبارات مثل mon état أو Ce que j’ai أو حتى الذهاب إلى ma peine في معنى «همومي» بما أن المعنى هو الحال المهموم
في ترجمة «ولا خطرت منك الهموم ببال» نحن نتساءل لماذا أقحم المترجمان كلمة ton cœur في هذا البيت ليصبح frôlé ton coeur et ton esprit فيكون معناه «ولا خطرت منك الهموم بقلب وببال»، فما الجدوى من إقحام القلب في هذا المعنى؟
في ترجمة «ما أنصف الدهر بيننا» يرى المترجمان نقل «ما أنصف» إلى عبارة N’était guère généreuxوهذا يعني «لم يكن كريما» أو لم يكرمنا، وهذا خاطئ لأن المعنى هو لم يرفق بنا، وهذا يمكن أن يترجم بـ était injuste avec nous أو Ne nous a pas épargnés.
في البيت التالي، يترجم أدونيس «ضعيفة» بعبارة toute blême وهذا يعني حرفيا «شاحبة تماما» بينما كان يمكنه ترجمة ضعيفة بـ faible أو frêle أو chétive أو délicate أو غيرها من المفردات التي تتوافق مع ضعيفة. ثم ذهب لترجمة كلمة «بال» بـ vieilli وهذا يعني عجوز أو هرم، وهذا غير دقيق لأن «بال» يترجم في الفرنسية بـ abîmé أو chenu
وفي البيت قبل الأخير تتم ترجمة «يندب» بـ gémit وهذا خطأ لأن هذه الكلمة تعني «يئن» في حين أن مصطلح se lamente يعني «يندب».
أما ترجمة البيت الأخير من القصيدة فهي مثال صارخ لافتقاد المترجمين لأبسط الأدوات البلاغية في اللغة الفرنسية. إذ أن من التمارين المدرسية الشائعة التي يتدرب عليها التلاميذ هي كيفية التعبير عن المقادير المتصلة المتناقضة. لذلك فإن ترجمة «لكن دمعي في الحوادث غال» كان يستوجب تركيبا بلاغيا بسيطا وهو عبارة D’autant plus ويبدو أن المترجمين يجهلانه فبقيا يتخبطان في تركيب ركيك في حين كان يكفيهما القول Mes larmes sont d’autant plus précieuses que cruelles les épreuves
وهنا نحن نورد اقتراحنا لترجمة هذه القصيدة على ضوء ما قلناه:
Alors que gémit une colombe à mes côtés
Je dis : voisine ressens-tu ce que j’ai ?
Préservée sois-tu des affres de la mort
Que les peines épargnent tes pensées.
Comment rémiges sur la plus haute branche
Peuvent-elles porter ce cœur affligé ?
Voisine, le temps ne nous a pas épargnés
Viens, que je te partage mes peines, viens
Viens, tu trouveras en moi une âme frêle
Habitant un corps torturé, abîmé
Comment pleure l’affranchie alors que rit l’otage ?
Et se lamente l’insouciante alors que se tait l’affligé ?
Bien plus que toi légitime sont mes larmes
Et d’autant plus précieuses que cruelles les épreuves.
اطلاعنا على محاولاته لترجمة الشعر العربي إلى اللغة الفرنسية يثبت لنا بكل وضوح أن الرجل يعاني من مستوى هزيل في هذه اللغة
في الواقع يمكننا أن نواصل على هذا النحو لمئات الصفحات، إذ لم يسلم شاعر واحد من أذى هذه الترجمة، ويمكننا أن نحيل القارئ على أمثلة عدة مثل قصيدة «طوى الجزيرة حتى جاءني خبر» للمتنبي أو «أراك عصي الدمع» لأبي فراس وغيرهما. فمثلما سبق وقلنا يكاد لا يخلو سطر واحد في هذا الكتاب من الإخلالات المعجمية والتركيبية والبتر والتشويه.
لقد سبق أن وجّهت انتقادات لاذعة لأعمال أدونيس خصوصا في الترجمة ونذكر منها انتقادات كاظم جهاد وعبدالله الجنابي، ولعل أهمها ذلك المقال الشهير للأستاذ علي اللواتي الذي فضح فيه إخفاقات أدونيس في ترجمة شعر سان جون بيرس إلى اللغة العربية.
وفي ذلك المقال ظهر بوضوح ضعف مستوى أدونيس في اللغة الفرنسية وهو ما يفسّر عدم فهمه لمعاني شعر سان جون بيرس مما قاده لنقله إلى العربية في ترجمة سخيفة مضحكة، وقد برّر أدونيس تلك الإخفاقات بقوله إنه حاول نقل روح الخطاب الشعري وجماليته ولم يعر أهمية كبيرة لدقة المفردات
وإن كانت هذه التبريرات غير مقنعة، فإننا نسلّم بحسن نية الرجل في إقدامه على ترجمة بيرس للعربية، وإن كانت فاشلة، ونثمنها باعتبارها محاولة أولى لإدخال شاعر عظيم إلى لغتنا، وقد فتحت تلك المحاولة الطريق لمترجمين أقدر من أدونيس لإفادتنا بترجمات ناجحة لبيرس على غرار ترجمات علي اللواتي أو خالد النجار.
ولكي نكون منصفين وجب علينا أن نعترف بأن شعر سان جون بيرس جاء في لغة فرنسية عميقة وشديدة التكلف مما يجعله غامضا حتى لدى أكثر القراء تمرّسا بمن فيهم الفرنسيون أنفسهم، وفي هذا السياق نذكّر بحادثة طريفة أوردها الكاتب ووزير الثقافة الفرنسي السابق أندريه مالرو إذ يروي أنه حين حاز سان جون بيرس على جائزة نوبل للآداب سنة 1960 دخل مالرو إلى مكتب الجنرال دي غول وهو حينها رئيس للجمهورية الفرنسية، فقال له:
- سيدي الجنرال، إنني أرى أنه وجب علينا إرسال برقية تهنئة إلى شاعرنا الكبير سان جون بيرس بمناسبة حصوله على جائزة نوبل للآداب.
فأجابه دي غول ببرود وقد كان يكره بيرس منذ ثلاثينات القرن العشرين
- ولماذا علينا تهنئته؟
فقال مالرو:
- سيدي، هو شاعر كبير وفخر لفرنسا وقد ترجم شعره للغات عديدة منها الإنكليزية والإسبانية والإيطالية والألمانية والدنماركية..
ومضى هكذا يعدد اللغات التي ترجم إليها سان جون بيرس، فأجابه دي غول في إشارة إلى غموض تلك الكتابة:
- سوف أنتظر أن يترجم إلى الفرنسية.
لعل هذه الحادثة تعطي لأدونيس عذرا في سوء فهمه لشعر بيرس، لكنّ الأمر مختلف في ما يخص الكتاب موضوع هذا المقال، إذ أن أدونيس شاعر مبدع في اللغة العربية وهو خبير لا يشكك أحد في مدى درايته بالشعر العربي قديمه وحديثه. لذلك لا يمكن أن يصدق أحد أنه أساء فهم تلك القصائد التي انتقاها لتكون موجودة في هذه المختارات من الشعر العربي المترجمة إلى الفرنسية، كما أنه لا يمكن أن يجهل أن هذه الترجمة الفرنسية ليست سيئة فحسب بل مسيئة ومذنبة، ورغم ذلك فإنه سمح بنشرها وبوضع اسمه على غلاف الكتاب، وإننا لا نرى إلا تفسيرين ممكنين لهذا وهما:
إما الاستهتار التام وعدم المبالاة بتشويه شعر القدامى، وهذا دليل على عدم احترامه لهم.
أو أنه عمل مضمر ومخطط له لكي يترجم الشعر العربي القديم في أسوأ ما يكون إلى الفرنسية وبالتالي تظهر لدى القارئ الفرنسي حركة الحداثة الشعرية التي يقودها أدونيس ناصعة وأكثر أهمية من الشعر القديم.
وفي الحالتين يكون هذا الكتاب المنشور لدى دار غاليمار الفرنسية جناية بكل المقاييس على مأثور أمّة بأسرها، وعلى ضوئها يتردد في خاطري ما قاله محمد الماغوط في كتابه “سأخون وطني”عن أدونيس ومدى احتقاره للمأثور الكلاسيكي واستهزائه بعدد من الشعراء القدامى.
وإننا لا نرى جدوى في الإطناب في التنديد بهذا العمل أو التشكيك بقيمة أدونيس كمثقف وكأديب، ولكننا نودّ أن يتم استدراك ما حصل وجبر ما يمكن جبره، لذلك فإننا نقترح أن يتم إصدار بيان موجه إلى صاحب دار غاليمار أنطوان غاليمار ويطرح هذا البيان للإمضاء من طرف أكبر عدد ممكن من أدباء وشعراء ونقاد ومثقفين وفنانين عرب يطالبون فيه بسحب كتاب Le Dîwan de la poésie classique arabe (Gallimard, 2008) من السوق، كما يطالب البيان دار غاليمار بفتح نفس السلسلة التي صدر فيها الكتاب المذكور أي سلسلة Poésie Gallimardلكي تنشر فيها أنطولوجيا ثانية لديوان شعر العرب ،وتكون الترجمة على أيدي مترجمين أكفاء منتخبين من طرف الموقعين على البيان، لعل هذا التمشي يقوم بجبر الضرر اللاحق بسمعة الشعر العربي القديم.
وأخيرا أود شخصيا أن أتجه إلى أدونيس بكل احترام وأن أقول له: رجاء… أتوسل إليك… كفّ عن الترجمة.