البطل الحقيقي للرواية
في ندوة قديمة عن علاقة الرواية بالواقع استفاضت الكاتبة الفرنسية ناتالي ساروت في الحديث عن واقع الروائي بحكم تجربتها، فقالت “إنه واقع يختلف عن واقع الناس الذين يدركونه بشكل فوري ومباشر، فالواقع بالنسبة إلى الروائي هو المجهول واللامرئي، هو ما يراه بمفرده”. وأضافت أن الروائي عندما يستعين بواقع عادي تكون مهمته الكشف عن واقع جديد. هذه العلاقة الشائكة بين الروائي وواقعه الذي يستمد منه حكاياته وأبطاله لا تقلل من جديّة العمل الجديد الذي لا ينتسب إلى الماضي سوى بتقاطع الخيوط بين البطلين، بل تكشف عن قدرة الكاتب في تحويل الواقعي/الحقيقي إلى خيالي بإضافة عناصر جديدة ورؤية مغايرة لهذه الوقائع أو الأحداث عن تلك التي كانتها في واقعها.
وبقدر ما اقترنتِ الرواية التي هي شكل تعبيري في الأساس بالتخييل، وهو ما ميزها عن سائر الأجناس القريبة والمتداخلة مع حدودها كالسيرة الذاتية ورواية السيرة والمذكّرات وغيرها، إلّا أن اقترانها بالتخييل لم يمنع من تماسها مع الواقع باستحضار بعض عناصره داخل نسيجها مصبوغًا بالتخييل، وليس مجرد مادة قارة. ومع هذه الجدليّة بين التخييلي والواقعي، إلا أن كثيرًا من القرّاء والنقاد تساءلوا من أين يأتي الروائيون بأبطالهم! الطريف أن الكثير من الروائيين اعترفوا في مذكراتهم وحواراتهم وشهاداتهم عن أصول أعمالهم. وذكر الكثير منهم أن المصادفة هي التي أوقعت هذه الشخصيات في طريقهم، على نحو ما حدث مع دوستويفسكي الذي تصادف وجوده في السجن مع قاتل أبيه الذي استلهم منه حكاية الإخوة كارامازوف، ونفس الشيء حدث مع نجيب محفوظ الذي كان جالسًا على مقهى فاستمع إلى حكاية المعتقلين فكتب رواية “الكرنك”، وغيرها من حكايات لأبطال قادتهم حوادثهم الغريبة لأن يكونوا أبطالاً للروايات.
“من أين يأتي الرّوائي بأبطال روايته؟” سؤال جعله الفرنسي باتريك بينو محورًا لكتابه “أبطال الرواية الحقيقيون: مشهورون مغمورن”، وقد ترجمه إلى العربية قاسم المقداد. حيث انطلق المؤلف باحثًا عبر الوثائق التاريخية عن أولئك المغمورين الذين تقاطعوا مع مخيلة الكاتب وتحوّلوا إلى أبطال رواية معينة، فكشف لنا عن أسماء الأبطال الحقيقيين الذين نسج المؤلفون حول حياتهم حكاية أبطال رواياتهم مثل: جوليان سوريل بطل رواية “الأحمر والأسود”، والسيدة بوفاري بطلة رواية فلوبير وغيرهما من شخصيات حققت نجاحًا وشهرة على مستوى الأعمال الروائية.
القاتل المـُلْهِم
هنا سنتوقف عند بعض الأعمال التي اعتمدت على أبطال وحوادث من الواقع واستفادت منهما في التعبير عن رؤية جديدة لهذا الواقع. من هذه الأعمال في عالمنا العربي روايات متعددة منها على سبيل المثال روايتا “اللص والكلاب والكرنك” لنجيب محفوظ، و”أصوات” لسليمان فياض، ورواية “حكاية تو” لفتحي غانم، التي اختلف النقاد حول الشخصية الرئيسية التي استقى منها حكايته، ورواية “1919” لأحمد مراد، ورواية “نتيروجلسرين” لمصطفى عبيد.
المثال الأبرز لهذه الظاهرة هو رواية “الإخوة كارامازوف” لدوستويفسكي. حيث ثمّة إشارتان لأصل الحكاية الأولى رواها دوستويفسكي نفسه في “مذكرات منزل الأموات” والثانية في مقدمة المترجم للطبعة الإنكليزية حيث يقول “تتصل الجذور الأولى للإخوة كارامازوف بماضي دوستويفسكي؛ فقد قابل عندما كان سجينًا في سيبريا، رجلاً يقضي عشرين سنة من الأشغال الشاقة لقتله أباه، فأمدّه هذا بالفكرة الرئيسية لروايته. أما دوستويفسكي فيحكي في “مذكرات منزل الأموات” عن هذه الواقعة التي كانت سببًا لبناء الرواية كله فيقول “لن أنسى مدى الحياة قصة ابن قتل أباه، وكان قبل ذلك ضابطًا، وكان من النبلاء. لقد كان هذا الابن مصدر شقاء أبيه. كان ابنًا شاذًا ما في ذلك شك؛ وكان الأب يحاول جاهدًا أن يصدّه عن سلوكه السيء بإسداء النصح إليه عسى أن يوقّيه (كذا) من الانزلاق إلى الهاوية التي كان ينحدر إليها، فلم يُجْدِه ذلك شيئًا. وإذ كان الابن مثقلاً بالديون، وكان يتصوّر أن أباه يملك عدا المزرعة، مالاً يُخبئه، فقد قتل أباه بغية أن يؤول إليه الميراث بمزيد من السرعة. ولم تكتشف الجريمة إلا بعد انقضاء أشهر على ارتكابها… لم يعترف الشاب بشيء، ولكنه جرّد من رتبته العسكرية، وانتزعت منه امتيازات النبالة، وأرسل إلى سجن الأشغال الشاقة يقضي فيه عشرين عامًا” (مذكرات منزل الأموات، ص 35، 36). في الحقيقة استفاد دوستويفسكي من كافة العناصر الواردة في حكاية الشاب، والتغيير الذي طرأ على الرّواية يتمثّل في أن إلقاء القبض على القاتل جاء بعد يوم واحد من ارتكاب الجريمة وليس بعد شهر كما حدث في الواقع. التغيير الثاني هو أنه بدّل من شخصية الأب الذي كان في الواقع طيبًا وناصحًا لابنه، إلى هذه الشّخصيّة (فيودور بافلوفتش كارامازوف) المقزّزة والكريهة، وبهذا سَلَبَ إمكانية التعاطف معها رغم بشاعة الجريمة التي ارتكبها الابن.
السّفاح ونجيب
في المدوّنة الروائية العربية استقى الكاتب العالمي نجيب محفوظ الكثير من أبطال رواياته من شخصيات حقيقية، وعلى سبيل المثال بطل رواية “اللّص والكلاب” سعيد مهران، هو استعادة لشخصية السّفاح الشهير محمود أمين سليمان وقصته المثيرة التي احتلت صدارة الصحف لمدة أربعة أشهر، حتى مقتله عام 1960. وبعد عام من مقتل السفّاح كتبَ محفوظ روايته “اللّص والكلاب”. وبدأ في نشر الرواية في الأهرام في 1 أغسطس عام 1961 وصدرت طبعتها الأولى عام 1961، أي بعد عام واحد فقط من قتل أمين سليمان. بطل الرواية سعيد مهران حمَّله نجيب محفوظ أبعادًا فلسفيّة مرّرها بإتقان من خلال عناصر التخييل التي أضفت على الشخصية سماتها وصراعها الدرامي الذي وصل إلى حدّ التعاطف معها.
يكشف نموذج سعيد مهران الباحث عن الخلاص الفرديّ، بكل أزماته وإحباطاته، فداحة الواقع الذي تفسخت قيمه، حيث علت الفرديّة والانتهازية كما في شخصية رؤوف علوان. ومن جانب آخر كشفت عن عَوار تطبيق مبادئ ثورة 1952 وعلى الأخص الاشتراكية والعدالة، فسعيد مهران منذ نشأته هو ممثّل لهذه الطبقة المطحونة التي تآكلت بفعل الطبقة الإقطاعية، وقد اضطرته الظروف إلى السّرقة، التي زيَّنها له رؤوف علوان باعتبارها فعلاً بطوليًّا ما دامت من فيلات الأغنياء.
كما كان ثمّة انتقادٌ لجماعة التصوف التي انتشرت بعد الثورة، ومن ثمّ ضمّن محفوظ هذه العمل رؤيته للواقع الجديد الذي حلّ، وتلك المتغيرات التي كانت تدعو إلى الاستكانة والسلبيّة، ومن ثم انتقادها ورفضها. كما وجدها محفوظ فرصة لأن يُعبِّر عن مخاوفه الشّديدة لانحرافات الثورة في أكثر من عمل، وقد أدان من قبل بالفعل الخروج عن المسار الديمقراطي في قصة قصيرة بعنوان “الخوف” نُشرت في مجموعة “بيت سيّئ السمعة” سنة1965. ثم بصورة حادة في رواية “الكرنك” التي كتبها بعد الهزيمة عام 1967 وتحديدًا في 1971 ونشرها في 1974.
كانت الرواية تجسيدًا للقهر السياسي الذي قابل الهزيمة، فبدلاً من الانتصار على الخارج كان الاتجاه لقهر الداخل… ولم يكن بطلها خياليًّا بل من الواقع، هو واحد ممن تعرضوا للتعذيب، فكما يقول محفوظ عن فكرة رواية “الكرنك“: “فقد وردت إلى ذهني وأنا أستمع إلى أصدقاء مقهى ريش وهم يقصّون على ما لاقوه من صنوف التعذيب أثناء فترة اعتقالهم. قلت لنفسي: لماذا لا أسجّل هذه الأحداث في عمل روائي لألفت الأنظار لهذه القضية؟ واختمرت فكرة الرواية في رأسي بعد أن قابلت اللواء حمزة البسيوني الذي كان مديرًا للسجن الحربي. فذات يوم ذهبت إلى مقهى عرابي بصحبة جمال الغيطاني، وأثناء دخولنا صافح الغيطاني شخصًا كان يلعب الطاولة مع صديق له على منضدة مجاورة لنا. وأخبرني الغيطاني أن هذا الرّجل هو حمزة البسيوني الذي كان مديرًا للسجن الحربي”.
يُكمل محفوظ حكايته “جلستُ أتأمّل في ملامحه التي لا تظهرُ عليها علامات الخشونة والجفاء بما يتفق مع ما كان مشهورًا عنه من غلظة في التعامُّل… كان وقتذاك قد خرج من الخدمة ويحاول الرجوع إليها”. تمّ القبض على حمزة البسيوني عقب نكسة 1967 بتهمّة تعذيب السُّجناء وقضى عقوبة السجن لعامين قبل أن يتعرض لحادث سيارة ويتوفّى عام 1971″. (رجاء النقاش: صفحات من مذكرات نجيب محفوظ، ص261).
سؤال جعله الفرنسي باتريك بينو محورا لكتابه "أبطال الرواية الحقيقيون: مشهورون مغمورون"، وقد ترجمه إلى العربية قاسم المقداد حيث انطلق المؤلف باحثا عبر الوثائق التاريخية عن أولئك المغمورين الذين تقاطعوا مع مخيلة الكاتب وتحولوا إلى أبطال رواية معينة
في حوار للكاتب المصري سعيد الكفراوي مع جريدة الشرق الأوسط السعودية نُشر في 25 فبراير 2004، حكى كيف تعرَّف على نجيب محفوظ، وبالمثل نشرت مجلة الشباب في عدد 480 تحقيقًا لوليد فاروق محمد بعنوان “البطل الحقيقي لقصة فيلم الكرنك يظهر بعد 46 عامًا ليروي أسرار حياته”، وقد أعيد نشره على موقع بوابة الشباب بتاريخ 18 يوليو 2016. الحوار والتحقيق يؤكّدان رواية محفوظ السابقة عن مصدر حكايته. وحكي الكفراوي في الحوار أن قصته القصيرة “المهرة” التي نشرها في مجلة “سنابل” التي كان يشرف على تحريرها الشاعر محمد عفيفي مطر، تسبّبت في اعتقاله، وأيضًا كانت السبب ليصير بطل رواية “الكرنك” لنجيب محفوظ.
في رواية “أصوات” للكاتب سليمان فياض التي صدرت طبعتها الأولى في بغداد عام 1972، (وإن كان نشرها سهيل إدريس في مجلة الآداب كاملة في عشرين صفحة، قبل نشرها في بغداد عن طريق الدكتور صبري حافظ) وكانت واحدة من الروايات التي تُعالج صراع الشرق والغرب، حيث انتقل موطن الصدام إلى الشرق عندما عاد حامد البحيري بزوجته سيمون الفرنسية إلى قريته، وما تعرضت له من ختان أَوْدَى بحياتها. وهو ما كشف عن تعرية رُوح الجاهلية التي كانت تحكم الريف المصري آنذاك (وما زالت مع الأسف).
الرواية في أصلها كما يكشف فيّاض في شهادة له نشرتها مجلة فصول في عدد خصوصية الرواية عام 1997، تعود قصّتها إلى عام 1958 حيث ذَهَبَ سليمان فيّاض إلى زيارة إحدى مدن الدلتا، وعلى الأخصّ قرية الشّعراء للقاء صديق هناك، وأثناء تواجده استمع لحكاية حدثت عام 1948 عن ابن مِن أبناء هذه القرية وفد من الخارج مع زوجته الأجنبية، وقامت نساء القرية بإجراء عملية ختان مريعة لها، بقدر الاندهاش الذي أبداه سليمان فيّاض للحكاية، إلا أنّه فسّر الواقعة بأنها نوعٌ من الحدّ الذي قامتْ نساء القرية بتطبيقه ضدّ ما حدث لهنّ من اقتطاع لجزء من جسدهن ومصادرة حقهنّ في الحرية، ليكتبها لاحقًا في رواية كاملة.
فعندما أرسله يوسف السِّباعي في عام 1970 مع وفد مصري إلى ألمانيا، هناك بدأت الخيوط الأولى لهذه الحكاية التي سمعها سابقًا. ومع مرور نصف قرن على هذه الحادثة إلّا أنّ فياضًا يقول “لم يحن الوقت بعد، لأكشف عن شخصية هذه السيدة، وجنسيتها الحقيقية، واسمها الحقيقي، والأسماء الحقيقية لشخصيات هذه القصة التي صارت برغمي أمثولة بين قصصي”(مجلة فصول: قصة القصة، ص259، عدد خصوصية الرواية، 1997). الفكرة الأساسية للرواية كانت عن حادثة الختان التي أصابت سليمان فياض بالدهشة، إلا أن النقاد باستثناء علي الراعي لم يلتفتوا لجوهر الحكاية، وتعلّقوا بما حولها وهو قصة لقاء الحضارات.
كتابة سليمان كانت إدانة كاملة لعادة الختان، ولم يكن مهتمًا بإبراز الصدام بين الحضارات الذي انشغل به نقاد الرواية، ففرّغوا الرواية من مضمونها الحقيقي الذي كان يقصده فياض. وقد جاء حضور الشخصية كأجنبية امتثالاً لماهيتها في الواقع. وهو ما أوقع الرواية في مآزق عديدة على نحو ما حدث معها عند الترجمة، فقد اتخذها الغرب نموذجًا لإظهار بشاعة الدين الإسلامي، حيث ربطوا بين الختان والدين الإسلامي، كما يقول فياض، وأيضًا أعرض عنها المنتجون الذين رغبوا في تحويلها إلى عمل سينمائي، بسبب حساسية الشخصية، فطالبوا فياض بأن يجعلها ريفية إلا أنه رفض.
حكاية تو
صدرت رواية “حكاية تو” لفتحي غانم عام 1987 في سلسلة روايات الهلال، وهي رواية قصيرة نسبيا مقارنة بروايات فتحي غانم كـ”زينب والعرش” و”الأفيال” أو حتى “الجبل” التي وقعت أحداثها في الصعيد. يبلغ عدد صفحات رواية “حكاية تو” الـ120 من القطع المتوسط. الرواية في أصلها تبرز هيمنة الدولة البوليسية التي سادت بعد 1952، بحجّة الحفاظ على الديمقراطية، وهو المعنى الذي أشار إليه نجيب محفوظ في رواية “اللص والكلاب” بأن الثورة حادت عن أهدافها الأساسية.
ثمة انقسام حول شخصية والد تو في الرواية، هناك أغلبية تقول إنها تعود إلى شخصية “شهدي عطية الشافعي” الذي قُتل تحت التعذيب في سجن أبو زعبل في 15 يونيو 1960. وهذا ما جاء في مقالة الأستاذ شعبان يوسف المنشورة في موقع بتانة https://battana.org/news-details.aspx?Q، وبهاء طاهر وفاروق عبدالقادر، كما سيأتي.
يرجع معظم من نسبوا الشخصية إلى شهدي عطية، لأن إسماعيل المهدوي، لم يمت في التعذيب، وهو ما يتنافى مع تعذيب والد تو على يد اللواء زهدي بك. يرى فاروق عبدالقادر “أن مَن يراجع تفاصيل روايات رفاق شهدي الذين شهدوا تعذيبه وموته، وبينهم عدد من الصحفيين والكتاب، وأستاذة الجامعة، ير أن تلك الخبرة لم تكن بعيدة عن فتحي غانم، وهو يصوغ المشهد الرئيسي في حكاية تو”. ويستكمل أن “الرجل الذي لا يعطيه اسمًا يكاد يكتسب ملامح شهدي من حيث تميزه في الجسد والمكانة بين رفاقه، ومن حيث مهنته ومن حيث ترتيبات الحفلة التي قتل في نهايتها. ومن حيث النتائج التي ترتبت على مصرعه حتى الضابط الذي أشرف على ترتيب تلك الحفلة احتفظ له الكاتب بملامحه الجسدية-النفسية”.
في المدونة الروائية العربية استقى الكاتب العالمي نجيب محفوظ الكثير من أبطال رواياته من شخصيات حقيقية، وعلى سبيل المثال بطل رواية "اللص والكلاب" سعيد مهران، هو استعادة لشخصية السفاح الشهير محمود امين سليمان وقصته المثيرة
ينضم بهاء طاهر إلى القائلين بأن الشخصية تعود إلى شهدي عطية، ففي مقالة له بعنوان “فتحي غانم: الحياة في الرواية” نُشرت في مجلة “إبداع″ (أبريل 1999)، أشار إلى أن الرواية تحكي عن حدث معروف، وأشار إلي قضية مقتل شهدي عطية. هذا الاختلاف وارد. ولكن لا ننسى أن فتحي غانم روائي، ومن ثم أخذ من الشخصيات المرجعية، والحادثة التي جرت، وخلق منهما رواية وشخصية روائية تمزج بين المأساتين إن صح التعبير.
أهم ما يميز رواية فتحي غانم، على اختلاف الاسم المرجعي للشخصية الرئيسية، أنها إحدى النصوص التي تعرّي الدولة البوليسية وأجهزتها الأيديولوجية. وكذلك قدرة الرواية على تجسيد هذا التصالح الذي عاش به الجلادون بعد انقضاء عملهم. ورغبتهم في التطهر مما فعلوه.
بعبع الإنكليز
دارت رواية “1919” لأحمد مراد عن ثورة 1919. تناولت الرواية التاريخ المنسي لثورة 19، فلم تتحدث عن قادة الثورة المشهورين وإن كانت لم تغفلهم بقدر ما تحدثت عن وقود الثورات. فقدّم عبر محكيتها شخصية حقيقية اسمها أحمد عبدالحي كيرة، طالب الطب الذي ترك مستقبله من أجل الانتقام لمقتل والده على يد الإنكليز. شخصية أحمد عبدالحي كيرة شخصية حقيقة، كتبت عنه جريدة الوفد بتاريخ 17 أغسطس، هكذا «فدائي عظيم من الجهاز السّري للثَّورة»، و«بطل منسي تعاون مع حزب الوفد للقيام بعمليات اغتيال تستهدف ضباط الجيش البريطاني».
كما وُصف في كتب المؤرخين بأنه «يُجِيد التنكُّر والتخفّي والتحدُّث بلغات مُخْتَلِفَة يوما ما تجده نجّارًا، ويومًا آخر شيخًا مُعمّمًا، وتارة جنديًّا بريطانيا ومرّة أخرى فلاحًا بسيطًا، وعندما اكتشف أمره في اعترافات قتلة السير لي ستاك عام 1924 بدأت المخابرات البريطانية ملاحقته وأصبح واحدًا من أهم المطلوبين لديها، حتى أنها أصدرت منشورًا لجميع مكاتبها في العالم تقول فيه «اقبضوا عليه حيًّا أو ميتًا، اسمه أحمد عبدالحي كيرة، كيميائي كان طالبًا في مدرسة الطب، خطير في الاغتيالات السياسية، قمحي، قصير القامة وذو شارب خفيف وعمره 28 عامًا» وتنقل «كيرة» من مخبأ إلى آخر وعرف متعة العيش في خطر كما يقول نيتشه.
بعد مقتل «السير لي ستاك» تم تهريبه إلى ليبيا ومنها إلى إسطنبول وهناك التقاه الأديب يحيى حقي عام 1930 في إسطنبول، أثناء عمله كموظف في القُنصلية المصرية في إسطنبول وكتب عنه تحت عنوان في كتاب «ناس في الظل» واصفًا إياه بأنه «بعبع الإنكليز يبحثون عنه بعد أن فتلوا له حبل المشنقة، كنت لا ألقاه إلّا صدفة وألحّ عليه أن نأكل معًا فيعتذر قائلا: قريبًا إن شاء الله، وظلّ هذا حالي معه أربع سنوات كلما أدعوه يعتذر بأدب، وقد رأيت فيه المثل الفذّ للرّجل الشّريد، كانت ملابسه تدل على مقاومة عنيدة للفاقة وغلبت صفرته التحتانية على لونه الأصفر، يمشي على عجل ويحذر كأنه يحاول أن يفلت من جاسوس يتبعه، ويخلو كلامه من أيّ عاطفة، فلا تدري إن كان متعبًا أم غير متعب… جيبه نظيف أم دافئ، معدته خاوية أم عامرة؟”.
ويستمر حقي قائلاً «حاولت أن أعرف أين يسكن فلم أنجح وقيل لي إنه يسكن في ثلاث شقق كل منها في حي بعيد عن الآخر ولا ينام في فراش واحد ليلتين، إنه يعلم أن المخابرات البريطانية لن تكف عن طلبه حتى لو فرّ إلى أقصى الأرض، إنها لا تنسى ثأرها البائت”. بعد سنوات من التشرد والنسيان يوجد جسد أحمد كيره مقتولاً أسفل سور مدينة إسطنبول القديمة، وبالطبع القاتل كان معروفًا حيث أرسلت المخابرات الإنكليزية ثلاثة من عملائها في مصر بعد توقيع اتفاقية 1936 وهم جريفز، ماركو، إسكندر بورجوزافو، وبالفعل استدرجوا كيره وقتلوه وعبّروا عن هذا الإنجاز بعد عودتهم إلى مصر بقوله “لقد ثأرنا لأرواح جنودنا التي أُزهقت في مصر… لقد أدينا الواجب”، أما جثمان البطل فقد ظل في العراء نهبا للبوم والغربان حتى كشف عنه البوليس التركي. الرواية لم تقف عند شخصية الثائر فقط بل قدمت جزءًا من حياته وولعه بالفنون والمسرح والطرب، وعلاقاته بمطربي هذا العصر، والأهم تعرض لعلاقة حب بين كيره والملكة نازلي قبل زواجها. لم يقدم أحمد مراد شخصية أحمد كيرة فقط كواحد من الثوّار المنسيين بل قدَّم العديد من الشخصيات التي لعبت أدوارًا مهمّة للثورة التي احتلّ صدارتها مَن قامروا بالبلاد على موائد القمار أو موائد المفاوضات، فلا فرق بينهما… فدائمًا هناك أبطال منسيون، وثوار تأكلهم الثورة ولا عزاء للشرفاء!
الوطني الإرهابي
كانت شخصية حسين توفيق الذي اغتال وزير المالية في حكومة الوفد أمين عثمان عام 1944 مادة خاما لروايتي إحسان عبدالقدوس “في بيتنا رجل” التي صدرت عام 1957، ورواية مصطفى عبيد “نيتروجلسرين” 2018. حكاية حسين توفيق تناولتها الصحف وكتابات تاريخية أثناء التأريخ لهذه الفترة، خاصة ما تتمتّع به شخصيته من ثراء على مستوى الأفعال التي قام بها، وكذلك على مستوى تعدد عوالمها فقد جمعت الشخصية بين المغامرة والإثارة والتشويق. يعود نشاط توفيق إلى عام 1942 عندما كوّن مع أشقائه وأبناء خالته جمعية سرية وطنيّة الغرض منها تطهير مصر من الاحتلال والخونة، وبدأت مهامهم من حرق معسكرات الإنكليز وقتلهم في حي المعادي.
وقد ساهم الكاتب إحسان عبدالقدوس في إخفاء القاتل من أعين البوليس السياسي لمدة ثلاثة أيام في منزله في غرفته نومه الخاصة، ولكن في اليوم الرابع يكتشفه أحد الخدم، ويتم تهريبه ببدلة رجال البوليس إلى بيت آخر، ومنه هرب إلى سوريا بمساعدة جماعة الإخوان المسلمين؛ لينضم هناك إلى حركة «القوميين العرب»، وفيها حاول اغتيال نائب رئيس الأركان العقيد أديب الشيشكلي عام 1950. هذه الحكاية الأصلية هي التي استفاد منها إحسان عبدالقدوس وإن كان غيّر النهاية التي انتهى إليها بطله إبراهيم حمدي، بل نسج له حياة بطولية منذ أن كان طالبًا يُشارك في المظاهرات ويخطط لها. كما أنه فدائي يسعى لإنقاذ أصدقائه من القتل.
مع استشهاد صديقه محمود في إحدى المظاهرات يبدأ طورٌ جديدٌ في حياته، فيقرر الانتقام باغتيال رئيس الوزراء لأنه خائن وعميل، وعندما يتمّ القبض عليه يتمّ تعذيبه ونقله إلى المستشفى، وفي المستشفى يتعاطف معه الممرض فيهربه، ويختفي عند صديقه محي زاهر. يقدّم إحسان عبدالقدوس الرواية في حبكة بوليسية حيث يجعل من عبدالحميد زاهر ابن عم محيي يتردد على البيت ويكتشف وجود إبراهيم. ثمّة تغييرات بين الحكاية الأصلية لشخصية حسين توفيق، والشخصية الروائية إبراهيم حمدي، لا تتوقف عند زمن الرواية المحدود والذي لا يتجاوز أيامًا معدودة، أو حتى في خيط الحب الذي سرّبه الروائي داخل الحكاية، أو حتى في النهاية التي انتهت إليها الرواية خلافًا للواقع. لكن المشترك أن الروائي استطاع أن ينسج من شخصية واقعية مرويّته.
يتخذ الكاتب مصطفى عبيد من شخصية “حسين توفيق” التي سبق وأن تناولها إحسان عبدالقدوس “في بيتنا رجل” محورًا رئيسيًا لروايته “نيتروجلسرين” 2018، وإن كانت جاءت في إطار سيرة غيرية لحسين توفيق، على نحو ما سجّل المؤلف في نهاية الرواية حيث قال “استمدّت الرواية من وقائع حقيقية، لذا فإن معظم أبطالها حقيقيون، واستندت الرواية إلى عدة مصادر” وعدّد الكثير من المصادر . ومع الاتفاق في التناول إلا أن ثمّة تباينًا في تعامل الكاتبين مع الشخصية المرجعية. فهي في نظر إحسان عبدالقدوس تعدُّ نموذجًا للبطل الفدائي أما عند مصطفى عبيد فهي تدخل في إطار الشخصيات المجرمة فيصفه بأنه قاتل وإرهابي. الاختلاف الجوهري أن إحسان عبدالقدوس استقطع جُزْءًا من حياة الشخصية، وهو لحظة هروبه واختفائه في منزل صديقه محيى زاهر، وانتهاء بالنهاية الدراميّة التي صنعها له وفقًا لخياله الروائي، أما عبيد فيجعل للشخصية عائلة وأجواء كاشفة لحالة العنف التي ترسّبت في ذاته، ثم يتابع تطورات الشخصية وتنقلاتها والمآلات التي انتهت إليها، وليس هو فقط بل كل أصدقائه الذين اشتركوا معه في عملية قتل أمين عثمان.
يقول محفوظ عن فكرة رواية "الكرنك": "فقد وردت إلى ذهني وأنا أستمع إلى أصدقاء مقهى ريش وهو يقصون عليّ ما لاقوه من صنوف التعذيب أثناء فترة اعتقالهم. قلت لنفسي: لماذا أسجّل هذه الأحداث في عمل روائي لألفت الأنظار لهذه القضية؟ واختمرت فكرة الرواية في رأسي بعد أن قابلت اللواء حمزة البسيوني
منذ بداية الرواية ومصطفى عبيد يُهيئ القارئ إلى أنه أمام شخصية إرهابية متمردة متشبعة بأفكار نيتشه عن كسر المعقول ومخالفة الواقع، عبر وسائل عدة لا تقف عند العنوان الفرعي، أو الاستهلال (مقتطف من عماد أبوصالح)، أو حتى المقدمة التي بمثابة إضاءة للنص، بل هي كاشفة لقصة الرواية التي هي عبارة عن مذكرات تركها القاتل وعثر عليها أحد الأشخاص. فيأتي العنوان الفرعي هكذا “أن تقتل لتقتل”، ثمّ يستهل النص بمقتطف من عماد أبوصالح يأتي فيه “لا أحلم أن يتوقف الناس عن متعة القتل. إن هذا مستحيل. كل حلمي أن يظل القاتل قاتلاً والقتيل قتيلاً، دون أن تختلط عليّ اليد التي غرست السكين والقلب الذي تلقى الطعنات… إلخ”. ثم تأتي المفاجأة بالخطاب المدمج بالنص وهو يكشف فحوى الرّواية نفسها التي تأتي وكأنها رغبة من الكاتب في تصحيح التاريخ وفقًا لأيديولوجيته المعارضة للشخصية، والمتسربة في النص بدءًا من العنوان الفرعي، أو ذلك الخطاب الذي أرسله الدكتور للمؤلف يفيده فيه بعثوره على الدفتر المجلد والمعنون بكلمة “حياتي”.
وقد كانت الأوراق وفق شهادة الدكتور “حكايات عن عمليات اغتيال وقتل ومتفجرات ومحاكمات فلسفية لبعض المشاهير وتوصيف لكل مستهدف بكلمة خائن” ومن ثم يجزم بأن هذه المذكرات تخص “قاتلاً سريا محترفًا” بل ويعرّج إلى قصة إحسان عبدالقدوس قائلاً “وربما هو الذي أوحي للكاتب الراحل إحسان عبدالقدوس بكتابة روايته الشهيرة”. من الفصل الأول المعنون بـ“القاهرة” والراوي الغائب يضع بطله في دائرة إجرامية، حيث ينسب الأب توفيق بك أحمد إلى الخلية التي قادها إبراهيم الورداني الذي قام باغتيال بطرس باشا لينفذ فيه حكم إعدام الشعب.
الصُّورة المثالية التي رسمها إحسان عبدالقدوس لحسين توفيق عبر شخصية إبراهيم حمدي الروائيّة يسعى مصطفى عبيد إلى تقديمها في إطارها التاريخي أو السيري وفقًا لما وصل إلى يديه من مذكّرات، فينحاز لكونه إرهابيًّا، ومن ثمّ يدلّل على هذا الانحياز فيجعله يميل إلى العزلة وكثرة الحزن، وهو ما انتهى به إلى العنف والتحريض عليه منذ نشأته، فيكفي موقفه مع أخيه سعيد وتحريضه له بأنْ يُلقي بالقط من السُّور، والأخ خائف، فيصيح فيه “اقتل خوفك” بل لا يكتفي بالتحريض وإنما يُقدِّم مسوّغ القتل “ليس لها فائدة. لو قتلتها سيكون لها فائدة لأنها ستعلمّك ألاّ تخاف” (ص، 22).
ومرة ثانية يكشف عن حالة التزمت التي يعيشها، وهي حالة مُبكرة جدًّا حيث يرفض أن يُكلّم البنات، ويزداد الأمر سوءًا في رفضه تقبيل إحدى صديقات أمه، وعندما احتضنته “غضب بشدة وجرى مسرعًا وهو يمسح خديه أمام السيدة وكأنها تحرّشت به”. العنف الذي كان مسيطرًا على شخصية حسين حوّله إلى انتقام ضدّ جنود الاحتلال، فكان يحرق سياراتهم، وهو ما أصابهم بالفزع. ومن ثم يرسم الراوي مسار التحولات في شخصية بطله من فدائي وطني يُقاوم الإنكليز إلى قاتل يصبح مشهد “خروج الروح عنوة ألذّ من القُبلات”.
كما يجد مبررات لما يفعله ففي نظره «السّاسة مخادعون» (ص، 188)، وأنهم «كلهم كاذبون محتالون ويتاجرون بكل شيء الدين والأخلاق ومصلحة الوطن”. (ص، 156)، وهذه الصورة تكون نقيضًا لرؤية بطل إحسان (إبراهيم حمدي) فكما يقول “إن رجال البوليس شرفاء، إنهم أداة لتنفيذ سياسة لا ذنب لهم فيها ولكن هؤلاء العملاء الخونة إنّ عليهم الذنب كله.” (في بيتنا رجل: ص، 22)، بل يؤكد على نبل قضيته فعندما طارده البوليس المصري بعد أن فجر المعسكر، أخذ يصيح ابتعدوا عني .. لقد فعلت كل هذا من أجلكم من أجل مصر، لقد أثرت الرعب في قلوب أعدائكم.. سيرحلون عنكم… ستثورون كلكم مثلي لتطردوهم …” (في بيتنا رجل: ص،386). ومرة أخرى بعدما اشتدّ الخناق عليه وكانت أمامه فرصة قتل الضابط يقول “إنه لا يستطيع أن يقتل مصريًّا لا ذنب له، إنهم يؤدون ما يخيّل إليهم أنه واجب…”.
تعامل نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس وسليمان فياض وفتحي غانم مع شخصياتهم الواقعية على أنها شخصيات روائية، فمنحوها أبعادًا جديدة مفارقة لواقعها. وهو نفس ما فعله دوستويفسكي مع شخصيته التي التقاها في السجن، فصاغ رواية متكاملة عن هذه الشخصية بإضافة الكثير من العناصر وأيضًا بتغيير بعض ملامحها وإن كان قد احتفظ بروحها الأصلية. أما مصطفى عبيد فلم يضف للشخصية الواقعية أيّ بُعد جديد، بل على العكس نقلها من الواقع كما هي ومن ثمّ نحا بالرواية منحى الرواية التسجيلية التاريخية التي تتابع تطوّر البطل ومسيرته في ظل سياق سياسي محتدم وَسَوْرة غضب تعترم نفوس الوطنيين.